لن يملك أحدكم إلا أن يضحك إذا ما شاهد هذا الرجل في هذا الموقف، وجهه يتصبب عرقا بغزارة شديدة في يوم من أيام شتاء الإسكندرية، كلتا يديه تمسكان بمقود سيارته "رينو" البيضاء وبقبضة حديدية وكأنه يمنعها من الفرار، يجلس منحنيا قليلا إلى الأمام، مقطب الحاجبين، يتطلع بصعوبة إلى الطريق الذي يبدو معتما من خلال الزجاج الذي غطته مياه الأمطار، وقد امتنعت المسّاحتان الأماميتان عن العمل، وهو لا يملك إلا أن يردد "منك لله يا سعيد .. منك لله يا سعيد". أما الرجل فهو أنا، وأما سعيد فقد قال لي: شوف يا مستر، معك الآن سيارتك وقد حصلت للتو على رخصتك وأنا لدي التزامات ومضطر لأن أتركك الآن لتقود سيارتك بنفسك، وإن احتجت لشيء أبلغني. وكأن سعيدًا لا يعلم كيف حصلت للتو أمامه على رخصة قيادتي.
في الاختبار النظري كان الممتحن يوجه لي السؤال على هذه الشاكلة: "العلامة دي معناها إيه"، وقبل أن أهمّ بالإجابة كان يقول: "تمام طيب ودي"، وهكذا حتى أنهيت الشطر النظري من اختبار قيادة السيارات بنجاح باهر لأتجه إلى الشطر العملي، ركبت السيارة وقدت أمام جماهير الممتحنين في منحنى ذهابا وإيابا، وأعلم أن نجاحي مرتبط بألا أصطدم بأي علامات بلاستيكية وضعت على حدود هذا المنحنى، والذي حدث أنني أطحت بها كلها، في الحقيقة إلا واحدة، غير أني حصلت على رخصة القيادة لأسباب معروفة بالطبع.
والغريب أن قيادة السيارات استهوتني تماما، وأنا الذي كنت أعتقد أنها مسألة مستحيلة، آخر ما تصورت أن بمقدوري فعله هو أن أقود سيارة، كيف للمرء أن يمسك بالمقود ويحرك مغير السرعات ويستخدم قدميه لدفع الوقود أو للفرامل ويراقب الطريق الخلفي بواسطة المرآة الأمامية، والطريق الجانبي بواسطة المرآتين الجانبيتين، كل ذلك في وقت واحد، والأدهى أن يتحدث مع مرافقيه ركاب السيارة، تلك بالفعل هي المهمة المستحيلة، لكني قررت خوضها عندما تذكرت درس الأستاذ فيليب.
في مقهى المحطة الرئيسية لمدينة فرانكفورت، كنت أجلس كل يوم أحتسي الشاي واضعا أمامي كومة من الجرائد العربية الرئيسية وقد استنفدت قروشي القليلة، أقرأ الخبر ذاته هنا وهناك، وأقارن الصياغة المتعددة، ثم أرصد تطور الخبر بين ما نشر أمس والمنشور اليوم، أحاول أن أتعلم كيف يصاغ الخبر عن قضية ما، ثم كيف تتطور صياغته كل يوم، لقد قررت أن أعلم نفسي بنفسي مهنة الصحافة، وأنا الذي لم أدرسها لا من قريب ولا من بعيد.
كان المشهد للأصدقاء هزليا، من أنت وماذا تفعل وكيف لك أن تضع نفسك رهن حلم عظيم المنال، لكني خضت التحدي، وعلى صعيدين، الأول أن أعلم نفسي بنفسي، والآخر أن أجد موطئ قدم لي في أي مؤسسة إعلامية، ما تركت صحيفة ولا مجلة إلا وراسلتها، كنت أشتغل في مهن مختلفة حتى أصرف ما أجنيه منها على معيشتي اليومية وعلى تعليم نفسي ثم على إعداد مقالات لا أعرف إذا كنت سأنجح في إقناع أحد بنشرها، كنت أدرك أن ثمة موهبة قد منحني الله إياها، لكنها ليست كافية لتلحقني بهذا الدرب، كنت مؤمنا بأنه يجب أن أبذل جهدا جبارا لأتمكن من صقل هذه الموهبة المفترضة ، ومن أن أضع قدماي على أول الطريق، كانت فكرة الدأب والسهر والحمى والإصرار والتجربة تلو التجربة هي التي تدفعني إلى العمل بعد أن تذكرت درس الأستاذ فيليب.
أنا نفسي كنت مندهشا من عدم قدرتي على رسم أبسط الأشياء، كانت درجاتي هي الأدنى في مادة الرسم ضمن طلاب فصلي كلهم، ولأني كنت في الشهادة الإعدادية، ولأن درجات هذه المادة تضاف إلى الدرجات النهائية، ولأن والدي يرحمه الله كان حريصا أن أحافظ على تفوقي في المواد كلها فقد اقترح علي اقتراحا غريبا، ربما تحدثت عنه مدرسة طنطا الإعدادية، واعتبره تلاميذها أنه من سخافات أهل السويس – وأنا منهم – الذين قدر الله أن تكون هجرتهم إلى بلدهم طنطا عقب نكسة سبعة وستين.
حدثت على خجل صديقي ناجي عن رغبتي في الحصول على درس خاص من والده المدرس بنفس المدرسة، وبعد التعبير عن الاندهاش الشديد ذهبت إلى الحصة الأولى، أستطيع أن أدعي أني حينها كنت التلميذ الوحيد في بر مصر الذي يتردد على درس خاص للرسم.
حدثني الأستاذ عن الإرادة، وقال حازما دونها لن تتمكن من صنع أي شيء أو تحقيق أي إنجاز، تكلم عن الثقة بالنفس كعامل أساسي لضمان النجاح، وحدثني عن سحر المران ، ثم أتى برسومات لمشاهير الرسامين ووضعها أمامي وقال اختر واحدة وارسم مثلها، غضبت وقلت له أتستهزأ بي يا أستاذ، أنا لا أجيد رسم أبسط الأشياء، فكيف يمكنني مضاهاة رسومات المشاهير، فذكرني بالإرادة، وجدد الحديث عن المران، وأن الصبر والدأب عليه سيضعني في مركز أقرب لمن رُزق الموهبة، وبدأ يشرح لي كيف أن الأمر ليس في الحقيقة مستحيلا ولا صعبا كما أتخيل، "خذ عندك مثلا وجه الرجل ، يمكن أن يكون هكذا كبيضة، ثم نعدل هذا قليلا وذاك أيضا وهذا بعض الشيء فيصبح هكذا رسما جميلا لوجه".
كل ليلة وبعد أن أنهي مذاكرتي أبدأ في المران، كنت سعيدا بالتحدي، وكنت أحقق تقدما باضطراد أدهشني أنا نفسي، إلى أن جاءت نتيجة آخر العام لأتحصل على ثماني عشرة درجة من أصل عشرين، فيما حصل أصدقائي الموهوبون على عشرين، أي بفارق درجتين، وتذكرت نتيجة أول اختبار للرسم لي قبل درسي الخاص والتي كانت ثلاث درجات برتبة راسب.
لقد سعد والدي رحمه الله بالنتيجة أيما سعادة، شعر أن فكرته أثمرت، وأنه أصاب في قراره، لكن ما لم يعرفه أن نتيجة الدرس الخاص تجاوزت الرسم إلى حياتي كلها، ذلك أنه ما من تحدي خضته إلا وتذكرت .. درس الأستاذ فيليب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.