مستقبل اتفاق سلام جنوب السودان

إن وصول جنوب السودان إلى بر الأمان، مرهون بعبور المحطة الأخيرة للاتفاقية ( الانتخابات)، فهذه أو نتائجها قد تكون مناسبة لانطلاق العنف من جديد إذا لم يتغير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد خلال الفترة الانتقالية.

عربي بوست
تم النشر: 2015/09/29 الساعة 07:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/09/29 الساعة 07:15 بتوقيت غرينتش

لم تمض سوى ساعات قليلة، بعد توقيع رئيس جنوب السودان سلفا كير على اتفاق السلام في جوبا يوم 27 أغسطس الماضي، حتى اتهم زعيم المتمردين رياك مشار قوات الحكومة بخرق وقف إطلاق النار. كان كير قد وقع على اتفاق السلام بعد أن هدد المجتمع الدولي بفرض عقوبات على حكومته إذا لم تنضم للاتفاق. لكن كير أثار عند توقيعه على الاتفاق، بحضور بعض قادة دول المنطقة، العديد من التحفظات على وثيقة اتفاق السلام وقد جاءت تحفظاته- حسب موقع فورن بولسي- في 12 صفحة وشملت بنوداً كثيرة.

البداية غير مشجعة؛ خصوصاً وأن لجنوب السودان تاريخاً طويلاً من نقض اتفاقيات المصالحة وحيث فشل، قبل الاتفاق الأخير، ما لا يقل عن 7 اتفاق وقف نار منذ أن اندلعت الحرب الأهلية الحالية في 15 ديسمبر 2013.

الحرب الأهلية: دمار وخيبة أمل
في15 ديسمبر 2013 اتهم الرئيس سلفا كير، الذي ينتمي لقبيلة الدينكا أكبر قبائل البلاد، نائبه السابق رياك مشار، المنتمي للنوير القبيلة الثانية من ناحية العدد، بالتخطيط لتنفيذ انقلاب لتنطلق في نفس اليوم أول شرارة لحرب أهلية مدمرة. في ذلك اليوم الأول حاول الدينكا في الحرس الرئاسي تجريد زملائهم النوير من أسلحتهم، وقاموا لاحقاً بقتل العديد من المنتمين لهذه القبيلة في العاصمة جوبا بمن في ذلك الأطفال والنساء. رد النوير بالمثل في مناطق أخرى. راح ضحية للاقتال بين الفريقين المتحاربين، خلال 20 شهراً، عشرات الآلاف من القتلي وشُرد من ديارهم أكثر من 2 مليون شخص لجأ بعضهم إلى الدول المجاورة. بسبب الحرب الأهلية يتهدد الجوع ملايين الأشخاص الآن كما انتشرت بسببها الحرب الكثير من الأمراض الخطيرة مثل الكوليرا وسوء التغذية. شملت الفظائع التي ارتكبها الطرفان بجانب القتل، التعذيب، والاغتصاب، ونهب الممتلكات، وحرق المنازل وتشريد السكان. أصابت الحرب الأهلية شعب جنوب السودان وأصدقاءه بخيبة أمل كبيرة؛ حيث كان يتوقع أن تنهي الدولة الوليدة الغنية بالنفط معاناة الجنوبيين التي دامت لخمسة عقود.

جذور الصراع الحالي:
تعود الجذور السياسية للصراع الحالي في جنوب السودان إلى مرحلة الحرب الأهلية ( 1983- 2005) عندما انفصل مشار، مع شخصيات قيادية أخرى من الحركة الشعبية لتحرير السودان في 1991 بسبب الخلاف مع جون قرنق قائد الحركة التارخي على طريقة إدراته لها، وشكل ما عُرف باسم مجموعة الناصر. مع أن قيادات تنتمي لمجموعات عرقية أخرى خرجت من الحركة مع مشار لكن قبيلة مشار ( النوير) كانت تشكل العمود الفقري للتنظيم الذي تم تشكيله عقب الانفصال. خاض المنشقون معارك عديدة ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان ودار قتال عنيف؛ على وجه الخصوص بين الدينكا والنوير وقد اُتهمت مليشيات تعرف باسم الجيش الأبيض وتتبع للأخيرة بارتكاب مجزرة ضد الدينكا في بلدة بور راح ضحيتها 2.000 شخصاً.

في 1997 عقد مشار اتفاق سلام مع الحكومة في الشمال لكنه انفصل عنها وعاد مرة أخرى للحركة الشعبية في 2002 ويقال أن ذلك تم بوساطة أمريكية وأوربية في إطار ترتيب البيت الجنوبي تمهيداً لمفاوضات السلام مع الحكومة. تقلد مشار بعد عودته للحركة الشعبية منصباً قيادياً كبيراً وصار بعد موت جون قرنق في يوليو 2005 الرجل الثاني فيها وفي حكومة الجنوب الإقليمية ثم نائب للرئيس بعد الاستقلال. لكن الرجل الذي قرر في يوم من الأيام منافسة جون قرنق على قيادة الحركة الشعبية، بكل ما عرف عن الأخير من كاريزما ومهارات عالية وجماهيرية طاغية وسط الجنوبيين، ما كان ليرضى بقيادة سلفا كير الأقل قدرات وديناميكية. وصل الصراع بين الرجلين إلى ذروته بإقالة كير لنائبه مشار من منصبه في يوليو 2013.

لم تتبن الحركة الشعبية استراتيجية واضحة بالنسبة لمستقبل الجنوب أبان نضالها ضد الحكومة المركزية في الشمال لذا لم تسع لخلق هوية مشتركة للجنوبيين ولم تتبن برنامج للتغيير الاجتماعي وتدرب كوادرها عليه ( مما كان سيخلق لديهم شعوراً بالمسوؤلية تجاه مواطنيهم) بل استثمرت في مظالم الهوية والسلطة في السودان ككل أو كان هذا على الأقل هو موضوع دعايتها وخطابها السياسي. بموت جون قرنق انعدم تماماً أي احتمال للوحدة بين الجنوب والشمال، لكن التجربة أثبتت لاحقاً أن الذي مات مع قرنق لم يكن خيار الوحدة فقط إنما أيضاً فرصة تمتين تماسك التحالف القبلي الفضفاض الذي بناه الرجل أبان قتاله ضد الشمال بما في ذلك الوضع الداخلي في الحركة الشعبية وجيشها الشعبي.

الطريق الطويل نحو السلام
مثلت الحرب الأهلية تحدياً للمجتمع الدولي، وللولايات المتحدة أكثر من غيرها كونها دعمت استقلال جنوب السودان بشدة و يعتبر الحزبان الجمهوري والديمقراطي ( تم التوصل لاتفاقية السلام الشامل في 2005 بتدخل مباشر من إدارة بوش والاستقلال في 9 يوليو 2011 بدعم كبير من إدارة أوباما) ميلاد هذا البلد أحد أهم إنجازاتهما في أفريقيا.

بذل ت دول الإقليم والمجتمع الدولي الكثير من الجهود لإيقاف الحرب وتحقيق السلام. تبنت منظمة الإيقاد التي تضم 8 من دول شرق أفريقيا بما فيها جنوب السودان، الوساطة بين الطرفين وعندما تعثرت هذه الوساطة تم دعمها بأطراف أخرى؛ من أفريقيا تم ضم الجزائر، تشاد، نيجيريا، جنوب أفريقيا ورواند وعلى المستوى العالمي ضُمت دول الترويكا ( الولايات المتحدة، بريطانيا والنرويج)، الصين، الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي. رمت الولايات المتحدة بثقلها خلف جهود الوساطة واجتمع الرئيس أوباما أبان زيارته لأديس أببا في يوليو الماضي برئيسي كينيا ويوغندا، وورئيس وزراء إثيوبيا ووزير خارجية السودان للضغط على طرفي الصراع من أجل التوصل لاتفاق سلام بحلول يوم 17 أغسطس.

بينما وقع رياك مشار زعيم المتمردين وباقان أموم الأمين العام القديم – الجديد للحركة الشعبية ( ممثلاً لمجموعة العشرة الذين اعتقلوا في بداية الأحداث في ديسمبر 2013 وأطلق سراحهم لاحقا، أُعيد باقان إلى منصبه كأمين عام للحركة في يوينو) في أديس يوم 17 أغسطس الذي حدده الوسطاء كموعد أخير للتوصل إلى اتفاق، وقع كير في جوبا بعد ذلك بعشرة أيام مع إبداء الكثير من التحفظات.

حسب اتفاق السلام سيستعيد زعيم المتمردين مشار منصبه كنائب للرئيس وسيعطى فصيله 15% من السلطة في 7 من الولايات التي كانت الحكومة تسيطر عليها بنسبة 100% والولايات هي: واراب، البحيرات، غرب بحر العزال، شمال بحر الغزال وولايات الاستوائية الثلاث. ويعطي الاتفاق 40% من السلطة في الولايات الثلاث المتبقية وهي أعالي النيل، والوحدة وجونقلي للمعارضة المسلحة بينما خُصصت 46% للحكومة وقسمت الـ 14% الباقية مناصفة بين مجموعة المعتقلين السابقين والأحزاب المعارضة الأخرى. وأُعطيت سلطة تعيين حاكمي ولايتي أعالي النيل والوحدة ( يوجد بهما النفط) للمعارضة المسلحة. أما على المستوى القومي فسيكون 53% من السلطة للحكومة بينما ستنال المعارضة المسلحة 33% والنسبة المتبقية البالغة 14% تقسم مناصفة بين مجموعة المعتقلين السياسيين والأحزاب المعارضة الأخرى. تضمنت الوساطة أيضاً إعطاء المعارضة مقاعد إضافية في البرلمان القومي. ووفقاً للاتفاق ستكون العاصمة جوبا منزوعة السلاح وتحت المسؤولية الأمنية لقوات من دول الإيقاد وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة الموجودة أصلاً في جنوب السودان. ستستمر الفترة الانتقالية لــ 30 شهراً تعقبها انتخابات عامة.

بالنظر إلى تاريخ الصراع في هذا البلد وطبيعة تكوينه الإثني وضعف مؤسساته الوطنية وانتشار الفساد فيه ووقوعه في إقليم مضطرب، يتوقع أن يواجه الاتفاق مصاعباً عديدة. أول المؤشرات على تلك المصاعب انشقاق جنرالين عن مشار وإعلانهما رفضهما الاتفاق. وقد يكون الأخطر من ذلك، التحفظات التي أبداها سلفا كير وهي غالباً ما جاءت تحت ضغوط جنرلاته ورجال المليشيا من قبيلته الذين جاءوا من منطقته في بحر الغزال للقتال بجانبه.

من المهم أن يستمر الوسطاء في مراقبة التزام الطرفين بتطبيق الاتفاق وأن يستمروا في التلويح بالعقوبات لمنع خرقه من أي طرف، فكما يتضح من تجربة التوصل إلى اتفاق السلام، لعب التلويح بالعقوبات الدور الحاسم في إقناع الأطراف على التوقيع أكثر مما فعل الشعور بالمسؤولية تجاه شعب جنوب السودان. على المجتمع الدولي الاضطلاع بمهام أخرى بجانب مراقبة الالتزام بالاتفاق إذا أراد ضمان تحقيق السلام والاستقرار في هذا البلد. يجب أن يتبنى المجتمع الدولي عملية إعادة إعمار واسعة تشتمل على مشاريع تنمية واسعة بما يخفف من التوترات الاجتماعية ويوفر فرص عمل للشباب، وأن يسهم في تطوير قطاع التعليم والتدريب، وفي بناء المؤسسات الضرورية لأية دولة حديثة بما في ذلك مؤسسات الرقابة الحكومية والشعبية ومنظمات حقوق الإنسان.

ومن المهم فك الارتباط بين جنوب السودان وصراعات دول المنطقة. لا تكفي فقط مراقبة سلوك الجيران لا بد أيضاً من ضمان عدم تدخل جنوب السودان في شؤونهم وحل أية مشاكل معهم بالطرق السلمية.

إن وصول جنوب السودان إلى بر الأمان، مرهون بعبور المحطة الأخيرة للاتفاقية ( الانتخابات)، فهذه أو نتائجها قد تكون مناسبة لانطلاق العنف من جديد إذا لم يتغير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد خلال الفترة الانتقالية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد