رغم جهود الحكومة المصرية، إلا أن صخبَ عدادات النقود يُمكن أن يسمع مجدداً في أروقة مصر الخلفية، حيث يبيع التجار الدولار بسعر أعلى من السعر الرسمي.
وكانت الحكومة قد خفّضت قبل فترة سعرَ صرف الجنيه ليتطابق مع سعر صرفه في السوق السوداء، وهكذا تخلصت من الاتجار غير المشروع بالجنيه. لكن الطلب على الدولار يتزايد مرة أخرى، وهو ما يؤدي إلى نقص في كمية السيولة لدى الحكومة، ويعيد تجار العملة إلى العمل.
انخفاض الاحتياطي النقدي
بحسب مجلة الإيكونوميست البريطانية، انخفض احتياطي مصر من العملة الأجنبية إلى 16،4 مليار دولار في شهر سبتمبر/أيلول من العام الحالي، أي ما يكفي لتغطية ثلاثة أشهر من الاستيراد، وهو الحد الأدنى الذي ينصح به صندوق النقد الدولي.
لكن مصر لا تجتذب الكثير من الدولارات حالياً، فقد قادت سنواتٌ من الاضطرابات السياسية إلى تدهور قطاع السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر الذي انخفض إلى 6،4 مليار دولار خلال السنة المالية الأخيرة. فيما تأمل الحكومة أن تصل قيمة الاستثمارات الأجنبية إلى 10 مليارات دولار هذا العام.
زيادة الطلب على الدولار
في نفس الوقت، يزداد الطلب على الدولار. وعانت مصر من عجز تجاري سنوي خلال العقد الأخير، وتنامى العجز مؤخراً. رغم أن الإنفاق على الوقود انخفض بشكل ملحوظ مع انخفاض سعر النفط، إلا أن مصر استوردت مع ذلك ما قيمته 12،3 مليار دولار هذا العام. كما أنفقت 48،5 مليار دولار على استيراد مواد أخرى بما فيها القمح، والسيارات والمعادن.
يقول آلان سانديب، من شركة نعيم القابضة: "من هنا يأتي الضغط، فمجموع صادرات البلد خلال العام الماضي لم يتجاوز 22 مليار دولار، هذا يعني عدم توازن بين الصادرات والواردات".
عجز الحساب الجاري
لا عجب إذاً أن يصل عجز الحساب الجاري وفق التوقعات إلى 20 مليار دولار هذا العام.
بالإضافة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر، عانت مصر من عجز كبير خلال السنوات الأخيرة رغم مساعدات دول الخليج العربي التي تدعم نظام مصر العسكري. لكن من المرجح أن تنخفض هذه المساعدات بسبب انخفاض سعر النفط، وهو ما سيؤدي إلى تخفيض عائدات مصر من المساعدات.
الحكومة المصرية من جانبها كانت قد أعلنت عن قروض جديدة بقيمة 1،5 مليار دولار من بنك التطوير الأفريقي والبنك الدولي الذي تفاوضه مصر على قرض آخر بقيمة 3 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث القادمة. قد تُضاف عائدات جديدة من بيع الأراضي للمصريين المقيمين في الخارج، إذ تأمل الحكومة في الحصول على 2،5 مليار دولار من هذه العملية، لكن يبدو أن البلاد مقبلة على سياسة تقشف رغم ذلك.
لذا لم يكن سماحُ البنك المركزي المصري بانخفاض قيمة الجنيه ليصل إلى أقل مستوى له في الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول أمراً مفاجئاً.
وكما نشرت "الإيكونوميست" من قبل، فإن سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار استقر على 8،3 جنيهاً، أي بانخفاض 11%. لا يزال سعر صرف الدولار في السوق السوداء أقل بنسبة 5% وهذا يعني توقعَ المزيد من التراجع في سعر الصرف.
يقول جيسون توفي، الخبير في شركة أبحاث Capital Economics، إن "الجنيه يجب أن ينخفض أكثر بكثير لتعود مصر إلى قدرتها على المنافسة الخارجية". وتوقع توفي أن يرتفع سعر صرف الدولار إلى 8،25 جنيه بنهاية هذا العام وإلى 8،50 جنيهاً بنهاية العام المقبل.
سياسة نقدية أكثر حسماً
البنك المركزي متردد في السماح بهبوط سعر صرف الجنيه بسرعة خوفاً من زيادة التضخم. وتستورد مصر الكثير من المواد الغذائية التي سترتفع أسعارها بشدة إن انخفض سعر الجنيه، ما سيؤدي إلى الكثير من المشاكل وقد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية.
يضيف سانديب: "لن يجازفوا بالسماح بثورة أخرى". لكن من المحتمل أن يقوم الرئيس الجديد للبنك المركزي، والذي أعلن عن توليه المنصب في الحادي والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، باتباع سياسةٍ أكثر حسماً.
في هذه الأثناء، دفعت التوقعات بالمزيد من انخفاض قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية إلى نكوص المستثمرين، خاصةً أن القوانين المنظمة لانتقال رأس المال تهدف إلى دعم الجنيه.
ففي العام الماضي، حددت الحكومةُ سقفَ الحوالات الخارجية بمائة ألف دولار في السنة. وهذا العام، وفي محاولة للضغط على السوق السوداء، حددت حجم الإيداع في الحسابات البنكية بالعملة الأجنبية بعشرة آلاف دولار يومياً و50 ألف دولار شهرياً.
هذه الإجراءات، بالإضافة إلى قيام الحكومة بتقنين العملة الأجنبية، كان لها تأثير سلبي على العمل. إذ تشتكي الشركات من نقص السيولة اللازمة للاستيراد، ويقول "توفي" إن هذا ساهم في البطء الشديد في معدلات النمو خلال النصف الأول من هذا العام.
إن استطاعت مصر الصمود خلال هذه الأزمة، فثمة أسبابٌ للتفاؤل. فقد قامت الحكومة باستثمارات في مجال الصناعة على أمل زيادة الصادرات، لكن الأهم هو أن شركة ENI الإيطالية اكتشفت حقلَ غاز هائل مقابل السواحل المصرية، وحسب بعض التقديرات، فإن حقل "الظهر" قد يحوِّل مصر من دولة مستوردة للغاز إلى دولة مصدرة له بحلول عام 2020. لا شك أن هذا سيزيد عائدات مصر من النقد الأجنبي.