في صحة الإسلام..!

المسجد اليوم لؤلوة الساحة المركزية لتيرانا، صوت المؤذن بعربية فصحى يملأ المكان ويصل غرفتي في الطابق عشر من فندق تيرانا بساحتها المركزية، نفس الفندق بل نفس الطابق الذي نزلت فيه لأول مرة قبل ربع قرن، وكان خوجا قد رحل، واكتشف الرفاق حينها أن الإسلام هنا باق لا يرحل.

عربي بوست
تم النشر: 2015/08/28 الساعة 12:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/08/28 الساعة 12:23 بتوقيت غرينتش

يحكى أن "44"
المدرج هو مكعبات أسمنتية متراصة صبت في مرعى، ولذلك تهتز الطائرة اهتزازات شديدة حال الهبوط والإقلاع، مجموعة من الماعز كادت تصطدم بالطائرة التي ما زالت محتفظة بسرعة عالية بعد أن لامست عجلاتها المدرج، إذا اتفقنا أنه مدرج، الراعي كان حريصًا على أن تكون بقراته بعيدًا عن مسار الطائرة ، ولم تنل الطائرة نفسها منه إلا نظرات عابرة، ونال هو وبقراته كل نظرات الركاب.

كنت أصبو إلى إنهاء إجراءات مطار تيرانا في ذلك الوقت من منتصف التسعينيات، والتوجه إلى الفندق والفوز بحمام ساخن والنوم بعد يوم مرهق، تقريبًا كانت المرة الأولى لي التي أصل تيرانا فيها بالطائرة، مبنى شيوعي صغير قديم معتم، ضابط الجوازات لا يتكلم إلا الألبانية، أخرجوني أنا وزميلي التونسي من الطابور حتى لا نعطله، وانهمك الضابط في ختم جوازات المواطنين الألبان والزائرين المحترمين بجوازاتهم الأوربية والأمريكية.

قال صديقي مازحًا وهو نادرا ما يكون كذلك، "أنتم يا مصريين ديما عاملين مشاكل في المطارات، طيب حنعمل إيه دلوقتي لما يسمحوا لي بالدخول بجواز سفري التونسي ويمنعونك"، انصرف كل الركاب برعاية الله وحفظه وبصحبة حقائبهم، وبقيت أنا وزميلي أسرى في ركن.

خرج السيد الضابط من معقله، ذلك الكشك الصغير، وقد أتى زميله ودخلا في حوار طويل وهما يمسكان بجواز سفر كل منا، بعد نقطة الجوازات هناك صالة صغيرة لا تختلف كثيرًا عن صالة بيتنا، وسير للحقائب، ثم جموع السائقين والحمالين الذين يعرضون مساعدتهم، والذين انصرف معظمهم بعد أن انصرف الركاب، ولم يتبق منهم إلا من يأمل في الفوز بآخر عميلين محتملين وحقائبهما المكتظة بمعدات التصوير، ويبدو أن أحدهم سأل الضابطين عن سبب توقيفنا فدخل الجميع في حوار طويل، السائقون والحمالون والضابطان، وراحت جوازات سفرنا تتداولها الأيادي كلها، كل ينظر فيها ثم يعبر عن رأيه فيما يجب أن يجري.

انصرف الضابطان ليعود أحدهما بعد قليل وهو يستجمع كل ما لديه من إلمام بحروف عربية أو إنجليزية ليبلغنا السماح لحامل الجواز المصري بالدخول، والتحفظ على الزميل التونسي وإحالة أوراقه إلى مأمور المطار الذي لن يصل قبل العاشرة صباح اليوم التالي لإصدار قراره الأخير.

ودعت شامتا زميلي الذي سخر من الباسبور المصري (الكبير) وإمكانياته الفذة، ووعدته أن أجري كل اتصالاتي الممكنة لإطلاق سراحه في الصباح، بالطبع بعد حمامي الدافئ وفنجان القهوة المعتبر.

صديقي حكى لي لاحقًا أنه بعد أن انصرفتُ وأغلقوا المطار وأطفأوا الأنوار، لم يبق في البناية إلا عامل للحراسة، وظل زميلي ساهرًا إلى أن أتى إليه هذا العامل وتبادل معه بعض الكلمات، فلما أدرك أن صديقي مسلم هلل وكبر وتأثر كثيرًا وانصرف ليعود سريعًا وبيده زجاجة من النبيذ المصنوع محليًّا ليفتحها إكرامًا وترحيبًا بالأخ المسلم.

وهو أمر شبيه بما جرى لنا لاحقًا في زيارة رابعة أو خامسة لألبانيا، كنت في بلدة صغيرة لا أذكر أسمها الآن وكان معي فريق كبير من الزملاء والزميلات من جنسيات عربية مختلفة، بقينا في فندق متواضع، رحب بنا عمدة البلدة أيما ترحيب، وبعد يومين من العمل الشاق أصر أن يقيم حفلة مسائية على شرفنا، في الموعد، وفي بهو الفندق نصبت الطاولة الضخمة ووضع عليها ما لذ وطاب من الطعام، وصدحت الموسيقى الألبانية، والتف حولنا الشباب والفتيات وما من لغة مشتركة سوي الابتسامات، إلى أن استهل العمدة العجوز الحفل وبيده المشروب المحلي إياه صائحًا: في صحة الضيوف، في صحة العرب، في صحة المسلمين، في صحة الإسلام!

هذا العجوز كان واحدًا من الشعب الألباني الذي حكمه الزعيم الشيوعي أنور خوجا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى مماته عام خمسة وثمانين، واحد وأربعون عامًا من العزلة والقهر والتطرف في الإيديولوجية إلى حد معاداة الرفاق الشيوعيين؛ لأنهم انحرفوا عن الطريق، وإلى مدى جعل فيه خوجا ألبانيا الدولة الوحيدة في العالم الملحدة رسميًّا، قرأت كثيرًا عما فعله هذا الرجل ببلده، عن المساجد التي أغلقت أو هدمت أو حولت إلى حظائر للحيوانات، إلى الزج بالأئمة والعلماء فى السجون، إلى تجريم الدين ومن يؤمن به ومن يفكر فيه، إلى أن استوقفتني يومًا معلومة غريبة تفيد أن خوجا لم يصدر قرارات مباشرة هكذا بإقصاء الإسلام، وإنما عبأ النفوس وجيّشها، لتنفجر مظاهرات عارمة طالب الشعب فيها بإسقاط الدين، مظاهرات اجتاحت المساجد والرموز الإسلامية لتنهي مرحلة الرجعية كما وصفت.

كان أهل البيت في "شكودرا" يقومون ببعض الإصلاحات في دارهم، عندما اكتشفوا أن كتبًا خُطت بالعربية قد خبأها الكبار في السقف قبل أن يتوفاهم الله، بحثوا أكثر فوجدوا كتبًا أكثر، انتشر الخبر، وبدأ ناس كثر يفعلون نفس الأمر فوجد بعضهم مصاحف وكتبًا دينية، بل وبعض المجلات العربية مخبأة ظنًّا من الأجداد أن كل عربي مقدس، لقد خبأوا دينهم في الأسقف والأقبية، وأعلنوا ولاءهم للزعيم الشيوعي الملحد، وظل إيمانهم في قلوبهم يقر بأنه لا إله إلا الله، ولما مات خوجا، ولما سقط كل شيء عاد كل شيء، حتى وإن كان مظهره باهتًا إلا أنه راسخ في النفوس، لذلك لم أندهش كثيرًا عندما صاح العجوز: في صحة الإسلام!

لكن لي أن أغضب بسبب ما جرى لهذا الرجل الذي خذلناه، كان محسوبًا باعتبار ثقافته على الولايات المتحدة الأمريكية، برز اسمه خلال المظاهرات الطلابية الحاشدة عام تسعين من القرن الماضي والتي أرغمت النظام الشمولي على التنازل والقبول بالتعددية السياسية، فأسس الطبيب صالح بريشا أول حزب غير شيوعي وشارك في أول انتخابات ديمقراطية عام اثنين وتسعين، وفاز فيها كأول رئيس لألبانيا الديمقراطية.

الرجل قرر أن يقوم بجولة لزيارة بعض الدول العربية، عاد منها شخصًا مختلفًا تمامًا، لقد استقبله الزعماء العرب استقبالًا حافلًا كرئيس للدولة المسلمة الوحيدة في أوربا، وترك ذلك أثرًا في نفسه شديدًا، عيب بريشا أنه صدق وعود الزعماء العرب السخية بدعم ألبانيا سياسيًّا واقتصاديًّا، وعاد ليعلن أنه سيتقدم بطلب انضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وهو الأمر الذي هاجمته المعارضة الاشتراكية وريثة الحزب الشيوعي باعتباره يهدف إلى "أسلمة" ألبانيا وإبعادها عن "الأوربة"، وانتظر بريشا وعود العرب، لعله يشرب نخبها لكنها كالعادة تبخرت ولاحقًا دفع هو ثمن رغبته في الالتحاق بالعالم الإسلامي غالبًا.

كأن ذلك جرى أمس، أتذكره وأنا أعود إلى تيرانا في منتصف شهر أغسطس لعام ألفين وخمسة عشر، مطار أنيق، وإجراءات سهلة، ونظام سلس، ومقاهٍ لطيفة، وضعت حقائبي في الفندق وتوجهت إلى الساحة المركزية، تحديدًا بجوار البلدية ومقابل المكتبة الوطنية، حيث جامع أدهم العتيق الذي بني في القرن الثامن عشر، ولم يشأ أنور خوجا هدمه وفضل أن يحتفظ به مغلقًا أثرًا لزمن الرجعية الدينية.

أول مرة زرته كان أواخر عام ألف وتسعمائة وتسعين، معتمًا وروائح نفاذة ورطوبة عالية، لكنه مبني بعناية، ومزركش بجمال، كان موعدًا للقاء الشيخ صبري كوتشا مفتي ألبانيا وضحية خوجا لثلاثة وعشرين عامًا في سجونه، في المسجد مجموعة من الرجال لا يزيد عددها عن خمسة، يستعدون للصلاة إثر إعادة فتح المسجد، والشيخ صبري يكاد لا يصدق اللحظة، أما الأهالي -الذين أغلبهم مسلمون- فكانوا يحتشدون عند النوافذ الخارجية يرقبون ما يجري داخل هذا المبنى العتيق باندهاش شديد، مشهد لم يعتادوه في حياتهم.

في زيارتي الأولى هذه كانت نسبة المسلمين تقريبًا خمسة وسبعين بالمائة من السكان، وفي زيارتي الأخيرة يقال إن النسبة انخفضت إلى سبعة وخمسين بالمائة، ألم تبذل المؤسسات التنصيرية جهودًا منظمة تفوق كثيرًا جهود المنظمات الدعوية الإسلامية المبعثرة، ألم يقل البابا عندما زار البلاد إن ألبانيا دولة أوربية وليست دولة مسلمة!

أحد الخبثاء الطيبين قال لي إن أوربا لن تسمح لألبانيا باستكمال إجراءات دخولها إلى المجموعة الأوربية لتصبح عضوًا كاملًا قبل أن تقل نسبة المسلمين فيها لتصل إلى ما أقل من خمسين بالمائة من عدد السكان، حتى لا تكون هناك دولة في أوربا الموحدة بأغلبية مسلمة، طمأنته أن ليس بوسع المجموعة الأوربية أن تفعل أكثر مما فعله خوجا.

المسجد اليوم لؤلوة الساحة المركزية لتيرانا، صوت المؤذن بعربية فصحى يملأ المكان ويصل غرفتي في الطابق عشر من فندق تيرانا بساحتها المركزية، نفس الفندق بل نفس الطابق الذي نزلت فيه لأول مرة قبل ربع قرن، وكان خوجا قد رحل، واكتشف الرفاق حينها أن الإسلام هنا باق لا يرحل.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد