عندما يصبح الأرهاب قانوناَ..

أحسب أن المناخ العام، الذي صدر فيه هذا القانون، ربما يكون هو الأسوأ من القانون ذاته، لأنه يكشف الغاية الحقيقية من إصداره، والتي تأخذنا بعيداَ عن عنوانه، ومبرراته الظاهرية، التي يروج لها زوراَ، وبهتاناَ.

عربي بوست
تم النشر: 2015/08/18 الساعة 06:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/08/18 الساعة 06:52 بتوقيت غرينتش

عندما يصبح الأرهاب قانوناَ..
هزل تشريعات منتصف الليل
نزعة ملكية.. ونصوص فاشيستيه

أنظر بعين القلق، والأسف، تجاه التوسع البالغ في استخدام الاختصاص التشريعي، " الاستثنائي" الممنوح لرئيس الجمهورية – خاصة – عندما يتمدد هذا الوضع الاستثنائي " المؤقت " بطبيعته، ليطول المسائل الجنائية، ومسائل الحقوق، والحريات، وتنظيم السلطات العامة، وغيرها من الأمور، التي ينبغي أن تظل محجوزة للسلطة التشريعية – الأصيلة – إعمالاً لمبدأ الفصل بين السلطات، وعدم تغول السلطة التنفيذية بممارسات تشريعية مطلقة، علي الولاية التشريعية المعقودة دستورياَ للبرلمان المنتخب من الشعب لهذا الغرض..

إن صدور اكثر من 200 قانون في قرابة العام، من خارج البرلمان، وفي شتي المجالات، يصنع واقعاَ تشريعياَ، وجديداَ، ومختلفاَ، ويحيل الرخصة التشريعية الاستثنائية، إلي سلطة تشريع كاملة، ومطلقة، لا عاصم من جموحها، وانحرافها عن الغرض من هذا الاستثناء، ولا يحد من خطورة هذا الأمر الواقع، عرض هذه التشريعات علي البرلمان لإقرارها جميعاَ في خمسة عشر يوماَ لا أكثر، في عملية شكلية مضحكة، تقتضي أن يظل أعضاء البرلمان الجديد، رافعين أياديهم بشكل متواصل علي الأف المواد المعروضة، كي يتمكنوا من إقرار اكثر من 200 قانون في اقل من 90 ساعة عمل‼ بمعدل يتجاوز قانونين ونصف في الساعة، وبعض هذه القوانين يتضمن مئات المواد‼!.

فضلاَ أن هذه الحزمة من القوانين التي خرجت من خارج الرحم التشريعي الطبيعي، اتسمت بالانتقاص الدائم، والمتعمد من الحقوق، والحريات المكفولة بالدستور، علي عكس الغرض المنطقي من التشريعات، وهو تنظيم، وتفصيل ما ورد من حقوق في الدستور.. وليس إجهادها أو الإجهاز عليها..
.. إن أكثر مثال للإفتئات علي الدستور، ومغايره أحكامه، هو الوارد في المادة رقم 51 من قانون الإرهاب الأخير، التي أعادت حالة الطوارئ بقرار من رئيس الجمهورية، ولو كان شفهياَ‼،وشرعنة التهجير القصري، وغيرها من الأمور التي حظرها الدستور، وكان القانون الجديد دستوراَ مغايراَ

إن هذه الحزمة من القوانين تعيدنا للأسف، إلي عهود الملكية المطلقة، التي كان فيها الملك هو الدستور، والقانون، وهو مصدر السلطات، ومصدر التشريع.. له سلطة تجريم الأفعال، ومنح الحقوق، والحريات، أو منعها، أو تعطيلها، بمطلق إرادته، وهو ما يتصادم مع المبادئ العامة للشرعية الجنائية، ويوقع معظم هذه القوانين في هوة عدم الدستورية، ويجعلها ساقطة في هذاالعوار، والساقط لا يقوم.. ولا يعود..

أنظر بدهشة إزاء عدد من تلك التشريعات التي صدرت، ولم تنشر- أصلا – في الجريدة الرسمية، وكأنها تشريعات سرية‼ وإيذاء عدد أخر من تلك التشريعات التي صدرت بغير أي حوار مجتمعي، علي غرار تشريعات " منتصف الليل "، وفي مقدمتها قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 94 لسنة 2015، بإصدار ما سمي بقانون الإرهاب، والمنشور في العدد 33 مكرر من الجريدة الرسمية بتاريخ 15 أغسطس 2015، والذي أشرنا للمادة رقم 51 منه علي سبيل المثال.

وقبل أن أسترسل في قراءة مواد قانون السيسي الأخير، لم أتمالك نفسي، من استدعاء مشهد السادات، ودخان غليونه، ينبعث من " البايب"،وهو منكب علي مراجعة قوائم اعتقالات، 5 سبتمبر 1981.

لم يكن السادات، يري ما بعد أوراق القرار بقانون، الذي يوُقع عليه، وربما لم تكن عيناه تري الأوراق، والأسماء، ليس بفعل سحابة الغليون – فحسب – بل لأن الرجل كان يستدعي صور كل من أراد الانتقام منهم في حياته، من معارضيه، أو منافسيه، أو حتي من رجاله ووزراؤه الذين تحولوا لصفوف منتقديه..

تحت لافته " حماية الوحدة الوطنية " وبدعوة مواجهة " الفتنة الطائفية" جمع السادات، كل من قال له: "لا" من اليمين، واليسار، المسيحي ،والمسلم، الليبرالي، والشيوعي، الناصري،والإخواني، وزراء قبل الثورة، ووزراء عبد الناصر، ووزراء من عهده، وأبرزهم الراحل " عبد العظيم أبو العطا " وزير ري السادات " الذي مات في سجن طره بعد أيام من قرارات سبتمبر، علي نفس السرير الذي قضيت فيه أربعة سنوات ونصف من الاعتقال في عهد مبارك.
وهذا بالتحديد ما يفعله السيسي في قانون الأرهاب الأخير.

في مناخ التخليط، والألتباس، والتحريض، وغياب روح القانون، والعدل، والعقل يضع الحاكم خصومه في سلة واحدة، ويشعل النار في الجميع، بدعوة مواجهة " المؤامرة " بينما هو في الحقيقة، يتأمر علي نفسه، ويخط بيده – أحيانا – شهادة وفاته.

لا أعرف – تحديداَ- من له المصلحة في استدعاء هذه الأجواء السبتمبرية، بذلك القرار بالقانون، الصادر من محمد أنور" السيسي " الذي يبدأ به السيسي، ما ختم به السادات حياته!!

رب سائل يسأل؟ – وله الحق – وماذا يزعجك، من صدور قانون عنوانه وغايته، مواجهة الإرهابيين، والمنظمات الإرهابية؟!.
وإجابتي بوضوح، أن الضمير الوطني، لا يستطيع أن يستقبل ظاهرة تنامي العنف في مصر، دون أن يستشعر قلقاَ عميقاَ، إيذاء المدي المؤسف الذي بلغته، خصوصاَ في تطورها الأخير، في صورة الفعل، أو رد الفعل.

وأحسب أن موقفي الشخصي- والحزبي – كان دائماَ شديد الحسم، والوضوح، في إدانة كافة أشكال ودعاوي، وصور الإرهاب، رافضاً مبدأ استخدام العنف المادي، أو حتي الفكري، لحسم أي خلاف سياسي، مساوياَ بين الدم المصري – فكله حرام – ومديناَ للعنف المؤسسي، أو الفردي، في كل الواقعات التي شهدتها مصر مؤخراَ.
فلم يكن أبدأَ موقفي يوماَ، متناقضاَ، مع مرجعيتي السياسية، والفكرية،" الليبرالية "،
ولكل ما سبق- ومن حيث المبدأ – لست ضد أي عمل قانوني،أو سياسي، يستهدف محاصرة أسباب الإرهاب، المدان، والمرفوض بشكل مطلق، ومقطوع به، أي كان شكله، أوصوره، أو مصدره..

ولماذا أذن أرفض- كقانوني وسياسي – القرار الصادر برقم 94 لسنة 2015، بشأن مكافحةالإرهاب؟!
الحقيقة أننا أمام صورة فجة، من صور العمل القانوني المعيب، بكافة أشكال العوار، والشطط، والنزق، والانحراف بسلطة التشريع، والتأشير بها، عكس خط السير.
أوجز المفاسد، والماَخذ، والمطاعن، والشبهات، حول هذا القانون في النقاط الأتية:-

أولاً :- كذباَ محضاَ، ذلك الإدعاء، بوجود فراغ تشريعي في مواجهة الجرائم الإرهابية، استدعيمن رئيس الجمهورية، ممارسة سلطاته التشريعية، " الاستثنائية "، – في غيبة البرلمان – بإصدارالقرار بقانون 94 لسنة 2015.

فقد أدخل البرلمان المصري، في 18/7/ 1992، تعديلات عالجت بتوسع الجريمة الإرهابية، من خلال تعديل في قانون العقوبات، واَخر في قانون الإجراءات الجنائية، واَخر في قانون محاكم أمن الدولة، واَخر في قانون سرية الحسابات بالبنوك، واَخر في قانون الأسلحة والذخائر- وغيرها –
وعرف الإرهاب، والجريمة الإرهابية في المادة المضافة رقم 86 من قانون العقوبات، بصورة لم تخلو من التوسع، وهو ما ينتفي معه مبرر العجلة، من الإحتياج لتشريع جديد للإرهاب، يصدر بقرار بقانون، – وليس بقانون – عبر سلطة التشريع، وصاحبة الحق الأصيل فيه..

ثانياَ :- إننا أمام قانون يعصف بالحق الدستوري، والإنساني المستقر في المحاكم العلنية،والمنصفة ، وحق الدفاع، والقضاء الطبيعي، وأصل البراءة، بل أننا أمام مشروع دستور موازي.

ثالثاً : يخل هذا القانون في مجمله بأبسط قواعد التناسب والتوازن المطلوب بين فكرة الضرورة الاجتماعية للتشريع، وبين الحماية الواجبة للحقوق والحريات فالقانون وسيلة للعصف بالعديد من الحقوق الدستورية، مما يخل بالتناسب بين المصالح المحمية بالقانون والمساس بالحقوق والحريات الدستورية.. وقد قالت المحكمة الدستورية في هذا وبوضوح في حكمها الصادر في 15 سبتمبر 1997 القضية 48 لسنة 18 "اذا تجاوز القانون الجنائي للحدود التي لا يكون معها ضرورياً أو يكون معها متصادماً مع حقوق الإنسان وحرياته، غدا مخالفاً للدستور"

رابعاً : أن هذا القانون يجسد صورة من صور ما يسمى فقهياً بالتضخم العقابي ًinflationpenale" من خلال الاستخدام المفرط للسلاح العقابي "Larme penale" في موضعه وغير موضعه مما يجعله مجرداً من كافة أشكال مشروعية التشريع، لعدم التناسب بين الفعل والعقوبة، وعدم التفريد العقابي، وخذ مثالاً لهذا بالمساواة في المواد 5 و6 بين الجريمة التامة والشروع في الجريمة، وإن لم تتم، وكذلك معاقبة المحرض على الفعل كفاعلة وإن لم يكن شريكاً في الفعل، بل ولو لم ينتج عن هذا التحريض جريمة أصلاً؟!!

خامساً : قانون السيسي الأخير يترحم على حرية الصحافة، ويعود بنا إلى ما قبل نقطة الصفر، ويجعلنا نترحم على ما كنا نسميه قانون اغتيال الصحافة الصادر عام 1995 والذي نجحنا في تعديله في البرلمان في ديسمبر 1995، بعد شهور من إصداره ،بل هذا القانون يمد قيوده أيضاً لوسائل التواصل الاجتماعية التي باتت بفعل هذا القانون في مرمى التجريم وليس التنظيم

سادساً : يتربص القانون بكل أشكال المعارضة من خلال استخدام ألفاظ وعبارات مطاطة، يجوز حمل أي عمل من أعمال الرأي أو المعارضة عليها بالصورة التي تحرم الوطن من الحق الطبيعي في النقد والرفض والخلاف السياسي ويعيدنا لزمن الصوت الواحد والرأي الواحد مجهضا كل مكتسبات ثورة يناير المجيدة

سابعاً : وأخطر نصوص هذا القانون في تقديري – هو المادة 8 منه التي تقول :"لا يٌسأَل جنائياً القائمون على تنفيذ هذا القانون إذا استعملوا القوة لأداء واجباتهم، أو لحماية أنفسهم من خطر محدد على النفس أو الأموال "

.. وخطورة هذا النص "الفريد" أنه شديد الفاشستيه ويقدم غطاء لعمليات التصفيات الجسدية التي تتم في مصر منذ شهور خارج إطار القانون، وبعيداً عن أي سند فالأمر ليس في إطار الدفاع الشرعي عن النفس – كما قد يتوهم البعض – بل هو تقنين لجرائم يعاقب عليها قانونياً، فلو كان دفاعاً عن النفس فما كان هناك معنى من هذا النص في ظل وجود النص 61 من قانون العقوبات الذي يعفى من العقاب في حالة الدفاع عن النفس لكنه أعفاء مقيد بما ورد في نص المادة 63 عقوبات بضرورة أن يقدم ما يثبت أن اعتقاده بالخطر علي النفس كان مبنياَ علي أسس، وأسباب معقولة، ومتناسباَ مع حجم الخطر، إلا وقع في جريمة تجاوز الحق في الدفاع الشرعي عن النفس.

ولكن نوايا المشروع في قانون الإرهاب، لم تكن هي خلق سبب للإعفاء من العقاب علي جريمة وقعت.. النص 8 من قانون الإرهاب، يقول في بدايته لا يٌسأل جنائياَ القائمون علي تنفيذ هذا القانون..
أي أنه يلغي الجريمة أصلاَ، ولا يخضعها لكافة أشكال المسألة، والتحقيق، ليكون للنيابة، والقضاء سلطة في تقدير معقولية الدوافع، والأسباب، ومدي تناسبها مع حجم الخطر الذي يوفر حالة الدفاع،
.. أننا أمام نص ينقلنا من حالة القانون إلي حالة قانون الغابة، حيث لا حرمة لحياة الناس، وحقهم في سلامة أجسادهم إزاء سلطة متغولة في التشريع، ومعتدية علي الحقوق، والحريات..

وأخيراً.. أحسب أن المناخ العام، الذي صدر فيه هذا القانون، ربما يكون هو الأسوأ من القانون ذاته، لأنه يكشف الغاية الحقيقية من إصداره، والتي تأخذنا بعيداَ عن عنوانه، ومبرراته الظاهرية، التي يروج لها زوراَ، وبهتاناَ.. فالتعبئة الإعلامية الاستقطابية، خلقت مناخاَ رديئاَ من النزق ، والشطط، يروج لفكرة التعامل مع المعارضة السياسية، بكافة ألوانها، وأشكالها، علي قاعدة الاتهام بالخيانة، ودعم الإرهاب، والمشاركة في مؤامرات دولية، أو إقليمية – في أحسن الأحوال- !!

فمدرسة التخوين التي تسوس الأمور في مصر الآن، لا تري في معارضة النظام، إلا أنها جريمة، وليست عملاً وطنياً، أو اجتهادا سياسياً – مصيباً أو خاطئاَ – فمعارضة " القائد" ، أو انتقاده، تنم – من وجهة نظرهم – عن ضعف للولاء للجيش، والجيش – من وجهة نظر تسريباتهم- هو الوطن!!
ومعارضة الوطن – من وجهة نظرهم – دليلاً علي العمالة للخارج، وقرينة علي التورط في كيانات، وشبكات إرهابية، دولية، أوإقليمية، أومحلية !!

هذا المنطق المريض، أو بالأصح اللامنطق، هو الذي يقود لمخاوف، وهواجس، مشروعه، من ملابسات هذا القانون الذي يدرك الجميع أنه يترحم علي كيانات سياسية معارضة أكثر ما يستهدف كيانات إرهابية بدعوة أن الجميع ينبغي أن يكون في سلة واحدة، إلي أن يثبت العكس، وليس العكس، فالبينة هنا علي المدعي عليه، وليس المدعي، والشك يفسر ضد المتهم وليس لصالحه..

المشكلة أن الذين يفكرون علي ذلك النحو، وبناء علي ذلك المنطق، يتوحمون علي لحم المعارضة بالتعبير، والمعارضة بالتغيير، ولن تكون أولويتهم للأسف المعارضة بالدم أو دعاة العنف.

تحميل المزيد