“هل سبق لك أن غرقت؟”

ماذا لو أنَّنا أَعدنا النَّظرَ في أمورٍ نعتبُرها مسلَّماتٍ اليومَ؟.. كما هو الحالُ مع مفهومِ الوطن، وتحقيقِ الأمانِ المعيشيِّ وسُبل الحياةِ الجيدة.. وربَّما أيضاً على الصَّعيد الدِّيني، حيث يُظهر المشهدُ العامُّ اليومَ مع مرور الوقت أن عقلنا الجمعي -ربَّما- لا يزال عالقاً عند الأربعمائة سنةً الأولى بعد الهجرة

عربي بوست
تم النشر: 2015/11/03 الساعة 06:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/11/03 الساعة 06:18 بتوقيت غرينتش

نحن لا نغرقُ، لأننا غرقى حقاً، ولكن موتَنا السَّريري يَحكي لنا أنَّنا أحياءُ…
ولا نَشعرُ بظُلمةِ البحرِ، لأنْ ظُلمةَ الجَهلِ المُحيطُ بنا أَحلك من ذلك بمرات.
فإن كنت تشعر بالغرق مثلي، فهذه دعوة أن نطفو إلى السطح قليلاً ما استطعنا إليه سبيلا.
وطنْ..
امتنَّ الله على أبناءِ قريشَ أنْ أطعمهم من جوعٍ وأمنهم من خوفٍ، وهم في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ، وأَرسلَ فيهم نبيًّاً منهم، فكذَّبوه وشَتموه وحاربوه.
ولمَّا ضاقَ بهِ المُقامُ في أحبِّ بلادِ الله إليه، ترك مكةَ وفيها الكعبة وأبناء عمومته والمسلمون من بعده، فخيَّرهم بين البقاءِ أو الهجرة إلى يثربَ، حيث استقبله أهلها، وصَدَّقوه وأكرموه وآَزروه.
واستغرقت رحلة الهجرةِ تلك أحدَ عشرَ يوماً كَابدَ فيها -وهو رسولُ اللهِ- حرَّ الصًّحراءِ ومُطاردةَ الأعداء.
فاختبأ في غارٍ حيناً، وحدَّث -حيناً آخر- رجلاً هَمَّ بقتله عن وعد بحُليِّ قائد أعتى مملكةٍ في ذلك الوقت، وهو القائل: "فهِجرَتُه إلى ما هاجر إليه"
ويدور في ذهني" هل فكَّر حين خرج متى سيرجع، أم أنه اكتفى باليقين بربِّه أنَّه عائدٌ يوماً لا محالة.
سيفٌ وأكثر..
في خريف عام 1678، دخلَ الملكُ الناصرُ صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوبَ مدينةَ القدسِ فاتحاً. لقد كان ذلك -بحقٍّ- المشهدَ الأخير لسلسلةٍ من الأحداث استغرقَ التحضيرُ لها مئة عامٍ، حتى بلغَ ابنُ كركوكُ "الكرديّ" قمةَ هرمِ جيشِ بلادِ العرب. وقبلها بمئات الأعوام، لم يمنعْ فِرار سَليلِ بني أميّةَ -عبدُ الرحمن الداخل- من تأسيسِ حُكمٍ استقرَّ زُهاء ثلاثةِ قرونٍ بعده، اشتد فيها ساعد الدولة، في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في عصور الظلام.
كما أن التجارة في الشرق، لم تحمل معها -على امتداد طريق الحرير- بعض البضاعة فقط، بل أورث حسن التعامل والمعشر ديناً جديداً إلى بلادٍ بُنيَ فيها أول مسجد بعد ثلاثة عقود من بعثة النبي محمد(ص).
إنَّ تعدُّدَ الوسائلِ التي تصبُّ في سموِّ الهدف تُكسبه المَنَعَةَ والقوة، وتكبحُ جِماحَ الفشل، وتُدقِّقُ الاتجاهَ والبوصلة، في حين يهدِمُ التَّقوقع والتَّواري خلف التعصب الديني والجهالات الفكرية وهوسِ السلطة ما تبنيه الحضارات أنكاثاَ، ويفسحُ المجالَ أمام الطغاة والمستبدين لحُكم بقايا أمةٍ تتصارعُ على بقايا وطن. فالمستبدُّ يقتات على جهل الشعوب وتبعيتهم العمياء، ويتنفَّس بخوفهم، ويرقدُ مستقرَّ البالِ عند نومِ ضمائرهم، ويسعى لتكديس الرماد فوقَ جمرِ نُخبتِهم، حتَّى يَنتشي طَرباً إذا ما اتَّسعتِ الهوةُ بين طبقات المجتمع.
فقاعةُ الفِكرْ..
ماذا لو أنّنا أَسمينا الأمور بمُسميَّاتِها؟
ماذا لو أنَّنا أَعدنا النَّظرَ في أمورٍ نعتبُرها مسلَّماتٍ اليومَ؟.. كما هو الحالُ مع مفهومِ الوطن، وتحقيقِ الأمانِ المعيشيِّ وسُبل الحياةِ الجيدة.. وربَّما أيضاً على الصَّعيد الدِّيني، حيث يُظهر المشهدُ العامُّ اليومَ مع مرور الوقت أن عقلنا الجمعي -ربَّما- لا يزال عالقاً عند الأربعمائة سنةً الأولى بعد الهجرة. وإن كنتُ لا أبخسُ نشاطُ العلماءِ بعدَها، ولكنَّ الفشلَ الذَّريع الَّذي تَجلَّى في بَقاءِ ذلكَ العِلْمِ حَبيسَ صفحاتِ الكُتبِ يدعونِي كلَّ يومٍ للتَّساؤل عنْ مَخْرجِ يقودُنا جميعاَ إلى الضَّوء من جَديد.
لماذا لا نسألُ أَنفسَنا: ما الَّذي يَحملُ أَحَدَهُم على البقاءِ في بَلدِ يَتَعرَّضُ فيه السُّكان للمّضايقاتِ، وتبلغُ انتهاكاتُ حُقوقِ الانسانِ حَداً لايُطاق، حيثُ يكونُ سقفُ طُموحاتِهم وأحلامَهم الخلاصَ مما ابتلوا به، وتأمين مُستلزماتِ الحَياةِ الأساسيَّة.. الأساسيَّة فقط. وما يُرافِق ذلك من انشغالٍ عن ممارسة التفكُّر وإِعمارِ الأرْض؟
هل حقَّاً نخشى رُدود فِعْلِ أولئك الذينَ يَعيشونَ رَغدَ الحياةِ، ويَحكُون لنا -في صيغةٍ لا تَخلو مِنَ التَّنظيرِ المَقيت- عن بطولات ومآثر الغابرين، وربَّما شَدَّتهُم الحَّمِيَّة فرَتَّلوا قِسُماً مِنْ أشعارِ الَمجد والخُلود، وهم ناكصُونَ على أَعقابِهم في أبراجِهمُ العَاجيَّة.
إنَّ الحِرصَ على جَلْدِ الذَّات، واِيقاعِ العُقوبَةِ فَقط، يُبْعِدُنا عن المَقْصَدِ الذي شُرِعَت لَه، ويجعلُ الحِفاظَ على تَماسُكِ المُجتمع وصَوْنِ الحُقوقِ وتعزيزِ الوَاجبات قضايا بعيدةَ المَنَال، وهذا يَعودُ بنا بالوَاجهةِ إلى عَقليَّةِ الوَفرة من جديد.
وقديماُ قالوا: إنَّ أَخطرَ ما تَفعلُهُ في حَياتِكَ ألَّا تُخاطِرَ بحياتِكَ أبداً، فالوِديانُ أَوْلَى بِمَنْ هَابَ صُعودَ الجِبال.
جدارٌ آنَ لَهُ أن يَنقضّ..
يُلقِي التَّاريخ المُشرقُ بظِلِّهِ الثَّقيلِ على مُخيِّلَتِنا، لنَصطدِمَ بواقِعنا المرير، حتى يُصبِحَ التَّفكيرُ في المُستقبلِ أكبرَ الخَطايا التي نتجنَّب التَّفكيرَ بِها.
نعم، إِحْدَى أَكبرِ الخَطايا، عندما نَعيشُ ثَقافةَ مُقَنَّعة، ظَاهرُها جَميلٌ وبَاطِنُها أحقادٌ وضغائن وأنانيةٌ لم نَشهد لها مثيلاً منذ عقود، حيث بات التَّمترسُ خلفَ أسوارِ المُعتقداتِ والآراء -التي بنيناها بأنفسنا- الصِّفة اللَّصيقة بتفكيرنا في العَالمِ العَربيِّ خُصوصاً، وهو ما يمكن أن نعبِّر عنه بغياب الدِّيناميكيَّة الاجتماعيَّة.
"كنائمٍ في كَبِدِ السَّماءِ يَلتَحِفُهُ الفَرَاغ، ويُؤنِسُ وَحدتَه ضَوءُ النُجومِ البعيد"، ما أجمله من تعبيرٍ، لكنَّه ربما يُشبِهُ أيضاً حالَ النعامة، عندما تدفن رأسها في رمالِ الصحراء، فهو -على جمال الكلمات- لن يغيِّر من الأمر شيئاً، فالعُزلةِ أيضاً تصنَعُ ذلك، كما أنَّها تُورِث السَّكينةَ وتَفسَحُ المَجالَ لإعادةِ ترتيبِ الأوراقِ وقد تُعدُّ مُنطلقاً للأمام.
فِرار..
هَبْ أنَّنا ابتعدنا عن السَّطح قليلاً، لنقتربَ من أنفسنا أكثر، ونَتمعَّنَ في أديمِ الأرضِ حيثُ نعيش.. في تلك البقاعِ التي لا يبدو منها الآنَ سوى يابسةٍ واحدةٍ متصلةٍ أو غير متَّصلة، تطفو على ذلك اللونِ الأزرقِ الكبير.
لا غنيَّ يمكنكَ إبصارُه من الأعلى ولا فقير، لا محارباُ ولا جالساُ، لا قومية ولا دين… أنتَ يمكنكَ أن تُبصرَ الإنسان فقط.
وإنْ كنتُ تريدُ أنْ تُبصرَ حقيقتَنا أكثرَ، فإنَّ الغوصَ في أعماقِ المُحيطاتِ أو السَّفرَ إلى أعالي السَّماوات لن يجدي نفعاً.
تعالَوا نَفرّ إلى أنفسنا، ونبحثُ في وجداننا، حتى لا نكونَ كمَنْ يخرجُ من البَحرِ ولمْ يبتلْ.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد