في لحظة ما تضطر أن تلملم أوراقك، تبحث في الرفوف والأدراج عن بقايا ذكريات قديمة اختلطت فيها الطفولة مع الأمنيات، أوائل حروف الهجاء مع تراكيب وترانيم وطلاسم…. في الحب تارة، وفي الوطن تارة، للحياة ثالثة، للحرية رابعة وخامسة للبحر وما شابه….
كل شيء في الأوراق كان جميلاً عدا تصريحات المسؤولين والأمناء العاميين لفصائل وأحزاب فلسطين والشعب الفلسطيني، حيث الانفراجات كانت على شكل وعودات منذ أن تعلمت القراءة قبل عشرين عاماً (الدولة والأمن والتنمية والحرية والتحرير والمقاومة والانتفاضة…)
لم نكن وقتها نحتاج لبرهة من تفكير فوقوف الناس وجلين أمام أعلام تنظيماتهم وأحزابهم أكثر خجلا وخوفاً من علم الوطن، ومع مرور الأيام لم يكبر الوطن بما يتناسب مع حجمنا وطموحاتنا وأمانينا، لقد كان يضيق يوماً بعد يوم، يضيق ذرعاً من نفسه…
تكبر أعمارنا وتصغر معها كثير من المصطلحات وتنكشف معها الكثير من الهالات، أما الشيء الوحيد الذي كان يكبر فيه على غرار أعمارنا هي فواتيرنا، ولا أقصد هنا فواتير "المياه والكهرباء والتأمين الصحي والاتصالات.." بل ما أقصده فاتورة التضحية "الشهداء والأسرى والجرحى والحرب والفساد والسرقات والفوضى والحصار…" كلتا الفاتورتين كبرت مع أعمارنا كأنها ملاصقة له، وكانت أعمارنا هي من تغذيها على مدار السنوات الماضية.
لم يكن معنا مُتَّسَعٌ من الوقت لنكوَّن مفهوماً جديداً للوطن، أو استراتيجية جديدة وصولاً للحرية، فلم يرغب أحد أن يشارك أحد، وظل الوطن طريداً قائماً بين الفعل ورد الفعل، بين القتل والثأر، بين مشروع يريد تكوين أي استقلالية دون الخوض في التفاصيل وبين آخر يريد تكوين جيل الثأر، وانقلب الشباب والشعب لمجموعة من الجنود غير المدربين أو الوقود المشتعل دون أي وجهة واضحة نحو أي مشروع واضح، أما السياسيون فكانوا في نعيم الثورة يتنعمون.
عامل الزمن هو الوحيد الذي راهنَّا عليه، وعليه حَمَلْنَا مصطلحات القومية العربية والتحرر والفدائي والدولة والأمن وكانت جميعها مصطلحات انتقالية، ولم تكن أي مرحلة في مراحل التاريخ الفلسطيني تؤسس لما بعدها، بل كانت مراحل فُجائية تقودها العاطفة أحياناً والثأر وتقودها الأحلام والمخيلات تارة أخرى.
راجعت التاريخ الفلسطيني ورقة بورقة، ونقطة بنقطة شحَّ من المواقف الوحدوية بين الفصائل إلا نادراً، وكل فصيلٍ فيه كان منقلباً على نفسه، حتى تكلَّست جميع مؤسسات السلطة من منظمة المجلس الوطني أولاً ثم منظمة التحرير والرئاسة والبرلمان، جميها كانت حكراً مركزياً على فصيل واحدٍ ومن يريد الدخول بإمكانه لكن من تحت عباءته فقط، فأي دولة هذه التي تريد الاستقلال ويقودها المال المسيس والتمويل والمنح.
منذ البداية كانت لدينا مشكلة مع الشراكة والوحدة، ومشكلة أكبر مع التمويل والدعم والمؤسسات الداعمة والمتلقية للتمويل، ولم يكن لدينا أي خطة اقتصادية أو سياسية حقيقية للانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى منها، وعلى أساس هذه المشكلة طال عمر الاحتلال.
لم تكن مراحلنا التاريخية في الصراع مع الاحتلال متراكمة ولم تسلم أي مرحلة المرحلة التي تليها، بل كانت جميعها قرارات منفردة من قبل مشروع خاص بأحد الفصائل، دون مشاركة الفصائل الكبرى، فانقلبنا رغماً عنَّا لمشاريع إغاثية لا تنموية، تبقينا على قيد الحياة نأكل ونشرب ونأخذ كوبونة المساعدات على شكل رواتب أو مواد غذائية، والحل أمامنا شاخص نهرب منه "مشروع وطني" واضح المعالم للتحرر والاستقلال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع