كانت فرنسا تحبس أنفاسها، وكان العالم مشدوها وهو يتابع تفاصيل المأساة الباريسية، عمّ الفزع عاصمة الأنوار، وتحوّل جمالها الأخاذ إلى لوحة تراجيدية شاحبة، في شوارع المدينة الغرّاء هرول الناس على غير هدى، وخيّم الخوف على المكان، فجأة أصبحت المدينة العامرة بالحياة والمفعمة بالحركة مقفرة، وانتشرت قوات الشرطة، ودوّت صفارات الإنذار، وتوافدت سيارات الإسعاف من كل حدب وصوب…
تناثرت جثث القتلى وأجساد الجرحى يمينا وشمالا، في مسرح "باتكلان" كما في محيط ملعب فرنسا، وكذا أمام مطاعم ومقاه مختلفة بالدائرة العاشرة والدائرة الحادية عشرة، وفي خضمّ المشهد الدموي الفاجع بدا المواطنون العزّل بلا حارس وبلا رقيب، وبدا المعتدون بلا رادع وبلا حسيب.. كان أداء الشرطة مرتبكا، ولم يواكب مستجدات الكارثة المفاجئة بالسرعة المطلوبة، فقتل المهاجمون ضحاياهم بدم بارد. ودفع هول الهجمات الدامية النكراء الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند إلى إعلان الطوارئ والأمر بغلق الحدود، والقول إن فرنسا في حالة حرب ضدّ الإرهاب، داعيا المواطنين إلى الاتحاد صفاً واحداً في مواجهة الخطر الإرهابي الداهم.
والناظر في تفاصيل الحدث يتبيّن أنّه يحمل طيّه عدّة خلفيات ودلالات لعلّ أهمّها أنّ العمليات الإرهابية دبرت على نحو دقيق، ووفق تخطيط مسبق تبدو عليه بصمات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) واضحة. فاختيار الزمان لم يكن أمراً عبثياً. بل كان دقيقاً إلى حد كبير، فتزامنت الهجمات القاتلة مع عطلة نهاية الأسبوع التي تعرف بتوافد الناس على الساحات العامة وعلى أماكن الترفيه بكثافة. واختيار المكان لم يكن اعتباطياً فباريس ذات قيمة رمزية وحضارية، فهي درة فرنسا وجوهرة جمالها وقوام إشعاعها، وفي ضربها ضرب لقيم الحداثة والحرية والتنوير. واستهداف أماكن ترفيهية شعبية (ملعب كرة قدم، مطعم، مسرح) في وقت واحد كان المراد به سفك أكبر قدر من الدماء وإرباك الأمنيين الذين وجدوا أنفسهم مشتتين بين بؤر توتر متعددة في لحظة كارثية واحدة، وهذه الدقة في التخطيط والتنفيذ والاستهداف من العلامات الواسمة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي يعتبر أنصاره الغرب صليبيا ودار حرب ومجتمع كفر يتعين مفاصلته، ومجاهدته، وإمعان القتل فيه بدعوى أنه عدو الإسلام والمسلمين.
ويمكن تفسير الحدث في مستوى خلفياته وفي مستوى سياقه التاريخي/ الجيوسياسي الآني بعدة معطيات، لعل أهمها استحكام العداء بين فرنسا وتنظيم الدولة الإسلامية في بؤر توتر مختلفة في مقدمتها سوريا والعراق، فإعلان باريس سابقاً اعتزامها توجيه حاملة الطائرات "شارل ديغول" نحو المنطقة، وقيامها بتوجيه ضربات مباشرة لمعاقل التنظيم أورث حالة من الغيظ في صفوف" الجهاديين" الراديكاليين في سوريا، وجعلهم يضعون استهداف المصالح الفرنسية في قائمة أولوياتهم.
يضاف إلى ذلك أن هجمات باريس تأتي بعد أيام معدودة من إعلان السلطات الأمنية الفرنسية القبض على خلية إرهابية كانت تنوي الاعتداء على قاعدة بحرية فرنسية في مدينة تولون، كما أن هجمات باريس تتزامن مع قمة فيينا التي التقى المشاركون فيها للبحث عن حل سياسي للأزمة السورية، واجتمعوا على اعتبار داعش العدو الأول الذي يتعين القضاء عليه لبناء سوريا الجديدة، ومعلوم أن فرنسا تحتل المرتبة الأولى في الدول الأوروبية التي التحق عدد من مواطنيها بصفوف داعش، وهي من أكثر الدول حماسة لمواجهة داعش لذلك فالمرجّح أنّ التنظيم استهدف باريس عقاباً لها لسياستها الخارجية من ناحية، ولتوجيه رسالة إلى البلدان المشاركة في التحالف الدولي ضدّ الإرهاب من ناحية أخرى مفادها أن داعش قادرة على نقل الحرب إلى تلك الأقطار ما دامت مستمرّة في تعقّب داعش ومحاصرتها.
والظاهر أن تراجع تنظيم الدولة الإسلامية بشكل لافت للنظر في سوريا والعراق، وتقلص امتداده الجغرافي وفقدانه مواقع نفوذ استراتيجية في سنجار، كما في تخوم حلب والرمادي قد دفعه إلى استدعاء خلاياه النائمة، وتفعيل دورها الهجومي ليثأر لنفسه من خصومه من ناحية، وليبرز في موقع القوة القاهرة التي تضرب أينما تريد، ووقتما تريد، وكيفما تريد، ففي ظرف أيّام معدودة تبنّى التنظيم إسقاط طائرة روسية في سيناء، وقام بتفجيرات في برج البراجنة، واستهدف معسكرا للتدريب بالأردن، ونوّع من عملياته الإرهابية القاتلة في قلب باريس، ومراد التنظيم من ذلك القول إن داعش باقية وتتمدد، والتنبيه إلى أنّها حاضرة وتثأر.
بدا واضحا أن داعش مدّدت حربها خارج العراق وسوريا، محاولة اختراق أعتى النظم الاستخبارية في العالم، وإحداث المفاجآت الدامية في كل مكان، وبدا واضحا أنها قادرة على الترويج لإسلام "جهادي/راديكالي" طارد للآخر، على نحو يؤثّر سلبا على صورة العرب والمسلمين في العالم، ويزيد من تنامي الإسلاموفوبيا، ويصبّ في صالح صعود اليمين المتطرّف في الدول الغربية.
كيف تسلل الإرهابيون إلى فرنسا وعبثوا بأمنها؟ ما أسباب الفشل المخابراتي في استباق هجماتهم؟ هل فشلت الحكومات الفرنسية المتعاقبة في إدماج الأجانب؟ وهل المعالجة الأمنية وحدها كافية لمكافحة الإرهاب؟
أسئلة أخرى تثيرها هجمات باريس الدامية…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.