كنا قد تحدثنا في مقال سابق عن الإشكاليات الناجمة عن الفهم الخاطئ للدين لدى البعض، وحصرنا أسبابها في أن الحياة تتطور بسرعة مذهلة، دون أن تواكبها محاولات للتجديد في الدين، ولا ينبغي أن نلوم سرعة الحياة؛ فقد خلقها الله هكذا، وأرادها سبحانه كذلك "كل يوم في شأن"، "يزيد في الخلق ما يشاء"، "يقلب الليل والنهار".
ولابد أن نسد الفجوة بين الدين والحياة، قبل أن تتضخم المشكلة وتستفحل أكبر من هذا، وحتى لا نفاجأ يوماً بأن الشباب ينصرف عن الدين تماماً، أو يكون تعاملنا مع الدين في شكل تقليدي جامد "صور بلا روح"، أو يصبح الإلحاد والتطرف هما الأصل، أو نصبح مثل أوروبا حيث الدين في اتجاه والحياة في اتجاه آخرَ، وتصبح صلتنا بالدين وكذلك أولادنا من بعدنا هي يوم الجمعة فقط، هذا إذا صلوها من الأساس.
من أين نبدأ:
لابد أن نطرح أسئلة العصر الحالي أولاً، ثم نجيب عليها من خلال الدين، وهناك العديد من النماذج الرائدة في استخدام هذا المنهج الذي يظهر كيف كان الدين يتماشى مع الحياة، من خلال قراءة الواقع المحيط بهم، والوقوف على أهم الأسئلة التي تشغل أبناء عصرهم، فعرفوا كيف يحلونها، وعملوا بجد واجتهاد على سد الفجوة بين الدين والحياة.
ويعد سيدنا إبراهيم ﷺ، هو أعظم من اتبع الطريقة هذه، فبدأ من أسئلة الحياة إلى الدين؟ كان سؤال عصره هو: ما تصورنا عن الإله؟ كان الفكر البشري مازال يحتاج لمن ينضجه، وعندما هاجر إلى بلد اسمها "حران" بالشام، وجد أن الناس تعبد أي شيء دون فكر أو وعي، فهذا يعبد شجرة، وهذا يعبد الشمس، وهذا يعبد القمر وهذا يعبد النجوم، ولأنه يفهم مستوى نضج الناس في عصره فتدرج معهم خطوة خطوة، وفتح حواراً معهم للوصول إلى إجابات لسؤال عصرهم حول صفات الإله.
أخذ يطرح الأسئلة تدريجياً مع الناس للوصول إلى إجابات حولها، "فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين"، فليس من المعقول أن نعبد من يغطيه غيره، فنظر إلى شيء أكبر من النجم: "فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين".
فبدأ العقلاء يخجلون من أنفسهم، فانتقلوا معه وبدأ يقودهم لإصلاح الفكر الخاطئ خطوة خطوة، ليكون بذلك أول من وضع في التاريخ قواعد المنهج العلمي في التفكير.
أمامنا نموذج ثان، هو عبدالله بن عباس، وذلك عندما عرض على سيدنا علي بن أبي طالب محاورة الخوارج، قائلاً له: "أرسلني أناقش الخوارج، قال له عليٌّ: "أخافهم عليك، قال: لا تخف". فذهب ولبس أجمل عباءة لديه، وذهب للحلاق وتعطر بأفضل عطر عنده، فلماذا فعل ذلك؟
كان يلفت نظرهم إلى أصل المشكلة لديهم، وهي أن فقدان الإحساس بالجمال أدى إلى تطرف سلوكهم ونظرتهم للحياة، فعندما رأوه قالوا: ما هذا الإسراف يا ابن عباس، قال: "إن كنتم تعيبونه عليَّ فقد فعله رسول الله، هكذا كنت أرى رسول الله".
وكأنه يوصل لهم رسالة مفادها: أنهم تغيب عنهم سنة النبيِّ، وهو الإحساس بالجمال وإنتاج الجمال في الأفكار وليس اللبس فقط، فلما فقدوه تحولوا إلى القتل والعنف، لفت أنظارهم إلى أصل نفسي لمشكلتهم، ولم يكن ليفعل ذلك إلا بعد فهم عميق لمشكلة هؤلاء القوم.
بدأ في محاورتهم عارضاً نقاط قوة عليٍّ، ونقاط ضعفهم، قائلاً: "جئتكم من عند علي بن أبي طالب، وفي بيته نزل القرآن ومعه أصحاب رسول الله، وليس عندكم من ذلك أحد"، قبل أن يفتح معهم حواراً للحل، قائلاً: ما تنقمون على عليّ بن أبي طالب؟؟ قالوا ثلاثَ مسائل، قام بتحديد كليات الخلاف وليس الجزئيات، وقال هل هناك سؤال رابع، قالوا: لا.. ناقش المسائل الثلاث.. حُجَّةً بحجة.. فعاد ثلثُ الخوارج معه.
أبو حامد الغزالي، قام بنفس الشيء، كانت مشكلة عصره تتمثل فيما ترجم المسلمون من كتب فلاسفة اليونان، حيث حوت أفكاراً لا تناسب الإسلام، فماذا فعل؟، ألف كتاباً أسماه "مقاصد الفلاسفة"، قدم فيه حصراً لقضايا الفلاسفة، جمع كلامهم، وكل أسئلة الناس حوله، ثم ألَّف بعد ذلك كتاب "تهافت الفلاسفة"، وحدد الخلاف في عشرين مسألة فقط.
قبل أكثر من مائة عام، كان هناك قصة شهيرة للشيخ الفضالي، وهو رأس التيار الأزهري المستنير مع الحمارين، كانت مشكلة عصره الجهل، الجهل الشديد بالدين وبالعلوم، فأدرك المشكلة وبدأ يحلها.
كان الشيخ يسكن في (حي المنيل)، ويستخدم الحمار للوصول إلى الأزهر يومياً قبل أن تخترع السيارات، وكان الشيخ عندما يركب مع الحمّار يسأله: ما معنى كلمة (فقه)؟ فيرد الرجل: لا أعرف، فيقول له الشيخ: "هيا بنا نعرف الوضوء، وانتظر هنا حتى أعود معك"، وفي اليوم الثاني يسأل الشيخ الرجل عن جدول الضرب، حتى إنه وضع جدولاً للحمارين، يركب كل يومين مع نفس الحمّار، حتى يدور الفقه والحساب على كل الحمارين، بدلاً من أن ينام هو أو يسرح في الطريق استطاع أن يحل مشكلة الحمارين.
فمات الشيخ الفضالي وقد أصبح الحمارون يتكلمون في الفقه والحساب مثل الأزهريين، والذي قام به ليس عملاً دينيّاً فقط، إنما هو مسئوليتنا جميعاً: إنقاذ الإسلام وسد الفجوة بين الدين والحياة، بعد المناقشة والتفكير والبحث، حتى يسير الدين جنباً إلى جنب مع الحياة.
وهناك في تاريخنا رجل لم يسد الفجوة بين الدين والحياة فحسب، لكنه قام بعمل أكبر، هذا الرجل جعل الدين يسبق العصر "المكعبات" قام بوضع تصور للدنيا: ماذا تحتاج بعد عشرين سنة؟، وقام بوضع فقه تقديري، إنه الإمام "أبو حنيفة".
كانت مشكلة عصره ثقافات وأفكاراً غريبة وأموالاً دخلت فجأة على المسلمين في عصر الدولة العباسية، وجد أن الدنيا تسبق الدين بسرعة بالغة، وأن الحياة ستسبق الدين مائة سنة في سنة، فماذا فعل؟
قام بإنشاء مدرسة أو جامعة للفقه التقديري، جمع أربعين عالماً من تخصصات مختلفة أكاديمية وأخذ يطرح قضية للحوار ويجلس بجواره تلميذه أبي يوسف يكتب ما يتم الاتفاق عليه، وأحياناً الرأي يكون عكس رأي أبي حنيفة لكنه يثبته.
قضية في الزراعة، في الاقتصاد، في الزواج، في الطلاق، وأحياناً لمشكلة متوقعة في ثلاثين سنة قادمة، فأسس علم المستقبليات فأنشأ مدرسة "أكاديمية" لدراسة المستقبل من وجهة نظر الدين. وكانت أول مدرسة علمية فكرية لها علاقة بالدين.