بقلم عدنان الضاهر- صحفي سوري
أفتح النافذة ليلاً، فتتراءى لي الشام من بعيد كحب مشتهى وحلم ضائع. أحاول أن أسرق قبلة على غفلة منها، فتتمنع كعذراء ليس لها تجربة في العشق. تحرمني المدينة هذه لذة النظر إلى وجهها، لأبقى منكسراً طوال الليل أهيم على وجهي في أزقة المدينة التي أسكنها ولا تسكنني.
يسرقني أحد المحال الفارغة لأجلس منتظراً قدوم الفجر وأهمس في سري أنْ سألحق الفجر مع الرجال، فالزاد قليل والدرب طويل، لكنني وككل مرة لا أفعل وأعود إلى مضجعي منتظراً مكالمة هاتفية من رقم يبدأ بالرمز الدمشقي، لكن الشام أصبحت بخيلة علينا حتى في مكالمة هاتفية لبضع دقائق ..
في ذاك الشتاء القاسي من عام ألفين وثلاثة، حين كان الصقيع يلفُّ أحياء دمشق، كنت أنا وأصدقاء الجامعة لا نبالي بشيء. نتسكع في الطرقات، نضحك، نهذي، ثم نبكي بصمت.. كان يكفينا حينها أننا نملك ثمن تبغنا الرديء وكوبين من الشاي في مقهى هامشي لا تطأه أقدام المثقفين ولا المخبرين. نتقاسم الهموم تارة ونختبئ خلف صمتنا تارة أخرى. نبقى جالسين ساعات طويلة، إلى أن يأتي النادل ويطلب منا الرحيل. لنعود إلى البيت سيراً على الأقدام، وقد أنهكنا التعب.
أحلامنا حينذاك كانت صغيرة، صغيرة جداً. حلمنا فقط أن نمشي في شوارع نظيفة، وعلى أرصفة لا تبتل فيها جواربنا المثقوبة. حلمنا أن نجلس في مقاهٍ تخلو من المُخبرين وعسس أجهزة الأمن. حلمنا بجدران ليس لها آذان، وبجيران لا يجيدون كتابة التقارير الأمنية. حلمنا أن نضع النفايات في سلة المهملات ولا نرمي أعقاب السجائر في الطرقات. حلمنا أن نرى دورات المياه في كلية الآداب نظيفة، وأبوابها من الداخل خالية من خربشات إباحية. حلمنا أن نمشي بالقرب من جسر الرئيس ووكالة سانا دون أن تُزكم أنوفنا بروائح كريهة. حلمنا أن يدخل التلاميذ الصف الدراسي من غير أن يرددوا شعار الحزب كل صباح، ولا أغنية "٧ نيسان يا رفاق، ميلاد الحزب العملاق". حلمنا أن نحصل على وظيفة من الدرجة السابعة دون أن نضطر لنكون من الحزب القائد.
حلمنا بأحزاب سياسية لا يكون رؤساؤها بعثيين أكثر من البعث، وشيوعيين لا يورثون السلطة لزوجاتهم، وبعلمانيين لا يمارسون التنظير، وبمثقفين ليس لهم شعر طويل. حلمنا بمساجد خالية من علماء السلاطين، وبمنابر لا يعتليها المنافقون. حلمنا بصباح دافئ نستيقظ فيه متفائلين، وبموت هادئ لا يكون سببه وجع الحياة. حلمنا بمقابر لا يتكدس فيها الموتى فوق بعض، وتصطف فيها القبور بشكل غير عشوائي.
حلمنا بمدينة لا تخاف فيه القطط منا، ولا نخاف نحن من عنصر الأمن. مدينة خالية من العشوائيات والبلديات الفاسدة، والكراجات التي صدرت لنا الموسيقى الهابطة وشوهت الذوق العام. مدينة خالية من تماثيل الزعيم وصوره وحدائق باسم الزعيم ومدارس باسم الزعيم ومشافٍ باسم الزعيم ومساجد باسم الزعيم ونوادٍ رياضية باسم الزعيم ومواليد صغار يحملون أسماء أبناء الزعيم.
حلمنا بالحياة، بالحب، بالسكينة، بالدفء، بالأمان، بالفرح، بالكرامة، وبكل شيء… كنا نحلم كثيراً، وكنت أحلم كثيراً، لكن سقف الوطن المثقوب لم يتسع لأحلامنا، فاستيقظنا ذات يوم لنجد أنفسنا منفيين في عواصم عربية وأجنبية، وبتنا لا نملك حتى وطناً نحلم بالعودة إليه..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.