لقد باتت كل الأحاديث التي تخفي في تلابيبها معنىً للوطن تحمل صخباً جماً وثقيلاً على مشاعرنا ، فهي تمزقُ غبارَ الحياة في قلوبنا مستبيحةً تلكَ الفسحة التي خلفها الزمن لنا بين أرواحنا والسماء.
تعرينا من كل شيء إلا الحضور المفاجئ للموت، واللاحياة.
فهي تحمل من الثقل ماله القدرة على تقسيم العمر إلى أجزاءٍ و فتات، وما يجعل من تراتيل الصمت حضوراً واجباً فينا.
تأتي الكلمة الواحدةُ منها لتدوسَ بكل تعرجاتها فكرنا وتطبعَ في تطرفنا للوطن إشارات من التعجب تفضي بنا إلى أفاقٍ من الوجع المتأزم غرقاً ولانهايةً.
ليقبعَ المعنى الأكثر مركزية للوطن في الركن الأقصى لقلوبنا، يجلسُ مقابلاً لجميع المعاني الهشة والتي تحضر في ساحته وتتناحر من أجل الوجود والخلاص.
يقبع الإنسان هناك بين قطعةِ من الماضي و فسحة من المستقبل المبهم وبين واقع مشوه الملامح يجلسُ مهمشاً يلملم عدده وآدواته يرمم أحلامه ويحتضن صور الجغرافية والتاريخ التي تجسد معنى العودةِ في تقطيعات روحه.
تعود تراتيل الحروف والوطن لتصفع جلوسه وتذيع في مسمعيه أن الركون لهذا الثالوث هو موت وقتل للوطن, ينتفض الوقت فيه وتتجلى الحروف تباعاً لتجعل من كل المعطيات وقوداً بأن الإنسان هو الوطن وأن العودة إلى طريق الخلق الجديد هو المستقبل.
يبدأ ينادي المعنى الأكثرَ رقياً من بين المعاني في فضاءات العدم لعلَّ نسمةَ تغيير حقة تقود مركبه نحو دفةَ النجاة, تتراكم الأوقات في ظلال نفسه ويحبط, فكل التجليات من حولهِ لا تراه فالماديات أصبحت أكثرَ حضوراً ولمعاناً على ساحةٍ افترضت منذ البداية أنها له بشكلٍ أساس.
تسعفنا نداءات الحق في دواخلنا لنعي أن الوطنَ رُكن فينا وأن قلوبنا بل وأرواحنا هي أوطان لأوطاننا, لكن التناقض الجم الذي يحصل هو تدافعية كل هذه النقاط بشكل هش أمام ثالوثٍ – قطع الماضي والمستقبل والواقع – مرعب من الطروحات وأمام مادية عصر لا يرى للإنسان قيمة.
وهنا كيفَ على المعنى أن يُعيد المعادلة إلى فيضها الدفاق؟ وكيفَ عليه أن يُعيد بناء الحضارة بمقوماتها الصحيحة؟
بالعودة إلى كتاب شروط النهضة نرى أن مالك بن نبي اختصر معادلة الحضارة على التركيبة الدقيقة والتي محورها هو المعنى الذي تحدثنا عنه فيما سبق وهو الإنسان – مجرداً من أي انتماءات أرضية سوى الانتماء الرباني الذي منحه إياه المولى وهو الإنسانية – :
الحضارة = الإنسان + التراب + الوقت .
ليعود في فقرةٍ تالية موضحاً أن التركيبة هذه يمكن وجودها تلقائياً فيما بينها في الواقع لكن هناكَ أداة خفية تمنح هذه العوامل الثلاثة التفاعلية المطلقة للبناء وعدم الركون للخمول وقد أسماها مالك التركيبة الدينية والتي سأجللها بمسمى التركيبة الروحية التي تعطي لهذه العوامل الثلاثة الفسحة الممكنة للتفاعل ضمن الشروط الملائمة والجيدة لأن يكون كل عامل منتج و مبدع يداً بيد مع العامل الآخر.
يخنقنا الفهم, أين الخلل إذاً؟ ولمَ ابتعدنا في فلسفاتنا عن هذه البساطة في تكوين المعادلات و شروط التفاعلى الحقة..؟
يُترك السؤال مفتوحاً للإجابات الكثيرة.. لكن أضيف بإجابة طفيفة تتمحور حول نقطتين أساس و هما العامل الأول أو المعنى الأسمى في المعادلة وهو الإنسان والنقطة التالية هي التركيبة الروحية الخفية الضامنة للتفاعل أن يتم وفقاُ للشروط المنتجة للحضارة.
لقد تم تشويه المعنيين بصورة فظيعة حتى بات إدخالهما إلى المعادلة يُشكل خللاً كبيراً في الفهم و النتاج الحضاري..
فلابد من صفعةٍ وكلمة لنحيي إنساناً نصلُ به إلى حدود وطن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.