ما إنْ تشتد المعارك حتى يتقاسم المصورون شوارع سراييفو بانتظام ووفق خطة محكمة تضمن تغطية كل المناطق والأحياء، يثبتون كاميراتهم في الزوايا المناسبة، ويديرونها بصفة مستمرة. على مدار الساعة يُخرجون شريطا ويضعون آخر، على أمل اصطياد صورة مميزة، قذيفة أو قتيل، بيت ينهار أو طفل يصرخ. شريط الصورة هنا يفيد أن امرأة كانت تسير بجوار البناية التي يعتلي سقفها المصور وهي تدفع عربة رضيعها وبصحبتها طفلها الآخر، استهدفتها رصاصة قناص صربي فسقطت قتيلة في الحال فيما ظل الطفلان يصرخان، شريط الصوت المصاحب سجل صوت المصور البوسنوي وهو ينطق بعبارة استفزازية "الرصاصة قتلت المرأة.. رائع.. ممتاز!"، الرجل لم يكن بالتأكيد فرحا بالحدث وإنما سعيد بصيده، لقد وثّق الجريمة، لكن كل من شاهد الصورة وسمع الصوت وفهم اللغة استنكر رد فعله.
في حياتهم المهنية، كم من مرة يرى فيها هؤلاء التعساء من مصورين وصحفيين الموت وهو يأتي كطائر تنقشع السماء فجأة عنه ليخطف هذه الروح أو تلك؟ كم مرة سمعوا فيها صرخات الضحايا الأليمة، ونظرات عيونهم المفجوعة، وحشرجة أصواتهم الأخيرة؟
في رواندا كانت الحرب الأهلية قد وضعت أوزارها إلا قليلا، قبيلتان تتصارعان بوحشية، واحدة سمحت لنا بزيارة معسكر اعتقال للآلاف من أبناء القبيلة العدو، الحافلة التي ضمت صحفيين من كل أنحاء العالم قطعت ساعات تسير في غابات غاية من الجمال، وكأنها الجنة، ما إن عبرنا بوابة المعسكر إلا وتحول المشهد فجأة إلى ما يشبه الأبيض والأسود، أرض جرداء، وهياكل آدمية تتحرك هنا وهناك، وقليل من العسكر المدجج بالسلاح، لا طعام ولا ماء، كل ما هو أخضر يُنتزع حتى عشب الأرض، ويطهى في أشباه قدور على نار يمكن افتعالها بصورة أو بأخرى.
على جانبي الممر المؤدي إلى داخل المعسكر جثث أطفال رُضّع ماتوا جراء سوء التغذية، وسيارة الصليب الأحمر تلملم جثثهم، الناس هنا تموت بالمجان، والتعليمات لنا كصحفيين واضحة، من يمنحهم كسرة خبز يُقتل مهما كانت جنسيته، على الأرض إنسان ممدد، لا يتحرك منه إلا عيناه، يحتضر، نلتف نحن التعساء حوله بكاميراتنا، جنسياتنا مختلفة، عقائدنا مختلفة، ألواننا مختلفة، عجزنا واحد، ينظر إلينا ونحن نصوره في نزعه الأخير، يستجدينا، يستعطفنا، ونحن عاجزون، تدور عيناه بيننا، ولا نعرف ماذا يدور في خلده، قبل أن يغمضهما للأبد، ننصرف نحن لكن الألم لا ينصرف.
نساء يدخلن إلى قاعة ضخمة مهيبة، الرائحة النفاذة ستعلق بي لأيام عدة، دقات قلب الحضور تتسارع، الرهبة في كل الأنحاء، طاولات طويلة تبدو وكأن لا نهاية لها، عليها رصت عشرات الهياكل العظمية، وحول كل واحدة منها بعض المتعلقات، خاتم زواج، فردة حذاء، قلم، بقايا نظارة طبية، تمر النساء البوسنويات عليها، تمسك كل واحدة بالعظام، تديرها يمنة ويسرة، تبحث عن دليل يثبت أن هذا لولدها أو زوجها أو شقيقها، أي دليل على أن هذا هو ما تبقى من حبيب العمر، ترى أي كلمات عبقرية تلك التي بوسعها وصف الحال، تنفجر إحداهن في البكاء فتعرف الأخريات أن زميلتهن تعرفت على جثة قريبها، تناقض غير عادي، إنهن يعزينها في فقيدها ويهنأنها في نفس الوقت أنها أخيرا وجدته، فيما هن مازلن حائرات، ألم لا حد له، نسجل اللحظة ونغادر، لكن الألم يبقى.
شريط الذكريات لا يهدأ، طفلة فلورا، المدينة الألبانية الجميلة، وهي تحكي لي عند الشاطئ أن أباها قد خاض مغامرة الهروب إلى الناحية الأخري حيث إيطاليا، وحيث وعدها باللعبة التي تشتهيها، ولا تعلم أن البحر الفاصل يشتهي الإنسان أحيانا فيضمه للأبد.
أشد ما يؤلم دوما مشهد الأطفال، هم يدفعون ثمن غباء الكبار وتوحشهم وجشعهم، طفل توزلا البوسنية الراقد على السرير مصابا في حالة ذهول بعد أن ذُبح أفراد أسرته بأكملهم أمام عينيه، الطفلة الصومالية في كوخ صغير كالقرطاس في أطراف مقديشيو وفي طقس حار لاهب وقد بدا وجهها مثل عجوز في السبعينيات، الصبي في أطراف مدينة شالي الشيشانية ممدد على شبه سرير في شبه مستشفى بلا غطاء ولا مخدر، وقد أحرقت قنابل بوتين معظم جلده.
