هل يمكن أن تقع في غرام مدينة؟ وهل يمكن أن يكون ذلك من أول نظرة؟ هل يمكن أن تقضي وقتا تفكر فيها وتحلم بها، تفتقدها وتشتاق إليها؟ وهل يمكن أن تواصل جنونك لتعتقد أن المدينة تبادلك حبا بحب، وأنها تستقبلك كما المحبين مرة بشوق ومرة بغضب، وأنها تضمك أحيانا وتدفعك عنها أحيانا أخرى؟ مهما كانت إجابتك، هذا ما حدث لي.
في اليوم الثاني لغزو صدام للكويت من شهر أغسطس لعام تسعين من القرن الماضي، وفي عربة القطار المتجه من مدينة بياليستوك البولندية إلى العاصمة وارسو، تعرفت على محمد على حاجيتش، إمام بالمشيخة الإسلامية، قال بعربية فصحى لذيذة إنه من بلاد بعيدة عنا، أصغيت ومن معي من العرب له، حدثنا عن بلاده وشعبه، ماضيه العريق ومستقبله الغامض، تكلم بخوف وقلق وإثارة، أي تحدث بحب، طلب أن أزوره، عاهدته على ذلك، بعد أن تملكني شعور الباحث عن الكنز المخبوء.
أسابيع قليلة وكنت هناك، في مطار العاصمة استقبلني الرجل، وكان بصحبته صديقه آفديا حضروفيتش، والرجلان توليا لاحقا مناصب حساسة داخل وخارج بلادهما، أصر الشيخ محمد أن أقيم في بيته، جاءت زوجته وأولاده، ووجدتني في جلسة دافئة عائلية، وكأني فرد منهم عدت للتو من سفر طويل، ما لذ من طعام وشراب وحلوى وشاي وأحاديث، كل شيء رائع، سألوني بغتة هل يعلم قومك أننا هنا؟ هل يدركون ماذا في انتظارنا؟
أدون وأحفظ كل ما يقوله الشيخ محمد، جملته الأخيرة لم أسمعها، تملك الجمال عينيّ حين دلف بي ونحن نسير صبيحة اليوم التالي إلى باش تشارشيا، لاحقا سأحفظ اسمها جيدا، وستصبح مكاني المفضل في هذه المدينة الصغيرة.
مساجد عتيقة، وأزقة مرسومة بعناية، وسبيل ماء يتدفق للعطشى، وحمامات يزاحمن المارة وصغار يُطعمونهن، ورائحة شواء تملأ الأجواء، شباب وفتيات وكأن المدينة لا تلد سواهم، أما الحُسْن فهو بلا منازع سيد المكان، مشهد لم تنعم به نفسي من قبل وأنا الساكن في ذاك الحين في أوروبا، المسألة ليست في الجمال رغم أنه أخاذ، المسألة في الروح، ثمة شيء غريب لا أعرفه، لكني وقعت في أسره، هل يحب المرء المدن التي تشبهه؟
مزيج غريب بين الشرق والغرب، الملامح أوروبية والروح شرقية، والناس من ثلاث طوائف: بوشناق مسلمون سنة، وكروات كاثوليك، وصرب أرثوذكس، وثمة يهود قليون، إن رأيتها من هذه الناحية فهي إسلامية بمآذنها التي زادت عن الثمانين، وبمسابح العجائز، وبتحية الناس عند الوداع "الله إيمانت"، أي في أمان الله، وإذا رأيتها من ناحية أخرى فهي ليبرالية في السلوك والملبس إلى حد النخاع.
وإذا خرجت من باش تشارشيا، ستجد النهر يمر وسط المدينة، وأول ترام في أوروبا، وجبال بهية تحيط بالمكان، وشوارع تصعد بك وتهبط، فهي ليست أرضا سوية، وجداول ماء في ضواحيها، ولون أخضر جميل يغطيها صيفا، وأبيض ناصع يغطيها شتاء، فيها شيء من وصف الجنة، وهأنذا قد وقعت في الحب ومن أول نظرة.
لم أكن أعرف أني أعيش التاريخ، حين حضرت استفتاءً قررت فيه البوسنة الانعتاق من يوغسلافيا، ومؤتمرا أول لحزب العمل الديمقراطي الممثل للمسلمين، وانتخابات رئاسية يفوز بها مناضل خرج للتو من معتقله اسمه علي عزت بيغوفيتش سيصبح ملء الدنيا لاحقا، والرصاصات الأولى التي انطلقت تعلن افتتاح الحرب، ثم سنوات عجاف منها.
حوصرت المدينة، وحُرمت من الماء والكهرباء والطعام والتدفئة في شتاء تصل برودته إلى عشرين درجة تحت الصفر، قطع الناس أشجار المدينة ليحتموا بنارها. تعرت سراييفو، جاع أهلها، وقف أعزة القوم بلباسهم الفاخر في صفوف المحتاجين أمام الهيئات الإغاثية يشحذون كسرة خبز وحليب للأطفال، ووقف الناس في السوق يبيعون أثمن ما لديهم بثمن بخس، أغلقت البنوك وأفلست وطارت المدخرات، توقفت الأعمال، اغتُصبت الحرائر، جُرحت النفوس، ما من بيت إلا وبه مصيبة. باتت سراييفو نحيفة، شاب شعرها، وغطت التجاعيد وجهها، أصبحت كامرأة عجوز تحمل ملامح جمال قد ولى، غير أني لازلت مولعا بها، وأتمنى لو أستطيع أن أضمها كلها بذراعي.
تجوع وتقاوم وتناضل ثم تنتصر، وأحضر لحظات إعلان نهاية الحرب، ويخرج الناس إلى الشوارع، وفي كل واحد منها قصة شهيد، يعود المهجرون، تخضر المدينة، تزهر، تبتسم، تزيل الركام، تبني البيوت، تكتم حزنها وألمها، تحفّظ أبناءها أسماء شهدائها وقصصهم، في الربيع والصيف تذهلك من فرحها، من سعادتها، من حبها للدنيا، شوارع مزدحمة مكدسة بالبشر، مقاهٍ في كل مكان، أزهار وموسيقى وفرح، ثم تسمع فجأة الآذان. يوم واحد في السنة تصوم فيه سراييفو عن الموسيقى والفرح، ذلك يوم الحادي عشر من يوليو ذكرى مذبحة سربرينيتسا التي راح ضحيتها ما يزيد عن أحد عشر ألف من أبنائها.
سيداتي سادتي، هل كنت محقا عندما وقعت في غرامها؟ هل كنت محقا عندما كتبت يوما: عليك أن تعمل الصالحات حتى تدخل الجنة في الآخرة، أما في الدنيا فيمكنك الذهاب إلى سراييفو.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.