أعادت قضية الإلحاد طرح نفسها في مصر بعد تصريحات متتالية الأسابيع الماضية، كان أبرزها للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأخرى لمسؤولين دينيين ودعاة شباب يقرون فيها بوجود موجة إلحادية ويطالبون باحتواء أصحابها والرفق بهم، فهل يدشن هذا لمرحلة جديدة تقوم على قبول الملحدين في المجتمع وإخراجهم للعلن بعد عقود من الكتمان؟
وتواكبت تلك التصريحات مع إعلان مجموعة عن بدء الإجراءات القانونية لتأسيس حزب -وصفته الصحافة بأنه حزب للملحدين- وقالوا إنهم سيقومون من خلاله بأنشطة ميدانية في الشوارع والجامعات للدعاية لأفكاره الأمر الذي يمثل -إن صح- نقلة نوعية في نشاط المجموعات الملحدة في مصر.
سياسة الاحتواء
خلال خطابه في الاحتفال بليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي، قال الرئيس المصري إن الإلحاد ينتشر ولكن أصحابه "لم يخرجوا من الإسلام" الأمر الذي أثار سخرية على الشبكات الاجتماعية من بينها تعليقات لمن اعتبروا أنفسهم ملحدين.
أما الداعية الشهير عمرو خالد فأثار الجدل أيضا في برنامجه الرمضاني عندما اعتبر الملحد "شخص زعلان من الله"، والأفضل ألا تسبه أو ترهبه فيزيد "زعله" منه.
قبلهما بعام، أعلن وزيرا الأوقاف والشباب والرياضة، عن إطلاق حملة قومية لمكافحة انتشار الإلحاد بين الشباب والاستعانة بعدد من علماء النفس والاجتماع والسياسة والأطباء النفسيين.
٨٦٦ ملحدا
هناك إذن شعور متزايد بتنامي ظاهرة الإلحاد، ولكن المفارقة أن أحدا لا يستطيع أن يحدد كم عدد الملحدين ولا أن يؤكد عن يقين أن شخصا بعينه هو ملحد إلا في استثناءات محدودة، كما تبدو البيانات المتداولة حول عدد الملحدين مثيرة للشك وأحيانا للسخرية لعدم استنادها إلى دليل يقيني.
على سبيل المثال: اعتبرت "وحدة رصد الفتاوى الشاذة" التي أنشأتها دار الإفتاء المصرية أن في مصر ٨٦٦ ملحدا فحسب من بين ٨٨ مليون مواطن، ما أثار ضدها موجة تشكيك وسخرية محلية وعالمية لأنها لم تثبت مصدرا للمعلومة.
وفي مقابل ذلك الرقم الهزيل تقرأ في الصحافة المصرية دراسات أخرى منسوبة إلى جهات بحثية ترفع عدد الملحدين إلى ٣٪ من عدد السكان أو ما يزيد عن مليوني ملحد، وسيعييك أيضا أن تجد مصدر المعلومة.
والخلاصة أن هناك شعورا عاما بتنامي الاتجاه للإلحاد يستند في أغلبه إلى تعليقات تظهر على الشبكات الاجتماعية وبعض الإطلالات الإعلامية لأشخاص يجاهرون بالإلحاد.
فاقم ذلك الجدل أيضا مشروع تأسيس "الحزب العلماني المصري" الذي صاحبته ضجة صحفية واتهامات لأصحابه بالإلحاد بسبب دعوته إلى إلغاء خانة الدين من البطاقة الشخصية واعتبار العقيدة أمرا شخصيا.
وفي الحزب كما في الإطلالات الإعلامية وعلى الشبكات الاجتماعية لا يستطيع الناس تعداد ٢٠ اسما في مصر يعلن أصحابها أنهم ملحدون، وربما يرجع ذلك في أغلبه إلى ميل السلطات المصرية تاريخيا إلى اعتقال المتهمين بالإلحاد بتهمة ازدراء الأديان، ومعاقبتهم بالسجن سنوات وهي التهمة التي نجا منها قبل نحو شهر من الآن الإعلامي إسلام البحيري وصاحب القناة التلفزيونية طارق نور الأمر الذي اعتبرته بعض الصفحات التي تتحدث باسم الملحدين توجها جديدا من السلطات.
٣ محطات بعد مرسي
والواضح أن نشاطا أكبر للمجموعات التي تعلن إلحادها بدأ في الفترة التي أعقبت الإطاحة بالدكتور محمد مرسي أول رئيس إسلامي منتخب والزج بكثير من قيادات وأفراد جماعة الإخوان المسلمين -التي خرج من بينها- في السجون في يوليو ٢٠١٣.
المحطة الأولى بظهور وسائل تعبير خاصة بهم، فقد أنشئت صفحات عديدة على مواقع التواصل الاجتماعي لمن أسموا أنفسهم "المصريين الملحدين"، وهم خليط من مسلمين ومسيحيين سابقين، ودار متوسط أعضاء هذه الصفحات حول الرقم ٢٠٠٠ والطريف أن أحدها حمل اسم "ملحدون ضد الانقلاب" تقوم بالسخرية من الرئيس محمد مرسي ومن خلفه الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكرى في يوليو ٢٠١٣، وأظهر البعض تعاطفا مع هذه الصفحات من منطلق"حرية العقيدة" و"حرية الإبداع" اللتين نص عليهما دستور 2013.
تم الإعلان أيضا عن إطلاق مجلة وإذاعة ومحطة تلفزيونية توجه انتقادات للإسلام والإسلاميين. بدأت المجلة وتدعى "أنا أفكر" في إصدار نسخة ورقية غير مجانية تصل إلى المشتركين بريديا وذلك منذ رمضان عام ٢٠١٤، أما القناة فتحمل اسم "العقل الحر" ويقول أصحابها إنها تهدف لنشر الفكر العلماني، ومن بين مقدمي البرامج فيها شاب مصري يدعي (أحمد حرقان) الذي ظهر على فضائية مصرية مؤكدا أنه كان سلفيا ثم قرر اعتناق الفكر الإلحادي.
الحفاوة الإعلامية
المحطة الثانية كانت الانفتاح على استضافة الملحدين في وسائل الإعلام المصري حتى وإن كان الحوار ينتهي عادة بشجار مفتعل وطرد الضيف؛ فخلال إحدى الحلقات التلفزيونية طردت المذيعة ريهام السعيد ملحدة من الأستوديو لأنها أهانتها وهاجمت الإسلام حسب قولها، كما نشبت مشادة كلامية على الهواء بين الإعلامية ريهام السهلي وشابين ملحدين، طالبا بتمثيل الملحدين في لجنة وضع الدستور الأخير، أدت إلى إغلاق الخط في وجه أحدهما وطرد الآخر من الاستديو، اعتراضاً منها على ما وصفته بالتطاول على الدين الإسلامي.
قناة تلفزيون أمريكية أعدت تقريرا عن القناة الإلحادية من موقع التصوير داخل منزل مقدم البرامج والسلفي الذي أعلن إلحاده أحمد حرقان ظهرت فيها الإمكانات المتواضعة للتصوير، وخلال المقابلة قال المذيع -الذي لا يبدو اسمه حقيقيا-: "إن العديد من أبناء بلده يعتبرون الإلحاد إساءة إلى الدين مما يجعل من غير الآمن له التصريح بذلك علنياً في الوقت الحاضر"، فيما قالت زوجته "ندى مندور" مصورة ومخرجة البرامج أنها "تركت الدين قبل سنتين ومعظم افراد عائلتها ناقمون عليها".
وأعلن أصحاب القناة على موقعهم على فيسبوك استضافة عدد من المفكرين العلمانيين الذين اشتهروا بنقد أحكام الإسلام والفكر الإسلامي مثل نوال السعداوي وسيد القمني، والدكتور جورج بول الذي يقدم برنامج باسم "بين العلم والخرافة".
وفي حوار مع صحيفة "الوطن" المصرية٫ قال مؤسس القناة خلدون الغانمي إنه تم تسجيلها ويجرى إطلاقها على الأقمار الصناعية من أمريكا، لأنه من المستحيل إطلاقها من الدول العربية، للمطالبة بحقوق الأقليات المستضعفة والمضطهدة في الشرق الأوسط، وعلى رأسهم الملحدون، واعترف بأن "هناك مجموعة من الملحدين المؤسسين للقناة يقدمون بعض البرامج، على رأسهم أحمد حرقان، الملحد المصري".
ويرأس تحرير مجلة "أنا أفكر" شخص يحمل اسما مستعارا هو "أيمن جوجل" وتنتشر شائعات أنه هو نفسه الناشط الملحد المصري أحمد حرقان، وقد اعتبرت في مقالها الرئيسي: "لمَ نعادي التدين؟" أن سبب إلحاد أعضائها هو أن أكثر مناطق العالم تخلفاً ودموية وحروباً والأكبر في مستويات الجهل، هي المناطق التي ينتشر فيها التدين.
نقلة نوعية: حزب وأنشطة ميدانية
المحطة الثالثة تمثل نقلة نوعية حقيقة وهي الإعلان عن مشروع تأسيس "الحزب العلماني المصري". لم يعلن الحزب في أهدافه المنشورة أنه لسان حال الملحدين لكنه قال إنه يدعو لحرية الإيمان وأن عضويته مفتوحة لأي مصري مهما كانت عقيدته، ولكن صحفا مصرية أكدت أن بين مؤسسيه علمانيون وملحدون وليبراليون، ولكن المتحدث باسمه "هشام عوف" أكد أن الحزب لا يدعو إلى الإلحاد أو الإيمان.
أثارت الدعوة لإنشاء الحزب غضبا لدى شيوخ أزهريين ودعاة إسلاميين وأثارت جدلا واسعا على الشبكات الاجتماعية، ولكن اللافت أن صفحة الحزب على فيسبوك حازت ٢٥ ألف إعجاب، وقال مؤسسوه إنهم سيدشنون في ١٥ أغسطس المقبل مقرا علنيا لهم في وسط القاهرة وأعلنوا عن مراكز لجمع التوكيلات في المحافظات حيث يحتاجون لتجميع ١٥ ألف توكيل من عشر محافظات تمهيدا لتقديم أوراقهم للجنة شؤون الأحزاب للحصول على ترخيص.
ويقول المؤسسون إنهم سيبدأون أنشطة الحزب بعد تأسيسه بحملة إعلامية في الجامعات والنوادي الرياضية والنقابات المهنية لتعريف المصريين بالمعنى الحقيقي لمصطلح العلمانية بعيدا عن الدعاية السيئة التي ألصقها بها الإسلاميون طوال عقود طويلة وجعلها كلمة "سيئة السمعة".
اعتراضات وتحذيرات
أبرز الاعتراضات التي وجهت لفكرة الحزب على الشبكات الاجتماعية وفي وسائل الإعلام تركزت على تعارض أفكاره مع الدستور المصري الذي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة والشريعة هي مصدر التشريع، وربط بعضهم بين هذه الدعوة لتأسيس الحزب وما أعلنه الرئيس المصري حول "الثورة الدينية" والتي فسرت في أوساط قطاعات عديدة على أنها ثورة ضد مظاهر التدين.
وفي الصحافة المصرية، عبر عدد من علماء الأزهر عن رفضهم للحزب، معتبرين تأسيسه "غير جائز شرعاً ومحذرين من خطورة أفكاره على الأمن القومي والفكري والعقدي للمجتمع".
الدكتور محمد الشحات الجندي، عضو مجمع البحوث الإسلامية حذر من "قيام أحزاب للملحدين ومَن على شاكلتهم" لنسف كل العادات والتقاليد وتشكيك الناس فى أمور دينهم وأكد أن الأزهر وعلماءه لن يقبلوا برواج تلك الأفكار المنحرفة التي تؤدى إلى هدم المجتمع وتفكيكه".
واعتبر الدكتور محمود مهنا، عضو هيئة كبار العلماء إنه "لا يجوز شرعاً ولا دستوراً تأسيس حزب على أساس علماني أو إلحادي"، واتهم أصحاب هذا الحزب بأنهم "يريدون تفكيك الدولة والنيل من استقرارها".
وقال الدكتور عبد المنعم فؤاد، عميد كلية العلوم الإسلامية بالأزهر، أن "تقدم الملحدين بأوراق تأسيس حزب لهم سيفتح الباب للشيعة والبهائية وغيرهم لإقامة أحزاب تعبر عن أفكارهم، بينما الدستور لا يعترف إلا بالأديان السماوية الثلاثة".
في مقابل ذلك كان ملفتاً إعلان المتحدث باسم "حزب النور" السلفي نادر بكار أنهم "لا يمانعون في وجود حزب سياسي للشيعة أو للملحدين".