عندما تسافر كثيرا تشعر أن هذه الأرض مهما امتدت هي بيتك، وأن ساكنيها مهما اختلفوا هم أهلك، يفرحك فرحهم ويحزنك حزنهم، لكن هل يظل بوسعك إذن أن تتحمل كل هذا الألم؟
الدكتور يوسف إدريس هجر مهنة الطب إلى الأدب، بعد أن شعر أن قلبه لم يعد يتألم إزاء آلام الناس، تماما كما فعل محمد المنسي قنديل، فهل أغنتهما الكلمة عن الألم؟ هل يمكن أن يتوقف الإنسان عن الألم؟
يوما وفيما كنت أغطي أحداث حرب البوسنة، وجدتُ مراسلة لشبكة عالمية تسأل مترجمتها ماذا عن هذه الحالة، فترد المترجمة اغتصاب، فتقول المراسلة اصرفيها أريد حالة أشد، وهذه، فترد ذبحوا زوجها، فتعاود المراسلة بوجه عبوس، لا لا، أريد أشد، وهذه العجوز، وتستمر هكذا في التعامل مع "الحالات" بدم بارد وأعصاب حجرية.
أسأل نفسي هل يجب أن أكون هكذا حتى أكون مهنيا؟ هل عليّ أن أكتم ألمي وأكتفي بتوثيق اللحظة، وأتعامل مع "الحالات" ببرود، أو أن أبقى إنسانا، أتألم لهذا وأبكي لذاك؟ هل يمكن أن تكون إنسانا وأن تكون مهنيا في ذات الوقت؟ وهل في القلب متسع لكل هذا الألم؟
أحيانا يصيب العجز والشك والاكتئاب الذين ينقلون الصورة، إنهم يتشككون في جدوى ما يفعلون، وماذا تفعل الكلمة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية لأناس في حاجة إلى شربة ماء أو دواء، أو ضمادة توقف الجرح النازف، لكن هل يتحرك العالم إلا على وقع الكلمة؟
مللتُ يوما من إيقاع الحرب في البوسنة والهرسك، فقررت الذهاب إلى الشيشان في حربها الأولى بين عامي أربعة وتسعين وستة وتسعين من القرن الفائت، في المرة الأولى بقيت هناك حوالي ثلاثة أسابيع، وفيها عشت أياما من أصعب أيام حياتي، حتى أني شعرت بالأمان والسعادة وأنا عائد إلى البوسنة بكل مآسيها الجارية، ذلك لأن ما كان يحدث في الشيشان أشد فداحة من الحاصل في البوسنة، لكن الناس لا يعلمون، لأن الإعلام الدولي -لغرض في نفس يعقوب- قرر والحرب جارية أن يتوقف فجأة عن التغطية، وكأن الحرب انتهت، وكأن الناس لا تموت كل يوم، وكانت حصيلة رحلتي مساهمة في أن يعلم الناس.
في الشيشان تملكني الخوف كثيرا، لا بنية تحتية يمكن أن تحتمي بها، الطائرات الروسية تقذف من السماء عشرات القنابل، أطنان من الحديد تسقط فوق رأسك، لا مخبأ منها إلا بيوت خشبية ترقص مع دوي القنابل، كلمات المقاتل الشيشاني ترعبني، إذا ما أُصبتَ ليس لك إلا أن تتحامل على نفسك لتذهب إلى أقرب وحدة علاجية، أو أن تبقى في انتظار الموت، إذن لن يرى أطفالي حتى جثتي، لن يحتضونها وهم يقرأون الفاتحة.
المقاتل يعتقد أن البندقية قد تحميه من بعض الأذى، فماذا يحمي الصحفي؟ الصحفي يخاف الحرب وهو يخاف أيضا الاعتقال، لا تعلم كيف سيمثل بك، ولا كم ستبقى أسيرا في قبضة من يعتقد أنك عدوه حتى وإن صدق أنك صحفي. في كل مرة أعود إلى بيتي أقرر ألا أعود إلى الحرب، لكن بعد حمام ساخن، وفنجان من القهوة، والتفاف الصغار وأمهم حولي أتراجع عما عزمت عليه وأقرر العودة.
تمر الأيام والسنون، وتعتقد أنك هزمت الخوف وهزمت الألم، لتكتشف أنك نجوت غير أن روحك امتلأت عن آخرها بالندوب، يقولون أنه كرب ما بعد الصدمة، ويقول الدكتور حمزة الشرجبي "لا تعود الحياة على ما كانت عليه بعدما يُطلَق عليك الرصاص، ولا بعدما تشهد جرائم ضد الإنسانية أو تتعرض للتعذيب، قد تكون هذه معلومة بديهية للبعض، لكن ما يغيب عنا أن التعرض لهذه الأخبار والعمل عليها بشكل مطول يؤدي أيضا إلى نتيجة مشابهة".
ويصف أعراضها بالتوتر النفسي والجسدي العام الذي ينتج عنه الأرق، حدة الطباع، صعوبة التركيز، الفزع، "وأشد الأعراض خطورة هي فقدان الإيمان بما كان يحركنا سابقا، والشعور بالعزلة، ليدخل الشخص في دوامة عميقة من الشعور بالذنب والعجز".
أستعيد شريط الذكريات، أحاول أن أثمن ما فعلت لعله يعزيني الآن، يسعدني شعور أنني فعلت شيئا، شيئا ما، أو حتى أسهمت في فعل شيء، حتى ولو كان مجرد إشارة في اتجاه الجناة، أو حتى شهادة أمام الله وأمام التاريخ.
تفرح أنك تغلبت على الخوف، أنك هزمت الألم، فضحته أمام عيون العالم، انتصرت عليه، لكن سرعان ما تكتشف بعد سنوات عمرك الطويل أنك وإن هزمته ظل عالقا بك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.