تقريبا كنت آخر من دخل الطائرة ؛ لأجد زميلي التونسي وزميلتي الفرنسية وقد استبد بهما القلق خوفا أن تفوتني الرحلة المنطلقة من باريس. "كيغالي" كانت وجهة الطائرة ، أما ثلاثتنا فكنا نقصد مناطق الحرب في الكونغو الديمقراطية ، علينا إذن أن نهبط أولا في العاصمة الرواندية ثم نتجه عبر الطريق البري إلى مدينة "جوما" في شرق الجارة الكونغو، حيث تسيطر قوات المعارضة.
في ذلك الحين من شهر يونيو عام سبعة وتسعين، لم تكن لي أي علاقات مع هذه المنطقة، ولم أقم بأي استعدادات أو ترتيبات سوى تشكيل فريقي وشراء بطاقات السفر وركوب الطائرة، وقبل ذلك بالطبع دراسة البحث الذي أُعد على عجل بخصوص هذا الشأن، أما المهمة فهي المراسلات الإخبارية المعتادة من مناطق الحرب، فضلا عن إعداد الحلقة الثالثة من البرنامج الجديد على شاشة الجزيرة "نقطة ساخنة".
بعد عدة ساعات من إقلاع الطائرة تقدم راكب مني ليصافحني بحرارة، "سمعت صوتك فعرفتك، اعتدت مشاهدة تقاريرك الإخبارية على شاشة إم بي سي وقت الحرب في البوسنة"، سألني عن المهمة فشرحت له، وأبدى دهشته عندما علم أننا سنزور رواندا، وسنزور الكونغو – التي كان اسمها حينئذ زائير- لأول مرة، وأننا في كل الأحوال لم نتخذ الترتيبات الكافية، وربما لم نتخذ أي ترتيبات بالمرة، بما فيها تأمين مبيتنا في العاصمة الرواندية كيغالي.
حطت الطائرة مساء، ولم يتركنا الرجل حتى وجد لنا فندقا مناسبا، وفي الصباح مر علينا ليدلنا على الجهة الحكومية التي يجب أن نقصدها لاستخراج الأوراق الرسمية، تلك التي تسمح لنا بالسفر إلى مناطق المعارضة في الكونغو.
"كيغالي" في الصباح غير تلك في المساء، وفي كل حيز جمالٌ إفريقيٌ مميز وخاص، لا يعكره سوى الشعور بأنك تسير على الأرض التي شهدت ذبح ثمانمئة ألف مواطن على مدى مئة يوم، مذبحة بشعة ووصمة عار في جبين الإنسانية، صحيح أنها وقعت قبل ثلاث سنوات إلا أنني صدقا أكاد أشعر بأرواح الضحايا تحوم في المكان.
خمسة وثمانون بالمائة من شعب رواندا ينتمي إلى إثنية الهوتو غير أن أقلية التوتسي هي التي هيمنت على حكم البلاد، إلى أن أطاح الهوتو عام تسعة وخمسين بالحكم الملكي التوتسي ففر عشرات الآلاف من التوتسيين إلى أوغندا، وهناك شكلوا ما أطلق عليه الجبهة الوطنية الرواندية، تلك التي كبرت حتى بادرت عام تسعين إلى مهاجمة القوات الحكومية الرواندية. واستمر القتال بين الطرفين إلى أن وقع اتفاق سلام عام ثلاثة وتسعين.
الحكاية لم تنته هنا ، ففي ليلة السادس من إبريل عام أربعة وتسعين أُسقطت طائرة كانت تقل الرئيس الرواندي آنذاك "جوفينال هابياريمانا" ونظيره البوروندي "سيبريان نتارياميرا" وقُتل جميع من كانوا على متنها، فاعتبر متشددو الهوتو أن جماعة الجبهة الوطنية التوتسية المتمردة هي المسؤولة، وشرعوا في حملة منظمة لإبادة كل من ينتمي إلى قبائل التوتسي.
قتل الجيران جيرانهم، والأزواج زوجاتهم، واحتُجزت الآلاف من النساء واغتُصبن، وساعد على ذلك أن بطاقات الهوية الشخصية في ذلك الوقت كانت تتضمن الانتماء العرقي، فكان من السهل تحديد هوية المواطن التوتسي. واستمرت المذابح، لكن الجبهة الوطنية الرواندية التوتسية تمكنت لاحقا من السيطرة على البلاد ففر ما يقرب من مليوني شخص من الهوتو بعد أن قُتل الآلاف منهم إلى داخل جمهورية الكونغو الديمقراطية التي تأثرت هي الأخرى بما يجري، واندلعت بها الحرب بين المعارضة والحكومة والتي كنت بصدد تغطيتها.
المطار صغير جدا، وإجراءات الدخول تسير ببعض البطء وبكثير من الابتسامات المرسومة على وجوه ضباط الجوازات، حملت حقائبي استعدادا للخروج من منطقة الجمارك والدخول في صالة الوصول ومنها إلى الخارج، غير أنني وجدت نفسي فجأة في الشارع في مواجهة الصديق العزيز معاوية ومساعديه، المسافة جد قصيرة بين الطائرة والشارع.
البهجة تملأ المكان في سبتمبر عام ألفين وخمسة عشر، شتان بين زيارتي الأولى وزيارتي الأخيرة هذه، سألت صديقي عن الأمن، قال بوسعك الخروج في أي ساعة من الليل أو النهار دون أي مخاطرة، الشرطة تتواجد في كل النواحي، لكن وجودها لا يثير الشعور بالفزع، هي حاضرة لفرض القانون الذي يتساوى فيه الجميع.
انتهزت الفرصة لأحكي لصديقي السوداني ومترجمته حبيبة الرواندية عن الفزع الذي تملكني وفريقي عندما كنت قبل أقل من عشرين عاما أقطع الطريق من العاصمة الرواندية كيغالي إلى جوما في شرق الكونغو، كانت المذبحة قد مضت، لكن الناس حذرونا من السير على الطرق خارج المدينة، قالوا لنا قد تخرج عليكم عصابات مسلحة من المزارع على جانبي الطريق، وعليكم أن تحمدوا ربكم إذا اكتفت بسرقتكم.
في مقهى "بريوج" ومع أكواب الشاي بالنعناع استمر الحديث، نسبة الفساد تكون منعدمة، لا رشاوى مطلقا، معدلات النمو مرتفعة، مستوى الخدمات الصحية رائعة إذا ما قورنت بالدول الإفريقية الأخرى، اهتمام مميز بالتعليم، مدارس مجانية، وأولاد الفقراء والأغنياء تضمهم في تساوٍ الأرائك المدرسية ، الطرق أينما ذهبتُ معبدة وتشغل النساء نصف عدد الوظائف في الأجهزة التنفيذية، فيما تزيد نسبتهم في البرلمان عن ستين بالمائة من عدد أعضائه، ووفق القانون أصبح ممنوعا الحديث عن العرقية، ليتحول الوطن إلى بلد مسالم، لا مكان فيه لوطن المذابح والعنصرية.
في الطريق أشار معاوية إلى بناية قائلا "هنا يمكنك التقدم بأوراقك لتأسيس شركة، لتحصل على كل تصاريح العمل خلال مدة لا تزيد عن ست ساعات"، أما أنا فقد سرحت في عالم آخر، تثيرني فكرة كيف تنهض الأمم، كيف تحول هزائمها إلى انتصارات.
"بول كاغامي" هو رئيس البلاد في ولاية ثانية، لقد حوّل دولته الصغيرة بعد عشرين عاما من المذبحة إلى ما يطلق عليها الآن سنغافورة إفريقيا، ولتصبح واحدة من أهم عشر دول إفريقية جاذبة للاستثمارات الأجنبية. من السهل أن تراه في أحد الأسواق بين الناس بصحبة حارسين، أولاده يذهبون إلى المدارس الحكومية، ويرفض منح قبيلته أو عائلته أي امتياز خاص. ولدى هذا الرجل -الذي يصغرني بعام- اجتماع سنوي مع أعضاء حكومته يقضيه في الغابة، بعيدا عن كل الرسميات والأضواء، يجلسون على الأرض، ويقيمون ما جرى، ويحاسب كل واحد فيهم على ما أنجزه في ولايته أو قصّر فيه، أو هكذا حكى لي محمد الحاج، السوداني الطيب الذي يقيم في البلاد منذ عام تسعين؛ باستثناء فترة قصيرة عاد فيها إلى السودان.
محمد منبهر بهذا الرجل الذي لا يحابي قبيلته أو أصدقاءه، صاحب الرؤية الشاملة لمستقبل بلاده، ذو القبضة الحديدية التي يطيح بها بمن تسول له نفسه ولو بعض الفساد، أو ربما بمن يخالفه على حد قول معارضيه.
أكثر من مليوني شخص كانوا يقفون بدءا من عام ستة وتسعين أمام قاعات المحاكم المحلية، متهمين بالمشاركة في المذبحة، فيما مثل كبار المجرمين أمام محاكمات شكلتها الأمم المتحدة في بعض الدول الإفريقية والأوروبية.
ولأن عدد المتهمين المتورطين في المذبحة ضخم للغاية، لجأت الحكومة عام ألفين وواحد إلى تنفيذ نظام العدالة التشاركية، المعروف باسم غاتشاتشا، حيث تنتخب المجتمعات المحلية قضاة لإجراء المحاكمات للمشتبه فيهم بالمشاركة في المذبحة، وهكذا بدأت المصالحة المذهلة في بلاد الألف تل.
المدهش ليس في الإجراءات الحكومية ، وإنما في روح العفو والتسامح التي سادت الناس أو غالبيتهم على الأقل، وكأنهم جميعا قد تعبوا من الدم، ويرغبون في المصالحة مهما كان الثمن، يرغبون في نسيان الماضي وإيقاف عجلة الذبح الدائرة.
يقول الذين شهدوا الأمر، "تجتمع القرية بأكملها، وتبدأ المواجهة ومن ثم المصالحة بين القتلة والناجين من خلال الاعترافات والصفح، ويتفق أحيانا على بعض التعويضات مثل المساعدة في حراثة حقل الضحية لفترة من الوقت".
بالتأكيد لم ينجح الأمر في كل الحالات، "كما أن العديد من الضحايا لم يكن بإمكانهم تحمل صدمة الاستماع إلى الطريقة التي قُتل فيها أحباؤهم"، غير أنها محاولة حتى لا ينتقل الحقد من جيل إلى آخر.
يومي كان طويلا، أعود إلى فندقي، ما ذهبت إلى بلد إلا وقارنته ببلدي ، أتمنى أن يحل به ما حل في هذه الأوطان من حُسنٍ، أسأل نفسي، كم يحتاج الوطن إلى دم ينزف حتى يدرك أن ليس أمامه سوى المصالحة، وأن أحدا ليس بوسعه أن يقصي أحدا، وأن القصاص والغفران خطان متوازيان يلزم أن يسيرا بحذر حتى تكون النهضة بعد الكبوة، لا بأس فلأنم الليلة بعد عناء النهار قرير العين في غرفتي المطلة على سهل واسع تزينه الخضرة، ولم لا وأنا على ارتفاع ألف وخمسمئة متر من البحر، وعند منبع نهر النيل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع