العراق: رجال الدين والميليشيات

بعد انسحاب الجنود الأميركان مع نهاية 2011 ظن الإيرانيون أنهم سيبسطون نفوذهم المباشر على حكومة بغداد الشيعية، ولم تَبْدُ قوة الميليشيات جذابة ولا مهمة في أعينهم. وفي السنوات الأولى من الحرب في سوريا تقاطعت المصالح العراقية الإيرانية المشتركة

عربي بوست
تم النشر: 2015/10/21 الساعة 05:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/10/21 الساعة 05:54 بتوقيت غرينتش

في وقفة تأمل أمام قبة مرقد الإمام حسين بن علي الذهبية في كربلاء العراق في منتصف أيلولسبتمبر راودني تساؤل لم أستطع مقاومته: ترى ماذا سيحدث لو سقط صاروخ على الصرح أو دمره انفجار؟ إن مجرد تخيل فظاعة كهذه أمرٌ شنيع، إلا أن الفكرة صعبٌ ألا تخطر على البال نظراً لتاريخ هذه البقعة بالذات – هذا المقصد الشيعي المميز – وفي ظل الأحداث الراهنة في العراق. ولقد كنت بالفعل قد وقفت هذه الوِقفة إياها قبل 25 عاماً أتأمل الدمار الذي حل بالمكان إثر قذيفة ألقتها قوات صدام حسين لفرض سيطرتها على المجمّع الذي اختبأ فيه متمردون شيعة بعد فشل انقلابهم. وفعلاً كان للنظام أن نجح في إحكام سيطرته على كربلاء ومعظم البلاد، و مع الزمن سمح بترميم الضريح الذي يضم رفات الشهيد الشيعي منذ القرن السابع. وبعد عام 2003 قامت المؤسسة الدينية الشيعية بترميمات شاملة أخرجت لنا هذا الصرح العظيم الرابض في المكان.

واليوم باتت هذه البقعة هدفاً محتملاً لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، فمنذ عام 2006 عندما قامت حاضنة داعش الأم – قاعدة العراق–بتفجير القبة الذهبية لضريح العسكرية الشيعي في سامراء شمالاً تفجر الوضع في العراق واكفهرت سماؤه في ظلمات حرب أهلية حالكة السواد، ومنذ ذلك الحين اتخذت هذه المجموعة المتطرفة من قتالها الطائفي مع الشيعة أساساً رئيسياً لإيديولوجيتها الفكرية. وعلى مدار الأشهر الـ16 الماضية دأبت داعش في مدّها العاتي الذي ابتلع مساحات من الأراضي العراقية على محوِ أي أثرٍ تصادفه في طريقها للشيعة أو غيرهم من المذاهب "المنحرفة". ولأن معظم الأضرحة الشيعية تقع في العراق (في سامراء وكربلاء والنجف وبغداد) فإن هجمة واحدة كافية لإشعال فتيل حرب طاحنة.

لكن التدابير الأمنية قليلة ومخففة في مرقد الإمام حسين وغيره من المراقد التي زرتها، حتى أنه يبدو — وعلى العكس من الوضع في زيارة سابقة لي في آذارمارس – أن الحرب على داعش لا تشغل بال العراقيين هنا كثيراً. لعل السبب في ذلك هو اطمئنان شيعة العراق وأكرادها إلى أن الولايات المتحدة وإيران لن تسمحا بسقوط بغداد أو أربيل (العاصمة الكردية) في أيدي داعش حتى بالرغم من كون هزيمة داعش بعيدة المنال حالياً. لكن هناك تفسيراً آخر: فمع تخبط حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي ومع البلبلة في صفوف الجيش العراقي، ظهرت للقيادات الدينية الشيعية مكانة بارزة عززت من موقعها كحامية لحمى العراق بإرشادها الديني والسياسي المتزايد. وتتمركز القيادات الشيعية المعروفة بـ "المرجعية" في مدينة النجف المقدسة التي تقع على بعد 160 كم جنوب العاصمة، ويترأسها 4 قادة ممن يحملون لقب "آية الله" يقودون معاً معظم مؤمني العالم الشيعي، منهم آية الله السيستاني المرجع الديني الأكبر بين هؤلاء الأربعة والذي يحظى بهالة ومكانة دينية تفوق القائد الأعلى لإيران آية الله خامنئي.

في حزيرانيونيو 2014 ورداً على ضربة خاطفة استولت بها داعش على الموصل وتكريت، وجه السيستاني نداء إلى عموم الشعب الشيعي يستنهضهم ليهبوا دفاعاُ عن الوطن، لباه على الفور الكثير من الشباب في دولة تكثر فيها البطالة بينما تتزايد نسبة السكان من الشباب – فمتوسط العمر يبلغ 21 فقط. تعددت الميليشيات وتعددت مصالحها وأهدافها، وبتعددها غدا من الصعب التأكد من قدرتها على دحر داعش وتأمين البلاد. أضف إلى ذلك أن قيادات آية الله الأربعة ليسوا بقادةٍ عسكريين، مما يعني أن نداء السيستاني قد شجع دعمَ بل وحتى إدارةَ دفة هذه الميليشيات من قِبلِ إيران التي تولت زمام الحرب على داعش.

في الوقت الحالي تسيطر داعش على أجزاء من أربع محافظات بأغلبية سنية يبلغ تعداد سكانها حوالي 6 ملايين نسمة – أي 20% من عدد سكان العراق ككل، وتتمدد حثيثاً على التخوم الممتدة من خط يبدأ من الحدود السورية شمالاً وحتى العاصمة جنوباً ويمتد غرباً باتجاه الحدود الأردنية والسعودية التي لا تبعد كثيراً عن كربلاء، أما في المناطق الشاسعة غير الخاضعة لسيطرة داعش ولا المتاخمة لجبهتها فهناك جو سائد من الهدوء الزائف: فالمحلات تعجّ ببضائع المستهلك والإلكترونيات، والأسواق تضج بالحركة والنشاط، حتى أن فنادقَ جديدةً تُفتتحُ في مدنٍ كالنجف لاستقبال الزائرين ليس من الحجيج فحسب بل من رجال الأعمال أيضاً الذي يتوافدون من العراق وإيران ودول الخليج. في وسع المرء أن يتنقّل عبر هذه المناطق كما قمنا أنا وزميلتي ماريا فانتابي في أيلولسبتمبر من دون أي مخاوف أمنية (لكن موجةً من الاختطافات في بغداد استهدفت أغنياء العراقيين وعمالاً أتراكاً تذكرنا أن الحذر واجب وأن على المسافر التنقل بهدوء دون استرعاء الانتباه والأنظار).

لكن توتراً مرتفعاً يقبع تحت سطح هذه الهدوء الكاذب، ففي كردستان نشب خلافٌ علني بين الحزبين السياسيين الرئيسيين حول خليفة الرئيس الذي طالت مدة حكمه مسعود برزاني (سبق أن مُدِدَ له قبل عامين باتفاق سياسي) والذي انتهت ولايته يوم 19 آبأغسطس لكن ما يزال محتفظاً بكرسي منصبه، كما أن سلسلة من الأزمات الاقتصادية عصفت بالبلاد وأدخلتها في حالة ركود اقتصادي، مثل انهيار أسعار النفط وتكلفة الحرب على داعش وتنامي أعداد اللاجئين والمشردين داخل البلاد إضافة إلى تعطل العمل باتفاقية تقاسم الموازنة مع بغداد. المواطنون العاديون حانقون لأنهم لم يتسلموا رواتبهم المتأخرة في القطاع العام، والبشمركة – مفخرة المقاتلين الأكراد – خسروا شيئاً من بريقهم بعد توغل داعش.

في بغداد والجنوب العراقي حيث الغالبية والسيطرة الشيعية خرجت احتجاجات شعبية كثيرة في آبأغسطس على انقطاع التيار الكهربائي وعلى الفساد المتفشي وسوء خدمات الحكومة، مما دعى رئيس الوزراء العبادي إلى إعلان بضعة إصلاحات عاجلة. وبعيد استيلاء داعش السريع على الموصل وغيرها من أنحاء البلاد في حزيرانيونيو 2014 اختير العبادي من قبل حزبه (حزب الدعوة) لرئاسة الحكومة خلفاً لزميله من حزب الدعوة أيضاً نوري المالكي الذي صُبت لائمة الهزيمة النكراء عليه. لكن العبادي الذي ينقصه دعم باقي الأحزاب يبقى ضعيفاً في مساعيه لإحداث سلسلة من التغييرات، فبعد الاحتجاجات قام بحل عدة وزارات بين ليلة وضحاها كما ألغى منصبي نائب الرئيس ونائب رئيس الوزراء (كلاهما يشغلهما 3 أشخاص)، وأطلق حملة واسعة لمراجعة رواتب القطاع العام. إن إصلاحاً شاملاً سيتتطلب منه عقد تحالفات سياسية في البرلمان لدفع عجلة التشريعات المؤجلة، لكنه خرق لنفسه عداوات مع أعضاء برلمانيين عندما اختصر نصيبهم من أفراد طاقم الحراسة (البودي غارد) من 30 إلى 8 في خطوة تقشفية للمصاريف – أي أن مقدارَ أي تقدم يُرجى ضئيلٌ جداً.
إن كان رد فعل العبادي تجاه احتجاجات الشارع قد اتسم بالسرعة القصوى العاجلة غير المعهودة، فذلك ليس سببه خوفه من حركة مشابهة "للربيع العربي" والتي قد تقلب نظامه الذي يرأسه رأساً على عقب، فالعراق فيها انتخابات دورية والحكومة الحالية عمرها يربو قليلاً على العام، وهي قد لا تكون حكومة فاعلة كثيراً لكنها على درجة من الشرعية والدعم. إلا أن مصدر قلق العبادي هو خصومه السياسيون الذين تدعمهم الميليشيا والذين قد يستغلون فورة الشارع على حسابه لانتزاع السلطة.

خوفه هذا مبرر، فالجيش العراقي في حالة يرثى لها إذ لم يتبقى فيه سوى بضعة وحدات حربية فاعلة إضافة إلى قوة من قوات مكافحة الإرهاب المدربة أمريكياً تبقت من انهيارها الفادح عام 2014. إن مراكز القوة في العراق الآن تكمن في أماكن أخرى أهمها القيادة الدينية في النجف ووكلاء إيران نفسها في البلاد. ومنذ دعى آية الله السيستاني في يونيوحزيران 2014 للحشد الشعبي ضد داعش ظهرت عدة ميليشيات مسلحة مسؤوليتها المباشرة محاربة داعش، حيث يقوم المتطوعون للانضمام بمراجعة أقرب مركز عسكري أو مركز شرطة أو مقر حزب سياسي في مناطقهم (بغداد وجنوب العراق)، ليتم بعد ذلك إرسالهم إلى الجبهة والمشاركة في معارك محددة ضد داعش.

لكن الحشد الشعبي ذاته منقسم، ففي حين أن البعض منهم من أتباع السيستاني ويندرجون تحت لواء الجيش، نرى آخرين بنظام مختلف وأهداف مختلفة ولا يمكن التعويل عليهم لدعم العبادي. المجموعة الأولى والتي تعرف بـ"حشد السيستاني" هي مجموعة غير منظمة من الشباب الذين تسميهم المرجعية "المتطوعين" بدلاً من "الحشد"، معظمهم نالوا تدريباً بدائياً وليست لديهم دوافع كبيرة لتحرير المناطق السنية – والكثير منهم قُتِلوا. من جهة أخرى هناك مجموعتان أخريان في الحشد تندرجان بصورة أو بأخرى تحت القيادة الإيرانية المباشرة: أولاهما مجموعة "حشد سليماني" وهي ميليشيا مدربة تدريباً جيداً ومسلحة وتشرف عليها قوات القدس الإيرانية تحت إمرة القائد قاسم سليماني بطلٌ من الحرب العراقية الإيرانية تمختر على الصفوف الأولى في المعارك ضد داعش وصوّر نفسه بصورة مخلص البلاد، أما ثانيتهما فهي مجموعة حشد الولاية الثالثة من أنصار سلف العبادي في رئاسة الوزراء، نوري المالكي، والذي يقال أنه يحاول العودة لمنصبه بقوة ميليشياه وطموحه المتعطش (إلا أن فيلق القدس الإيراني لا يدعم المالكي شخصياً بل يدعم أي شخص يريد دعماً من إيران يكون أهلاً لثقتها في تنفيذ أوامرها).

إن تعدد مشارب المقاتلين وقائديهم هذا أمرٌ تحار له الأعين لدى مشاهدة المعارك الكبرى إذ ترى عدة خطوط قيادة وتداخلاً في الاستراتيجيات كما كان هو الحال في تكريت في نيسانإبريل. غياب التنظيم والتنسيق هذا لا يبشر مستقبل الهجمات ضد داعش بالخير خاصة في مناطق مثل مدينة ومصفاة نفط بيجي الاستراتيحية الواقعة منتصف المسافة بين بغداد والموصل والتي تأرجحت السيطرة عليها يمنة ويسرة خلال العام المنصرم، كذلك الأمر بالنسبة لمدينة الرمادي غرب بغداد والتي سقطت في يد داعش في أيارمايو 2015. لكن الغنيمة الكبرى، الموصل ثاني أكبر مدن العراق وأكبر مدينة خاضعة لداعش – تبدو بعيدة المنال الآن خاصة أن حرب تحريرها كثيراً ما تُرجأُ لنقص القوات الكافية لأداء المهمة.

في الوقت ذاته ازدادت إيران جرأةً في تأكيد نفوذها، وحتماً لم تكن هذه نية المرجعية: فشتان ما بين تأسيس قوى عسكرية مسلحة للدفاع عن أرض الوطن ضد الغزو الداعشي الشرس من جهة، و بين تسليم عهدة هذه القوى لمطامع جارة العراق القوية والتي تسعى إلى تأمين دولة عراق شيعية مسالمة لها وتحت وصايتها من جهة أخرى. وقد انتشرت الشائعات مؤخراً حول الإحباط العراقي إزاء التدخل الإيراني، فقد قيل أن السيستاني كتب رسالة إلى خامنئي منتقداً فيها وبشدة قائد فيلق القدس قاسم سليماني على تصرفاته غير اللائقة بضيف أجنبي على العراق كما يجب بل لتصرفه كمن يخال نفسه القائد الفعلي لهيئة أركان الجيش العراقي، هذا بينما أشيع عن العبادي أنه طرد سليماني من اجتماع لمجلس الأمن الوطني وأمر بتفتيش الطائرة التي أقلته من طهران.

منذ الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003 والسيستاني وأتباعه يدعمون نظام دستورياً مبنياً على سياسات شمولية لكل الأطياف (ولعلهم وجدوا ذلك الأسلم لهم وللبقاء الشيعي في موزاييك العراق الإثني والديني والسياسي). لقد رأوا في ظهور المجموعات المسلحة بُعيد تفكيك الجيش العراقي وفي الحرب الطائفية التي ستليه بين الميليشيات الشيعية والمتمردين السنة بمثابة خطر على استقرار العراق على المدى البعيد.لقد أفلحت "الغارة" الأميركية على القاعدة في العراق عام 2007 مع الصحوة السنية ومع استعداد المالكي لنصرة ميليشيا الشيعة – كلها عوامل أفلحت في إعادة المارد إلى قمقمه.

بعد انسحاب الجنود الأميركان مع نهاية 2011 ظن الإيرانيون أنهم سيبسطون نفوذهم المباشر على حكومة بغداد الشيعية، ولم تَبْدُ قوة الميليشيات جذابة ولا مهمة في أعينهم. وفي السنوات الأولى من الحرب في سوريا تقاطعت المصالح العراقية الإيرانية المشتركة إذ تدفّق العديد من مقاتلي العراق الشيعة إلى سوريا تحت ذريعة حماية جامع السيدة زينب الضريح الشيعي الهام في ضواحي دمشق الجنوبية، لكنهم فعلياً كانوا يدافعون عن نظام الأسد المدعوم إيرانياً. لكن هذا المشهد تغير جذرياً لدى قيام المالكي بعزل السنة وبتجديده استعداده للتغاضي عن المجموعات الشيعية العسكرية الموازية للجيش بعيد دخول داعش الساحة. ما عاد العراقيون يكترثون للحرب في سوريا، فالحرب الآن تقرع أجراسها في عقر دارهم، وبدعوة السيستاني للحشد الشعبي تكون إيران قد استغلت فرصة استخدام الميليشيات لتوجيه الهجمات العراقية قدر المستطاع.

لهذا تبدو قدرة السيستاني على ممارسة نفوذه في توجيه سير البلاد هشة، فمنذ الاحتلال الأميركي عام 2003 لعبت المرجعية دوراً بارزاً في السياسة الوطنية، مقدمةً التوجيهات السياسية والأخلاقية للسياسيين في مواضع القيادة عند المنعطفات الحساسة، فمثلاً عام 2003 أصر السيستاني أن يخط الدستورَ عراقيون منتخبون انتخاباً شعبياً، لا عراقيين تعينهم أميركا، مما ضمن ولوج الشيعة إلى سدة الحكم، كما لبى الجميع دعواته اللاحقة للشيعة بعدم الرد على استفزازات القاعدة التي استهدفت ضربهم في الأسواق والمساجد حتى انقصم ظهر البعير غداة انفجار سامراء 2006 والذي انفجرت معه سلسلة مرعبة من الأعمال الانتقامية المروعة والمتبادلة. لكن آية الله الأعظم كان على الدوام متردداً يُحجِمُ عن ممارسة سلطة سياسية مباشرة على شاكلة نظام ولاية الفقيه الإيراني – أي حكم رجال الدين.

لم يستغرب المراقبون عن كثب نداء السيستاني للجهاد ضد داعش، لكنهم رأوا فيه تأكيداً لقوة المرجعية، وفي ظل ضعف مؤسسات البلاد السياسية وفشل مؤسستها العسكرية بدأ الكثير من العراقيين يتقبلون هذا التدخل الموسع في أمن البلاد. بالفعل وعلى الرغم من النفور العام من تدخل الفرس في العراق إلا أن البعض يولي أنظاره شطر الشرق بعيون ملؤها الحسد ترى جارتها دولةً نووية مستقرة صاعدة تستعد للدخول من جديد في أوساط المجتمع الدولي في حين أن حال بلادهم المشتتة يرثى له. لعل في ولاية الفقيه دواء ناجعاً؟ بعض أفراد نخبة شيعة العراق يقولون أن نظام ولاية الفقيه الإيراني قد يشكّل الجواب الشافي لعِللِ بلدهم، وهم ينتقدون السيستاني لعدم إظهاره الحزم الكافي والقوة الكافية في تدخله.

لكن لا يبدو أن المرجعية تشاطرهم الرأي، فكما أخبرنا مساعدٌ لآية الله في كربلاء فاستقرار العراق مصدر القلق الأهم للسيستاني، فهو لن يسمح للمالكي في منصب رئاسة الوزراء أن يحوّل العراق إلى ملعب في حديقة إيران الخلفية أو إلى ساحة للوغى بين طهران وواشنطن، كما لن يسمح لداعش بالتقدم. ويقال أنه ضجرَ على وجه الخصوص من جيل الأحزاب الدينية ما بعد عام 2003 التي نخرها الفساد حتى النخاع رغم أنها لا تفتأ تستشهد باسمه وباسم الله عند كل منعطف لتصطبغ بالمشروعية.

كما أن السيستاني يدعم الإصلاحات الشاملة خاصة لمحاربة الفساد الحكومي، لكن هناك إجماعاً خفياً في الأوساط الدينية على أن نفوذ رجال الدين السياسي له حدوده، فكما قال رجل دين: "يريد العراقيون أن يحكم الدين ولا يريدونه في الوقت نفسه، لذلك ينتهي بهم الأمر بتقبله على مضض مؤقتاً من أجل تأمين وضع يتيح لهم حرية ممارسة دينهم" (وقد اكتشفتُ أن رجال الدين الشيعة العراقيين قد يشجبون تدخل الدين المباشر في السياسة لكنهم يستمتعون بالتحدث عن السياسة بإسهاب واستطراد مع زائر).

إن ما كشفته وعرّته داعش وأزمات الحكومة هو إفلاس الطبقة السياسية التي خرجت بعد 2003 والتي أساءت إدارة البلاد وخربتها بعدما تسلمتها من قوة عسكرية أميركية كانت هي ذاتها غير قادرة على إدارتها. فهذه الأحزاب مثل حزب الدعوة الذي يضم المالكي والعبادي ومؤسسة بدر والمجلس الإسلامي الأعلى في العراق على سبيل المثال لا الحصر جميعُها وإن كان معها الحق في شجب نظام صدام حسين على قمعه واستبداده، إلا أنها جميعها استنسخت هيكل حزب البعث وطرقه، فهي كلها متحفظة على أسرارها ومريبة وغير ديموقراطية، وإن كان حكمها لم يتّسم بالقمع المنهجي الذي ميز سابقها -البعث- فإن السبب الوحيد وراء ذلك هو فشلها في توحيد قواها بالطريقة إياها، كما أنها تمارس نشاطها في مجتمع لا يداري احتقاره لحكمها غير أنه يذعن لها نظراً لغياب بديل أفضل. إن مأساة عراق ما بعد 2003 هي أن سكانه من الشيعة أو السنة الخاضعين لداعش أو الأكراد تحت إمرة برزاني – جميعهم ممعنون في الاعتماد على طرق الحكم القمعية ذاتها.

وهذا قد يفسر حقيقة تشابه هذه الأحزاب ببعضها البعض وغياب الفوارق بينها – عدا عن اختلاف الشخصيات الملونة التي تقودها. ولعل الفرق الهام الوحيد الذي ظهر حديثاً يخص وجود إيران المباشر والمرئي منذ وصو داعش. لقد انقسم المجتمع الشيعي ما بين مؤيد للتوازن بين إيران وأميركا القوتان اللتان تتشاركان المصالح في العراق، وبين مؤيد لاستغلال صعود قوة إيران في دحر داعش وإحكام قبضتهم هم على السلطة. أما المرجعية فتؤمن بالتوازن، يدعمها في ذلك رئيس الوزراء العبادي (والذي قدره الآن في كف نجاح إصلاحاته ودعم السيستاني المستمر له) إضافة إلى عدة أحزاب شيعية.

لكن من غير المفهوم كيف لهذا التوازن أن يتحقق إذا كان لحزب الدعوة -حزب العبادي- فصيلٌ يرأسه المالكي تدعمه إيران ويعمل في الوقت ذاته على زحزحة العبادي عن كرسيه. وقد وثب مسؤول في حزب الدعوة في كربلاء ليدافع عن المالكي، مصراً على أن حزب الدعوة عراقي أصيل وأن العلاقات الإيرانية مبنية على الأرضية الدينية المشتركة وحسب، ومدعياً أن المالكي لم يستنجد بالطرف الإيراني رغبةً في معارضة أميركا أثناء توليه الوزارة حسب ما يعتقده أغلبية العراقيين بل أنه كان في حقيقة الأمر يعمل على حفظ التوازن بينهما. كما ادعى المصدر أن السعودية شجعت تصويره بمظهر وكيل إيران وعزلته مما حدا به بالطبع إلى اللجوء إلى أحضان طهران، والأهم من بين أقوال هذا المسؤول أن حزب الدعوة لا يعمل بمبدأ ولاية الفقيه "فهذا مفهوم إيراني، أما نحن فنؤمن بمبدأ ولاية الأمة على نفسها".

وسواء كانت هذه العبارة صحيحة أم لا فالأمر مطروح للتساؤل، لكن عبارة مثل هذه وفي أيامنا هذه بالذات تفوح منها رائحة الثورة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد