مانديلا الذي انتصر على سجّانه

منذ فترة ليست بقريبة بدأت دعوات الثأر والانتقام تظهر بيننا، وبدأ المروجون يسخرون وقتهم وجهدهم للترويج لها، حتى قبل أن تنتصر أي من ثوراتنا، وقبل أن نحقق أياً من أهدافنا، يروجون لحملات حقد عامة لا تفرق بين صفح عام وعقوبة خاصة، ولا تميز بين مجتمع كامل ليس بوسعه إلا أن يتعايش، وبين مجرمين قتلة تلوثت أياديهم بالدم، وليس لهم من سبيل إلا العقاب.

عربي بوست
تم النشر: 2015/11/19 الساعة 03:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/11/19 الساعة 03:24 بتوقيت غرينتش

لم تكن حكمة عادية تلك التي أظهرها بعد قضائه 27 عاماً في السجن، بسبب موقفه السياسي والعقدي ضد العنصرية، ومن ثم خرج بعدها ليكون أول رئيس أسود منتخباً لجنوب إفريقيا وزعيماً عالمياً وقائد دعوات سلام وحرية.

يقول نيلسون مانديلا: "بينما كنت أعبر الباب باتجاه البوابة التي ستؤدي بي إلى الحرية، علمتُ أنني إن لم أترك مرارتي وكُرهي خلفي، فسأظل أعيش في سجن".

لا أدري لماذا ابتليت منطقتنا بقادة يعيشون في ظل ضغينة وحقد سرمديين، لا يكاد يخرجون منهما، ويصرون على أن يجرّونا إليه لنقع في ذات الجبّ الذي يعيشون فيه، حيث تتصارع المنطقة اليوم وتتخبط خبط عشواء، وترتفع أصوات الفتنة وتعلو فوق أصوات الحكمة والرشد، ولا تكاد تجد بين القوم رجلاً رشيداً.

عندما تقرأ التاريخ تتألم كثيراً لحجم الدمار الذي جلبناه لبلادنا، وحجم التيه الذي أوقعنا فيه أنفسنا وأتباعنا، كثير من المعارك التي استمرت عشرات السنوات، كان يكفيها داعية سلام وصاحب حكمة ليوقفها أو يمنع حدوثها، وكثير من الاغتيالات وقتل الأخ لأخيه والابن لأبيه كان يكفيها لحظة تأمل وتعقل ليدرك صاحبها حجم الألم الذي سيسببه للمجتمع من حوله.

جسد الإنسانية اليوم مثقل بالجروح والآلام، ومنهك بالضغينة والأحقاد التي يحملها منتسبوها، وتسيّرهم ليل نهار..

ليس من العبث أن تنطلق كل دعوات الحرية والكرامة والسلام وحقوق الإنسان لتعطي كل إنسان حقه في حياة كريمة يتنفس فيها أنسام الحرية ويحلق حيث أحلامه وآلامه، إذ لم يخلق البشر منذ عهد آدم بنوعين.. "كلكم لآدم وآدم من تراب"، ولم يكن لهذا العالم أن يستقر ويعيش بسلام في ظل صراع طبقي خلقه متنفعون وأصحاب شهوات يعتاشون على دماء الناس وأقواتهم، وتراهم يظهرون كالخفافيش في ظُلَمِ الحروب ولياليها.
ماذا لو فكر مانديلا كما نفكر نحن الآن؟ وماذا لو قرر أن يغتال سجانه ويقضي على من ظلمه؟ فكيف إن تطور الأمر وبدأ بالاعتداء على شعبه وسجن من عارضه أو خالفه؟

بعد أن انتصر النبي الكريم في فتح مكة، وشعر المسلمون بنشوة النصر وفرحها، وقفت مكة صامتة خاشعة تنتظر حكم القائد الجديد لها، ماذا تراه سيحكم بمن عذبه؟ ماذا تراه سيحكم بمن لاحقه ليقتله؟ ماذا تراه سيحكم بمن أعد العدة وأرسل الجيوش للقضاء على مشروعه ودولته؟ لم يكن وقتها لأستاذ البشرية إلا أن يعلن درسه في الحكمة والصفح وصفاء القلوب "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

منذ فترة ليست بقريبة بدأت دعوات الثأر والانتقام تظهر بيننا، وبدأ المروجون يسخرون وقتهم وجهدهم للترويج لها، حتى قبل أن تنتصر أي من ثوراتنا، وقبل أن نحقق أياً من أهدافنا، يروجون لحملات حقد عامة لا تفرق بين صفح عام وعقوبة خاصة، ولا تميز بين مجتمع كامل ليس بوسعه إلا أن يتعايش، وبين مجرمين قتلة تلوثت أياديهم بالدم، وليس لهم من سبيل إلا العقاب.

من الشجاعة أن نقوم بتغيير ما نستطيع القيام به، ومن الحكمة أن نقبل بما لا نستطيع القيام به أو تغييره، وأن ندرك أنه لا يسعنا قتل وإبادة كل من خالفنا أو عارضنا أو أزعجنا أو اعتدى علينا في يوم من الأيام، حيث إنها متتالية جرّبت من قبل وعرفنا نتيجتها، وكما يقول غاندي: "إذا قابلنا الإساءة بالإساءة.. فمتى تنتهي الإساءة؟".

أدرك البوسنيون بعد أن خرجوا من موجة العنف التي ضربت بلادهم، وشرخت مجتمعهم، وأخذت الحرب منهم ما أخذت، أن لا بديل لهم عن التعايش بسلام مع بعضهم بعضاً، وأن لا مناص من إيقاف حمام الدم، وعودة النسيج المجتمعي إلى سابق عهده، وتجنب العودة إلى الماضي – عدا توثيق الجرائم لمحاسبة المجرمين.

وتكاد اليوم تمتلئ ساحات البوسنة بتذكارات رمزية لحفظ الذاكرة المجتمعية، والتذكير بهول الحروب ومآلاتها، وتعليم الأجيال دروساً في نزع الضغينة واقتلاع الأحقاد.

ليس من حل لهذه المنطقة إلا أن تعود لرشدها، وتصنع نظامها السياسي القائم على التنوع والتكامل بين فئات المجتمع، وتعطي كل ذي حق حقه، وتتعامل مع التعددية كرافد إبداعي يرتقي بالمجتمع ويعزز من حضوره ويزيد من بهائه، وبغير ذلك فإن ليلنا طويل وسماءنا حالكة مظلمة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد