وبعد الإدانة غير المشروطة .. الانتصار لسيادة القانون

ثمة إمكانية لمواجهة الإرهاب دون تضحية بالحقوق والحريات، هكذا تخاطبنا خبرة الغرب خلال السنوات الماضية والتي أتمنى أن لا يتم ذبحها اليوم أو تتم التضحية بمدلولاتها على إثر الصدمة التي أحدثتها جرائم داعش في باريس.

عربي بوست
تم النشر: 2015/11/18 الساعة 06:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/11/18 الساعة 06:55 بتوقيت غرينتش

في أعقاب الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر / أيلول 2001، استغلت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش (الابن) لحظة خوف شعبي واسع في المجتمع الأمريكي لتمرير العديد من القرارات والإجراءات الاستثنائية التي هددت حكم القانون وضمانات الحقوق والحريات، وعنت تعريض المواطن صاحب الأصول العربية أو الإسلامية وكذلك المجموعات المقيمة ذات الجذور العربية أو الإسلامية لمراقبة أمنية واستخباراتية غير عادلة.

ولم يستعد حكم القانون في الولايات المتحدة الأمريكية بعضا من عافيته إلا بفعل مقاومة السلطة القضائية المستقلة للقرارات وللإجراءات الاستثنائية، ودور المجتمع المدني والإعلام الحر في توثيق وكشف جرائم التعذيب والانتهاكات التي تورطت بها الأجهزة الأمنية الأمريكية في الخارج وفي توعية الرأي العام بخطورة ذبح الحقوق والحريات أثناء مواجهة الإرهاب، ثم بعد تمكن الحزب الديمقراطي المعارض لسياسات بوش من حصد مقاعد الأغلبية في الكونجرس وإيصال مرشحه أوباما إلى البيت الأبيض في 2008. وعلى الرغم من ذلك، لم تتخلص الولايات المتحدة الأمريكية إلى اليوم من بعض القرارات والإجراءات استثنائية التي مررت في فترة بوش الابن 2000-2008، ولم يزل معتقل جوانتانامو يشهد على ذلك شأنه شأن انتهاكات أخرى في أفغانستان والعراق وغيرهما ليست القوة الكبرى ببعيدة عنها.

وحين تكررت هجمات إرهابية مشابهة لهجمات سبتمبر / أيلول 2001 في بعض البلدان الأوروبية كبريطانيا وإسبانيا، سعت بعض الحكومات والائتلافات الحاكمة في أوروبا، خاصة تلك ذات التوجه اليميني، إلى تمرير قرارات وإجراءات استثنائية مطابقة لقرارات وإجراءات بوش الابن. فالوجهة كانت إما 1) التوسع في المراقبة الشاملة للمواطنات وللمواطنين ذوى الأصول العربية والإسلامية وللمجموعات المقيمة، أو 2) تقليص الضمانات القانونية للحقوق وللحريات لتسهيل المراقبة الأمنية وفرض القيود، أو 3) التورط في ممارسات تعسفية كالتنصت وإبعاد بعض المقيمين عن أوروبا بإلغاء تراخيص الإقامة والعمل، أو 4) التنسيق الأمني والاستخباراتي مع الأجهزة الأمريكية. غير أن البرلمانات والسلطات القضائية حالت في بريطانيا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا وفي بلدان أخرى دون الانزلاق على منحدر بوش وذبح الحقوق والحريات أثناء مواجهة الإرهاب، وأوقفت الشق الأكبر من القرارات والإجراءات الاستثنائية ولم يمر إلا القليل الذى لم يزل يؤرق ضمائر السياسيين والقانونيين والنخب الفكرية المدافعة عن سيادة القانون والديمقراطية.

واضطلعت المنظمات المدنية والإعلام الحر بدور جوهري في توعية الرأي العام الأوروبي بإمكانية مواجهة الإرهاب دون التضحية بالحقوق والحريات، وفى تثبيت ضرورة مواجهة الخطر الذي تمثله عصابات الإرهابيين بمزيج من الأدوات الأمنية ومن الأدوات التنموية والمجتمعية لمعالجة الحظوظ الاقتصادية والاجتماعية المحدودة للكثير من ذوى الأصول العربية والإسلامية المقيمين في أوروبا، والسياسية لدمجهم في الحياة العامة، والفكرية لمحاربة التطرف الديني.

ومع أن أوروبا لم تتخلص بالكامل من الإرهاب – فبين تفجيرات لندن ومدريد في العقد الماضي وبين جرائم القتل والترويع التي أخرجت باريس من اعتياديتها قبل أيام شريط لم ينقطع من الأعمال الإرهابية، تماما كما لم ينقطع انضمام مواطنين ومقيمين على أراضي بلدانها لعصابات الإرهاب، إلا أن الخبرات الأوروبية وكذلك بعض جوانب الخبرة الأمريكية بعد أن استعاد حكم القانون عافيته تدلل مجتمعة على إمكانية مواجهة الإرهاب دون قرارات وإجراءات استثنائية. تدلل خبرات الغرب أيضا على أهمية ترشيد سياسات وأدوات مواجهة الإرهاب عن طريق نقاش عام موضوعي وتعددي، ومشاركة المجتمع المدني والإعلام الحر مع تمكين الأصوات المعارضة والناقدة للاعتماد الأحادي على الأدوات الأمنية من الوصول إلى الناس، والابتعاد عن استغلال لحظات الخوف والتضامن الشعبي التي تلي وقوع أعمال إرهابية للاندفاع بعيدا عن حكم القانون وضماناته.

ثمة إمكانية لمواجهة الإرهاب دون تضحية بالحقوق والحريات، هكذا تخاطبنا خبرة الغرب خلال السنوات الماضية والتي أتمنى أن لا يتم ذبحها اليوم أو تتم التضحية بمدلولاتها على إثر الصدمة التي أحدثتها جرائم داعش في باريس.

كذلك يستحق حصاد غربي آخر الكثير من التذكر والاستعادة والتدقيق بعد جرائم باريس، حصاد العمليات العسكرية ضد الإرهاب بعيدا عن الأراضي الأمريكية والأوروبية.

بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر / أيلول 2001، ذهبت الولايات المتحدة الأمريكية بجيوشها وعدتها وعتادها إلى أفغانستان والمناطق الحدودية بينها وبين باكستان لمحاربة حركة طالبان صنيعة المخابرات الباكستانية وتنظيم القاعدة الذى كان من بين روافد الوحشية والدموية والتطرف التي شكلته مجموعات دعمتها الاستخبارات الأمريكية وبعض الاستخبارات الخليجية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين في مواجهة الغزو السوفييتي ﻷفغانستان (1979). أسقطت الحرب الأمريكية على أفغانستان حكم حركة طالبان، وقضت على بعض الملاذات الآمنة لتنظيم القاعدة وشتته في أقاليم متفرقة، وأبعدت أخطار الهجمات الإرهابية عن الداخل الأمريكي الذى استعاد أمنه النسبي. إلا أن الولايات المتحدة ومعها الكثير من الحلفاء الغربيين، وبالرغم من كثير الحديث عن التنمية وبناء الديمقراطية والسلم الأهلي ومن توالى الحديث عن خطط وبرامج الإصلاح المؤسسي وتثبيت الدولة، أخفقوا إلى اليوم في فرض الاستقرار في أفغانستان وفى الوفاء بوعود التنمية والديمقراطية والسلم، بل ولم ينجزوا هدف القضاء الشامل على حركة طالبان وبعض انشطارات القاعدة في المناطق الحدودية مع باكستان وهى جميعا تنظيمات مازالت توظف البيئة المجتمعية الحاضنة لهم بفعل المظالم والفساد وانتشار الفكر المتطرف لكى تواصل هجماتها الإرهابية وإرهاقها العسكري للقوات الأمريكية والغربية التي لم تتمكن من الانسحاب عائدة إلى بلادها إلى اليوم – أراد الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن تنتهي إدارته الثانية في 2016 والولايات المتحدة لا وجود عسكري لها في أفغانستان، وستذهب إرادته أدراج الرياح.

وتكررت ذات الحقائق والنتائج حين غزت الولايات المتحدة وبريطانيا العراق لإسقاط نظام صدام حسين، مع فارق جوهري هو أن الديكتاتور صدام حسين تورط في إرهاب ممنهج وجرائم إبادة ضد شعبه وفى حروب إقليمية إلا أنه على خلاف حركة طالبان لم يدعم تنظيمات إرهابية أو يوفر لها ملاذات آمنة ولم يثبت عليه امتلاك أسلحة للدمار الشامل، وهذا وذاك من الأكاذيب التي روجتها الحكومة الأمريكية والحكومة البريطانية لتبرير غزو العراق واحتلاله. أما الحقائق المتطابقة فكانت السقوط السريع لنظام صدام حسين وكذلك لمؤسسات الدولة العراقية التي فككها المحتل الغربي، وكثير حديث وخطط وبرامج عن تحول ديمقراطي لم يتم وتنمية تراجعت وأمن غاب. وأما النتائج المتشابهة فكانت بيئة مجتمعية تتراكم بها المظالم والكراهية والتطرف، وطائفية ومذهبية تسيطران على بقايا الدولة وترتكب جرائم متتالية، وتنظيمات إرهابية تعتاش على المظالم والتطرف وتستوطن مناطق عدة بوحشية ودموية تستدعى ظلامية حروب الكل ضد الكل، وتهديدات إقليمية متنامية.

تدلل، إذن، القراءة الموضوعية لحرب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين على الإرهاب في أفغانستان على أن الأدوات العسكرية والأمنية تستطيع أن تسقط سطوة الحركات والتنظيمات الإرهابية إلا أنها لا تنجح بمفردها في القضاء الكامل عليها أو ضمان عدم عودتها مجددا بأشكال أكثر وحشية ودموية. توظيف الأدوات العسكرية والأمنية ضرورة لا تحتمل ترف التأجيل، إلا أن استمرارية "الفوائد" المرتبطة بها على المدى القصير مرهون بالحلول المجتمعية والتنموية والسياسية الأشمل. أما حصاد الغزو الأمريكي-البريطانى للعراق، فيعيد التذكير بحتمية بناء مؤسسات الدولة الوطنية وأجهزتها على أسس من سيادة القانون والعدل والحق والحرية لكى لا يتمكن من المواطن والوطن الإرهاب أو تتمكن الطائفية أو المذهبية أو يتمكن التطرف.

لا أماري في حتمية المواجهة العسكرية أحيانا لعصابات داعش في المشرق العربي وفي شبه الجزيرة العربية وفي سيناء المصرية وفى ليبيا وتونس وفى بلدان أخرى، ولا أجادل أيضا في أهمية التنسيق الأمني والمعلوماتي بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين وبين أطراف دولية أخرى كروسيا والفاعلين الإقليميين الرئيسيين. غير أن الحملات العسكرية بمعزل عن معالجات داخلية وإقليمية ودولية أشمل لن تنجح في كبح جماح داعش وأخواتها، ولن تتمكن من النجاة بالمواطن إزاء عصف متعطشين للوحشية وللدموية بحقه في الحياة وحقوقه وحرياته الأساسية، ولن تستعيد لبلاد العرب سلمها الأهلي وتلملم أشلاء دولها الوطنية وتجدد بناء مؤسساتها وتعيدها إلى المواطن والوطن بغير مفاسد القهر والظلم والقمع التي وصمتها طويلا.

اليوم، تبدو بلاد العرب في أمس احتياج إلى جهد داخلي وإقليمي ودولي يستهدف تحصين مجتمعاتنا عبر التأسيس لحكم القانون الضامن لرفع المظالم والحامي لحقوق وحريات الناس، عبر التداول السلمى للسلطة ومساءلة ومحاسبة الحكام، عبر رفع معدلات التنمية المستدامة. دون ذلك، سيتواصل إخفاقنا في مواجهة الإرهاب والعنف والتطرف بفاعلية، وسنفشل في التحليل الأخير في إبعاد بعض بيئاتنا المحلية وبعض القطاعات الشعبية عن توفير الملاذات الآمنة للإرهاب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد