يحكى أن "42"
كان مسرح "بلدية طنطا" مكتظا على آخره ، حتى إن ممراته الجانبية امتلأت بالحضور وقوفا ، خشبة المسرح ذاتها بدت وكأنها لا تسع أعضاء الفرقة الموسيقية التابعة للجيش ، كان عددهم ضخما ، وقد شغلوا مع معداتهم النحاسية المكان كله ، لست متأكدا لماذا كان الناس يصفقون بحرارة ، أهو استحسان للطرب ، أم لتلك الفتيات الروسيات اللائي -رغم لباسهن العسكري- ملأن الأجواء بالبهجة في هذه المدينة الريفية؟
بالنسبة لي وبالإضافة إلى هذا السبب الوجيه كان لدي سبب آخر للتصفيق، فقد كنت ممتنا للاتحاد السوفيتي على هذا الموقف البطولي الداعم لمصر ضد العدوان الصهيوني ، خاصة وأنني ابن السويس الذي هجّرته الصواريخ الصهيونية إلى طنطا ، بعض الدهشة تملكتني حين نبهني بعض الأصدقاء لاحقا إلى أن الاتحاد السوفيتي كان أول من اعترف بالكيان الصهيوني.
كنا نصفق بحرارة ، التعبير الوحيد المتاح حينذاك عن هذا الامتنان ، فلما وصلت الفرقة التي أرسلتها موسكو لتحتفي معنا بعيد قيام الثورة إلى نشيد الختام، ولما بدأت تنشد بلغة عربية ركيكة: "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي"، أصابت المسرح هيستريا التصفيق والهتاف ، غير أن الدهشة سادت وجوه أعضاء الفرقة ، وكنت مندهشا من دهشتهم الإحتجاجية إلى أن فهمت الأمر بعد زمن طويل، حين زرتُ مسرح "البولشوي" الشهير في العاصمة الروسية موسكو، وبعد أن دفعت ما يعادل مائة وخمسين دولارا تقريبا، معتقدا أنني سأحظى بمكانة خاصة ، فإذ بي أفاجأ أن مقعدي طبقا لسعر التذكرة يقع في الطابق الثالث ، وبقيت أتابع العرض ولا أكاد أرى إلا رؤوس الفريق من عل ، أدت الفرقة أداء رائعا لكن لم يكن أحد ليجرؤ على التصفيق إلا بعد نهاية العرض ، أما في طنطا فقد أنتهى عرضها فيما ظل الأتحاد السوفياتي فكرة لامعة في ذهني وقد لامست منه شيئا في هذه الليلة
على كل حال ، ها أنا في عام واحد وتسعين من القرن الماضي، على متن طائرة ألمانية متجها إلى زاوية من الاتحاد السوفيتي الذي ينهار ويتفكك ، إنها أذربيجان التي مثل غيرها أفلتت بصعوبة وبثمن باهظ من قبضة نصير الشعوب ، لكن شأنها شأن خمسة عشر دولة أخرى كان يشملها الاتحاد، لم يكن هناك بد من الوصول إلى عاصمتها إلا عبر المرور على عاصمة الإمبراطورية المتوفاة موسكو.
حطت طائرتي القادمة من فرانكفورت ، كان في انتظاري شخصان أرسلهما صديق ليكونا أشبه بقوات حماية خاصة ، وظيفتهما تأمين انتقالي إلى المطار الآخر الذي سأستقل منه الطائرة إلى العاصمة الأذربيجانية باكو . ساعتان في الطريق ، لو قضيتهما وحدك لكنت عرضة أن يختطفك السائق ، وربما ليقتلك كي يحظى منك ببعض الدولارات الأمريكية ، أو حتى ببنطلونك الجينز ، أو ربما حذاؤك بماركته الشهيرة.
كنت أدير عينيّ في كل الاتجاهات، أريد أن أرسم صورة متكاملة لهذه الإمبراطورية المنهارة التي سمعت عنها كثيرا وتفاعلت معها كثيرا ، أفكر كيف تقاسمت زعامة العالم مع الكاوبوي الأمريكي، ولماذا أصابتها السكتة القلبية.
عند وصولي المطار الآخر وهو واحد من خمسة مطارات في موسكو، حينها لم أصدق عينيّ ، الباعة المتجولون يفترشون الأرصفة حيث كل شئ يباع حتى الأسماك ، صخب وازدحام يملآن المكان والكل ينظر لي نظرة فيها استهجان ما
"إلى هنا لا نستطيع التقدم"، قالها أحدهما وهو يشير إلى باب خُصص للمسافرين الأجانب ، اندفعت وحدي إلى حيث سيدة تجلس في مواجهة الباب مقطبة الوجه ، لزوم التعامل مع الأجانب الذين هم بحسب العقيدة الشيوعية جواسيس لا محالة ، ختمت بطاقة سفري وتبادلنا الحديث بلغة الإشارات وتوجهت حسب تعليماتها إلى باب يطل على فناء المطار الذي يتعين علي المرور فيه وصولا إلى البناية الأخرى المخصصة أيضا لركوب الأجانب.
الطائرات السوفيتية تقف شامخة، وأرضية المطار اختلط جليدها بالوقود المتسرب من هنا وهناك ليجعل عملية السير بما تحمله من حقائب أمرا يحتاج إلى مهارات لاعبي الأكروبات ، توقفت أمامي فجأة حافلة للمطار يقودها شاب أرعن وقد جلست فتاته وراءه تتيه فخرا به، قال لي "ون دولار" فوافقت على الفور، وهممت أن أصعد لكنه صرخ في وجهي بما يعني أنه علي الدفع مقدما ففعلت، وأدركت أن "ون دولار" يحمل قيمة معنوية لهم بما يحمله من رائحة الغرب ورفاهيته أكبر من قيمته المادية ما جعل صاحبنا يحتد علي.
بصراحة حينها لم أكن أعمل لأي جهة، كنت أشق طريقي شقا وأحفر الأرض بإبرة، صحفي مستقل جوال، يسافر ويكتب ويرسل، ما جعل كل "ون دولار" بالنسبة لي أيضا أمرا ذا بال.
علت البشاشة وجهي، بعد أن دخلت القاعة الكئيبة للانتظار، وقد سمعت أصواتا عربية فهمت لاحقا أن أصحابها طلاب عرب يدرسون في المدينة التي أتوجه إليها ، سألتني واحدة منهم بعد أن تعرفتُ عليهم: "ولكن أين حقائبك؟"، رددت بثقة بالغة: "لقد سألتني الموظفة في مطار فرانكفورت وأجبتها بأنني أفضل أن أستلم حقيبتي مباشرة في باكو وليس في موسكو". ضحك الجميع ولم أفهم.
ساعات طويلة قضيتها في مطار عاصمة الاتحاد السوفيتي في قسم الركاب الأجانب دون أن يعتذر لنا أحد عن تأخر الطائرة أو يبلغنا أحد بموعدها المحتمل ، لقد أدركت أنهم مثلنا أيضا قيمة الفرد لديهم مهملة ، ثم حان أخيرا موعد الرحيل.
مشينا سيرا على الأقدام إلى الطائرة، قبل سُـلّمها لاحظت وجود مجموعة من نحو عشرة أشخاص يتصايحون، وبينهم رجل يبدو أنه قائد الطائرة بحسب ما يدل زيه عليه ، سألت أحد الطلبة العربي الذين كنت في صحبتهم فأبلغت أن هؤلاء لا مكان لهم على الطائرة، وأنهم يتفاوضون مع قائدها للركوب مقابل أجر يدفعونه إليه مباشرة، فضحكت وصمت.
إلى باب الطائرة تدافعنا جميعا، وهجم كل راكب على أقرب مقعد رآه مناسبا ، امتدحت ذكائي في أنني تركت حقيبتي الكبيرة تحت مسؤولية شركة الطيران لتنقلها من فرانكفورت إلى باكو مباشرة ، فهؤلاء الركاب يجلسون على مقاعدهم الضيقة وقد وضعوا حقائبهم الكبيرة إما على أقدامهم أو تحتها، ولا أحد يتأفف من ضيق المكان فالكل يفعل ذلك، أما الحقائب الضخمة التي لا تسعها الطائرة حيث يجلس الركاب فقد شحنت في مخزنها
بعد أن أخذ الجميع أماكنهم، أشارت الطالبة العربية لي أن أنظر خلفي، فشاهدت ما لم أشاهده من قبل أو من بعد: الركاب الإضافيون الذين كانوا يتفاوضون مع قائد الطائرة يجلسون على أرضية ممراتها، لم تكن نكتة إذن، لكن لم يكن لدي الوقت الكافي للتعبير عن اندهاشي، فقد بدأت الطائرة في الإقلاع دون أي تنبيه، وأدركت أن تعليمات السلامة وربط حزام الأمان إنما هي وساوس الحضارة الغربية.
كان الظلام قد حل، كما حل بي التعب على آخره، والضوء الخافت في الطائرة يعينك على الأحلام، وأنا حلمي الآن وشغفي أن أرى وأتفحص هذه الجثة الهامدة المسماة بالاتحاد السوفيتي، لم تسنح لي الفرصة أن أرى موسكو، فقد انتقلت من مطار بها إلى آخر، لكن لا بأس فبعد قليل ستحط الطائرة في أذربيجان، فأمرها يعنيني ، سوفيتية سابقة، ومسلمة دائمة، ومتمردة للتو، وتركية اللسان، وشيعية المذهب، وبعض أرضها محتلة.
ميلادي الجديد تحقق عندما خرجت من باب الطائرة لأتنفس الهواء، ظلام حالك يلف بناية المطار، ازدحام وتدافع بين الركاب، معظمهم اتجه مع حقائبه التي كان يحملها في الطائرة إلى الخارج ، قليلون جدا الذين انتظروا الطائرة لتفرغ جعبتها، انصرف الجميع بعد أن استلموا صناديقهم المشحونة، وحدي انصرفت خاوي الوفاض. طمأنني أحدهم أن حقيبتي المفقودة ستصل يوما، ولكن قد يأخذ الأمر أسابيع، ونصحني بالتواصل مع مسؤولين حكوميين للمساعدة في الأمر(!!)، وقال لي أن أطمئن فلن يستطيع أحد أن يلمس محتوياتها وإلا اتهم بالتعاون مع أجانب للتجسس، وهذه -بحسب ناصحي- من حسنات الاتحاد السوفيتي ونظمه في المطارات.. ألا لعنة الله على هكذا مطارات.