أثينا تموج ببحر من المشاعر والشعارات، في أجواء لم تشهدها عاصمة أوروبية منذ أن أعلن عن تأسيس الإتحاد الأوروبي بعد اتفاقية ماسترخت عام 1992
لا يحتاج الزائر إلى كثير تدقيق حتى يتبين له أنه في عاصمة حائرة قلقة، تحاول أن تتعايش مع واقع من الوحشية الرأسمالية فُرضت على البلاد من دون رحمة، فشروط الإتحاد الأوروبي حولت هذا البلد العريق والصغير نسبيا إلى مجتمع من الغاضبين، فمن وجهة نظر الكثيرين هنا فإن الصفقة المهينة التي فرضها الإتحاد الأوروبي، واضطرت الحكومة اليونانية إلى توقيعها، تعني أن يخضع الشعب اليوناني سنوات طويلة لقيود من العبودية الإقتصادية لكي يتمكن من سداد الديون الضخمة التي بلغت 323 مليار دولار.
منظر أثينا من تلة الأكروبوليس التاريخية الشامخة يبدو كئيبا، بنايات قديمة منهكة، ألوانها باهتة، تتشح بسواد ترسب على جدرانها بسبب عوادم السيارات، ولم يحفل أصحابها بإعادة طلائها، فأولويات الحياة في اليونان بعد سبع سنوات من الأزمة الإقتصادية لا تفي بالضرورات فضلا عن الكماليات.
إجتهد المرشد السياحي ذو الثلاثين ربيعا في أن يشرح بحماس تاريخ التلة: مجمع بنايات حكومية قديمة يعود تاريخها الى القرن الخامس قبل الميلاد، عبرت مراحل متعددة، تعاقبت على إدارتها قوى متعددة: الرومان ثم البيزنطيون مرورا بالعثمانيين، وفي وسطها يقع مبنى البارثنون معبد آلهة الحكمة المسماة (أثينا) عند اليونانيين القدماء، والذي أخذت مدينة أثينا اسمها عنها.
وبينما كان أليكس منهمكا في شرح الذكاء المعماري للبارثنون، لاحظت لافتة صدئة بجوار البارثنون تتحدث عن ترميم المبنى، بدأ المشروع عام 1975 بتمويل مشترك من الحكومة اليونانية والإتحاد الأوروبي. أعرف أن المشروع متعثر حاليا بسبب نقص التمويل، وقد يحتاج ثلاثين عاما لكي يكتمل إن بقي مستوى الترميم بشكله الحالي البطيء.
عندما انتهى أليكس من شرحه حول البارثنون تعمدت الإشارة إلى الشراكة المتعثرة بين اليونان والاتحاد الأوروبي لإعادة تجديد المبنى الأهم في تاريخ أوروبا القديم، وفيما إذا كان سبب تعثرها هو الأزمة الإقتصادية الحالية، فرد أليكس بأن استكمال الترميم سيكون مهمة وطنية مقدسة، يجب أن يستمر الترميم، وسيقوم به اليونانيون أنفسهم إن تلكأ الأوروبيون، لكنني تابعت مشككا فيما إن كانت اليونان قادرة على القيام بذلك وسط الإضطراب الاقتصادي الحالي، وحالة الحيرة التي تهيمن على المجتمع اليوناني، وتساءلت إذا ما كانت اليونان قادرة بالفعل أن تعيش خارج منطقة اليورو في هذه المرحلة، لم يحتمل أليكس ما بدا له جهلا بعظمة اليونان مخيبا للآمال من جانبي، وانطلق يتحدث بحماس عن أن اليونان بتاريخها وفلاسفتها وديمقراطيتها العتيقة هي التي صنعت أوروبا، وأنها تجاوزت أزمات أشد وأنكى، أمسك أليكس بيدي وجذبني إلى طرف الساحة وأشار بيده إلى البحر وقال: هناك وفي عام 480 قبل الميلاد رست سفن الفرس، احتلوا أثينا وحرقوها، ولكن أثينا بقيت ورحل الفرس، ثم احتلها الرومان ومكثوا قرونا ورحلوا، وفي عام 1458 إحتلها العثمانيون، رحلوا وبقيت أثينا!
أعرف أن الناس عندما يواجهون أزمات عصية يعودون إلى سرد أمجاد الماضي، وهذا ما لمسته في حديث الكثير من اليونانيين هذه الأيام.
لا شك أن اليونان ذات تاريخ هو الأعرق في الحضارة الأوروبية، لكن ذلك لم يشفع لها أمام المؤسسات الدائنة الثلاث: مجموعة الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، لقد أسرفت اليونان في الإستدانة منذ منتصف التسعينيات من أجل سداد العجز في موازنتها، كما أن نسبة الفساد المالي الرسمي تجاوزت عشرة بالمئة من مجموع الدخل القومي، وعندما بدأت ديون اليونان تتراكم، وبدا واضحا للدائنين أن اليونان سوف تتأخر عن السداد، فرضت المؤسسات الدائنة شروطا قاسية لخفض الإنفاق الحكومي حتى تستمر في تقديم ديون جديدة، لكن إجراءات التقشف هذه أضرت هي الأخرى في قدرة الإقتصاد اليوناني على النمو، وهكذا وقعت البلاد في حلقة مفرغة، إلى أن عجزت رسميا عن سداد ديون مستحقة عليها لصندوق النقد الدولي آخر الشهر الماضي، ودخلت في عداد الدول المتخلفة عن السداد، وهو ما شُل الحياة الإقتصادية وأدى إلى تعطيل البنوك وحصر النقود التي يمكن للفرد سحبها من البنك بمبلغ لا يزيد على ستين يورو في اليوم الواحد.
توقفت عن المضي في الحوار الذي بدأ يوتر أليكس، وآثرت أن أهز رأسي موافقا، وبدلا من الحديث عن الأزمة الاقتصادية بدأت استفسر عن معبد أجورا الذي يظهر في الوادي أسفل التلة، محاولا الانسحاب مثل أليكس إلى الماضي الجميل.
اكتملت زيارة تلة الأكروبوليس، وهبطنا باتجاه حي بلاكا، حيث كانت المدينة القديمة تقع قبل أن تتحول إلى مجمع للمطاعم والمحلات السياحية، وفي الطريق إلى بلاكا أصر أليكس أن نصعد صخرة بانيكس التي كان يجتمع اليونانيون عليها للتداول في شؤونهم السياسية، لقد كانت البرلمان الديمقراطي الأول في التاريخ كما وصفها الدليل السياحي بفخر، ومن هنا انطلقت فلسفة أفلاطون عابرة للحدود حتى صارت الديمقراطية نظاما عالميا مقدرا، المشكلة هي أن ديمقراطية أثينا الحديثة ليست مثالية كتلك التي نظّر لها أفلاطون قبل 2500 عام في جمهوريته الفاضلة.
العنوان الرئيس في أحد الصحف المحلية يقول 🙁 ليس لدينا ديمقراطية بل ديكتاتورية اليورو)، وهذا صحيح، فالأزمة الإقتصادية المستمرة صنعت أزمة سياسية عاتية، لقد رفضت الديمقراطية اليونانية شروط المؤسسات الدائنة، وصوت 61 بالمئة في استفتاء شعبي ضدها، ولكن ديكتاتورية اليورو أجبرت رئيس الوزراء أليكسس تسيبراس على قبول حزمة شروط شبيهة بالحزمة التي رفضها الشعب. كان أليكسس اليساري الشاب أمل قطاعات شعبية واسعة في الخلاص من كابوس التقشف المفروض على البلاد، لقد خاض حزبه حملته الانتخابية تحت شعار رفض ديكتاتورية اليورو، إلا أنه اكتشف بعد شهور من المفاوضات الشرسة أن لا صوت يعلو فوق صوت المال. يقف اليوم أليكسس أمام حزبه وناخبين موقفا حرجا، لقد برر موافقته على الشروط الأوروبية على أنها تراجع تكتيكي، أضطر إليه كي يمنع إنهيارا مدويا للإقتصاد اليوناني، وخروجا محتملا من مجموعة اليورو الأوروبية. لقد أخطأ اليكس في توقعاته الديمقراطية وأصاب في تقديره لعواقب رفض الشروط فاتخذ قرارا شجاعا هو أهون الشرين، وكان صريحا مع شعبه، ولكن فالثمن السياسي الذي سيدفعه في المقابل لن يكون قليلا، وعليه الآن أن يدافع عن وحدة حزبه الذي بدأ بالتفكك.
كان الإستفتاء اليوناني مهرجانا وطنيا ركز على معاني الكرامة الوطنية في مواجهة الإهانة التي رآها اليونانيون في التشدد الأوروبي، حاولت الحكومة أن تستخدم نتيجة الاستفتاء لتحسين الشروط الأوروبية، لكن الألمان والبنك الأوروبي لم يتراجعا بعد الإستفتاء، ووجدت الحكومة نفسها أمام خيارين: إما الموافقة على شروط التقشف التي ستزيد الفقراء فقرا، وترفع نسبة الضريبة، وتقلص موازنة الخدمات والتقاعد، وإما أن يتوقف الدائنون عن الإقراض، وتنهار البنوك وتفلس الخزينة. كان على اليونان أن تخضع حتى لا تنهار اقتصاديا، عندها أضطرت حكومة سيريزا اليسارية أن تتجرع السم الأوروبي، وارتفعت أصوات يسارية متحمسة رافضة للصفقة، متهمة رئيس الوزراء بالتفريط، واندلعت مظاهرات شبابية منددة بالحكومة.
الرأي السائد في أوساط حزب سيريزا وأحزاب اليسار الأخرى في أوروبا أن التشدد الأوروبي ولا سيما الألماني كان بمثابة درس لشعوب جنوب أوروبا بأن التوجه نحو اليسار لن يجدي نفعا في إنقاذ اقتصاديات دول المتوسط المتعثرة، ثم لو أن ألمانيا الدائن الأكبر لليونان وافقت على إعادة جدولة الديون وتخفيف التقشف، لشجع ذلك دولا أخرى على التلكؤ في تطبيق التقشف المطلوب منها، لا سيما إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا، ومع أن اقتصاد اليونان صغير نسبيا، إلا أن اقتصاديات بَعْض هذه الدول ضخم، ولو تسامحت ألمانيا مع مطالب اليونان، فسوف تطمع هذه الدول في نفس المعاملة، وهو ما تراه ألمانيا خطرا كبيرا على اقتصادها.
الطريق عبر دروب حي بلاكا تحفل بمحلات تجارية تبيع الهدايا التذكارية، جدران الحي لوحة ضخمة متواصلة من الجرافيتي، تعكس رسوماتها حالة رفض شبابي واسع للواقع السياسي والاقتصادي، الأرقام الرسمية تشير إلى أن نسبة البطالة بلغت ٢٥ بالمئة، ولكنها في أوساط الشباب تجاوزت خمسين بالمئة، لقد أجبرت الأزمة الاقتصادية كثيرا من الشباب على العودة الى قراهم والعيش مع آبائهم وأمهاتهم لتخفيف وطأة الحياة المستقلة في المدن، قال لي أليكس أنه محظوظ لأنه وجد عملا، فالسياحة هي القطاع الوحيد الذي لا يزال يعمل بنشاط، وتقول الإحصاءات الرسمية أن أعداد السائحين ازدادت بنسبة ٢٠ بالمئة عن صيف العام الماضي، لكن التفاؤل النسبي الذي أبداه أليكس لم يكن ما وجدناه لدى بائع سُبٓح الكهرمان الذي توقفنا في محله، وبصوت محبط ذكر البائع أن تجارته قد كسدت، لم يعد أحد يشتري شيئا، وتوقف أهل البلد عن اقتناء السُبٓح التي يسمونها كابولاي، وهي من المقتنيات التي يحب الرجال اقتناءها، وتعد من لوازم الزينة والتأنق.
دعوت أليكس لتناول الغداء في أحد مطاعم البلاكا الشعبية، ذكرت له أنني أحب تناول زيت الزيتون مع الخبز، وقلت له ممازحا : هل تدري ما هو الفرق بين الحضارة والبربرية؟ إنه زيت الزيتون، الشعوب التي تتناول زيت الزيتون متحضرة… انفرجت أساريره فرحا وهو يقول : ولذلك فإن الألمان يأكلون الُزبدة !
استشرته في تناول أكلة شعبية، فطلب لنا طبقا من المسقعه، هي ذات المسقعة التي نعرفها في الشام، ويبدو أنها وصلت اليونان من المطعم التركي، لكنها اليوم وبنفس الإسم طبق يوناني شعبي، وخطر لي أن اليونان ربما تجد يوما ما في امتدادها المتوسطي وجوارها التركي بديلا إذا ما اضطرت للخروج من منطقة اليورو، لكن هذا الخاطر تبدد عندما طلبت فنجان قهوة تركية، فرد عامل المطعم بامتعاض عفوي : تقصد قهوة يونانية !