لو طلبت منك أن تُقدّم لي الآن عرضاً حيّاً، لأي شيءٍ تُفضله، سواء كان حديثاً عادياً أو غناءً أو رقصاً أو تمثيلاً، فقط أن تفعل أي شيءٍٍ تراه مُناسباً لك،أمام كاميرا مُسلّطة عليك مباشرةً، وفي مقابل ذلك، إن كان عرضك جذّاباً بما يكفي، سأعطيك بعضاً من المال.
فما الذي ستختار أن تقوم به؟
وماذا ستفعل إن راقني فعلاً ذلك العرض، وأردت منك أن تقوم بواحدٍ جديدٍ أفضل، ومن بعده واحد أفضل وأفضل، ووعدتك بأنّ المال سيتضاعف كلما كان عرضك مُرضياً لي، وبأنّ وجهك سيصبح شهيراً على مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً، وكل ما أطلبه منك هو فقط أن تجعلني أنبهر بما سأراه في الدقائق القليلة القادمة؟ فهل تستطيع فعلها؟
مع العلم.. بأنه لا يهم أبداً أن يكون عرضك عرضاً جميلاً أو راقياً أو أخلاقياً حتى..
لا يهم أبداً ذلك، بل ربما أنصحك -سراً- بعكس ذلك..
الشرط الوحيد.. هو ألا يكون هذا العرض مُملاً بأي حالٍ من الأحوال..
إذا شممتُ رائحة الملل في الثواني الأولى من أيٍ مما ستقدمه، سأُدير لك ظهري على الفور..
كل ما أُريده منك هو أن تجعلني أنظر إلى الشاشة لأطول وقتٍ ممكن..
أريدك أن تجعلني أنبهر، حتى ولو كان انبهاراً من مدى التقزز أو الدناءة أو الإباحية.. لا يهم..
أنت تعرف الآن أنّ إرضائي يُساوى شهرةً واسعة ومالاً كثيراً، فإلى أي مدى يُمكنك أن تصل في سبيل إرضائي؟
إلى أي مدى يُمكنك أن تتخلى عن مبادئك وقيمك وربما إنسانيتك في سبيل ذلك يا تُرى؟
ذلك بالضبط ما تعرضه عليك منصّات مقاطع الفيديو الشهيرة مثل Youtube ، Instagram ، TikToK وغيرها.. فهل وقعت في شباك إغراءاتهم بعد؟
لعنة الترند
لم أكن أعلم قبل كتابة هذا المقال، أنّه في اليوم الواحد، يوجد مليار شخص على مستوى العالم يُشاهدون مقاطع فيديو على موقع Youtube، وأنه يوجد حالياً حوالي 500 ساعة من الفيديوهات، يتم تحميلها على Youtube في الدقيقة الواحدة يومياً.
حجمٌ مهولٌ فعلاً، يجعل من اليوتيوب المنصة الثانية من منصات التواصل الاجتماعي، الأكثر استخداماً في العالم بعد الفيس بوك في عامنا هذا.
كان اليوتيوب هو البداية في عام 2005، من بعدها ظهرت العديد من المنصات، التي تعتمد على الفكرة نفسها، عليك أن تصنع فيديو يجذب أكبر قدر من المشاهدات، حتى تجني مالاً، وكلما زادت المشاهدات، كانت فرصتك أكبر في وجود الإعلانات، والتي هي باب الثراء السريع بحق.
حسناً كل ذلك جميل.. أين المشكلة؟
المشكلة فيما قد يفعله الناس، من أجل حلم الثراء والشهرة الذي يبدو كضربة حظ، ينتظرون أن تنفجر تحت أقدامهم في أية لحظة..
المشكلة في "الترند" الذي صار بعض الناس عبيداً له، يُقدمون أنفسهم كقرابين له، لعله يرضى عنهم، ويصيرون من المحظوظين..
إنها لعنة السوشيال ميديا، ولعنة المشاهدات، ولعنة المال والشهرة، الذي ما نجا منها على الأرض إلا قليل..
أسوأ ما يُمكن أن يفعله الإنسان بنفسه
كلما أرى فيديو هابطاً لأحد صانعي المحتوى، كما يُطلقون على أنفسهم، دائماً ما أفكر في مدى الإساءة التي يُسيء بها لنفسه، وهل هي فعلاً تساوي ما سيكسبه من مالٍ، مهما كان حجم هذا المال؟
يوجد الكثير من المحتوى السيئ حقاً على منصات الفيديو، أولّها والمنتشر حالياً هو فيديوهات الأزواج، وأرى أنّه من أسوأ ما يمكن لزوجين أن يفعلاه على الشاشة، هو أن يُقدما لقطات فيها إيحاءات لفظية وجسدية فيما بينهما، وكأنهما يُمثلان مشهداً سمجاً، يُفترض به أن يكون ساخناً من فيلمٍ هابط، وكل ذلك طبعاً من باب التسلية والضحك..
هزار ولكنه غير بريء، ويكون الأمر أسوأ وأسوأ حينما تظهر الزوجة فقط، ويكون المصوّر هو الزوج نفسه.
هناك أيضاً فيديوهات الأطفال، فبعض الأهالي يستخدمون أطفالهم للأسف الشديد، كما يستخدم أصحاب السيرك القرود في عروضهم، يقومون بتدريبهم، وتلقينهم، كي ينالوا استحسان المشاهدين، كالطفلة سليطة اللسان التي تتحدث كالكبار، والأطفال الصغار جداً الذين يُرددون الكلمات البذيئة أمام أهاليهم الذين يضحكون في فخر، وفتاة ما قبل البلوغ التي تظهر وهي ترقص أمام الكاميرا وهي تقلد حركات الراقصات المُثيرة، بتشجيع أهلها بالطبع.
هذا كله لا يتساوى مع الأم التي، لا سامحها الله، شاهدتها تتاجر بجسد أطفالها، وتعرض عوراتهم أمام الكاميرا بُحجة تعليم الناس كيفية إعطاء الحقن بصفتها ممرضة..
أما المراهقات والفتيات الأكبر سناً، فيستخدم بعضهنّ الوصفة السهلة التي لا تبور أبداً بمرور السنين، وهي استخدام جسدهنّ، وكل فتاة تعرف الآن أنّه لا يجب عليها أن تتعرى حتى تجذب مشاهدات كثيرة، فقد تكون محجبة، ولكن يكفيها أن ترقص مثلاً بشكلٍ مائعٍ أمام الكاميرا، ربما يفي هذا بالغرض…
هناك نوعية أخرى من الفيديوهات المؤذية للعين فعلاً، وهي لسيدات ترتدي كل واحدة منهنّ ما تُغطي به وجهها، بينما تلبس ثياب البيت الضيقة أو الشفافة، فيما يُسمى بفيديوهات روتين المنزل، والتي تظهر فيها السيدة وهي تقوم بالانحناء والحركة أمام الكاميرا بشكلٍ ما، من أجل تنظيف وترتيب المنزل على الوجه الأكمل، ولا داعي للشرح أكثر..
هذه عينة فقط، وهناك ما هو أسوأ بكثير..
إلى أين ذهب الرجال؟
لا يأخذك الظن أنّ الرجال ليس لهم نصيب من الفيديوهات الرخيصة المتصدرة حالياً على ساحة السوشيال ميديا، فهم لهم نصيبٌ محترم جداً في الواقع.
"نحن نفقد الرجال تدريجياً"
مقولة أراها تتحقق كلما رأيت رجلاً يضع مكياجاً أو يرقص كما ترقص النساء، أو ينحصر محتواه -حتى وإن كان كوميدياً- في تقليد المرأة، وكيف تتحدث، وكيف تمشي، وكيف تقود سيارتها إلى آخره..
رأيت في مرة مشهداً غريباً لرجلٍ يُنادي على زوجته وأمه بحماسٍ وفرحة غير عاديين، ليرقصا أمام الكاميرا على الهواء، وشاهدت رجلاً آخر يصور يوم ولادة زوجته ولحظة دخولها للعمليات ولحظة خروجها منه في فيديو طويل، وحمداً لله على أنه اكتفى بذلك فقط.
وهناك نوعية أخرى من الرجال الذين يرون أنفسهم "رجالاً جداً"، وهم يتغامزون ويتلامزون على المرأة بشكلٍ خاصٍ، وفاجر في الحقيقة، وكل كلامهم عبارة عن تلميحاتٍ بذيئة ونكات غير بريئة، والمشكلة أنهم يجلبون مشاهدات بالملايين، هذه أيضاً عينة فقط، فهناك ما هو أسوأ بكثير..
بعيداً عن مجتمعنا العربي، ماذا يفعل العالم على السوشيال ميديا؟
الأمر لا يختلف كثيراً هناك، فلعنة المشاهدات بدأت عندهم قبل أن تصلنا من الأساس، ولكن من أغرب الفيديوهات التي بدأت من كوريا وانتشرت إلى العالم أجمع هي فيديوهات الـ Mukbang أو Eating show بالإنجليزية. وفيها يجلس شخص يأكل بشراهة كميات مهولة من الطعام، وهناك من يتعمد أن يأكل بطريقة مقززة حقاً، حتى يجلب مشاهدات أكثر وأكثر..
ولعل هناك عبرة من قصة اليوتيوبر الشهير Nicholas Perry الذي كان نحيفاً منذ سنوات قليلة وتحول إلى رجل شديد البدانة، ومصاب بالعديد من الأمراض، بفضل فيديوهات الـMukbang الخاصة به، حتى منعه الأطباء من الاستمرار في صنعها حفاظاً على حياته.
تذكرت أيضاً فيديو اليوتيوبر الإنجليزية jordan cheyenne الذي عًُرض بالخطأ قبل أن تقوم بعمل المونتاج له، على اليوتيوب في العام الماضي، والتي ظهرت فيه وهي تطلب من ابنها ذي العشر سنوات أن يتظاهر بالبكاء حزناً على كلبه المريض، وهو الطفل الذي كان يبدو متألماً بالفعل، إلا أنّ والدته أرادت منه أن يُظهر حزناً أكبر ودموعاً زائفة أمام الكاميرا..
انتشر الفيديو سريعاً حول العالم كله، وصدرت ردود فعل عنيفة على جوردان، ما اضطرها للاعتذار، ولكنه للأسف كان اعتذاراً مؤسفاً، لأنها بدت وكأنها نادمة على ظهور تلك اللقطة نتيجة لإهمالها، بأكثر مما بدت آسفة لاستغلالها العاطفي لطفلها.
هذه الواقعة جعلتني أفكر.. ما الذي يدور حقاً وراء هذه الكاميرات؟
خاصة تلك التي تخص القنوات العائلية، ما الذي يفعله الآباء بأطفالهم وماذا يُعلمونهم؟
لعبة الاستفزاز التي تُجنى من ورائها الملايين
حينما شاهد الكاتب د. أحمد خالد توفيق رحمه الله، مع زوجته، المطرب الشعبي (شعبان عبد الرحيم) في حلقة من برنامج (من سيربح المليون). وهو يُجيب بسذاجته المعهودة عن أسئلة المذيع الشهير، الإجابات التي تجعل الجمهور والمذيع معاً مُنفجرين من الضحك..
قال د. أحمد: "في النهاية استطاع أن يحصل على 150 ألفاً من الجنيهات في بضع دقائق، قالت زوجتي إنّ هذا الرجل محدود الذكاء بشكل غير مسبوق، لكن رأيي كان مختلفاً. لقد خدع المشاهدين والمذيع الوسيم، وسخر منهم بمنتهى الخبث.. نحن خرجنا بإحساسٍ زائفٍ بالتفوق والذكاء، وهو خرج بمائة وخمسين ألفاً، فمن الأذكى؟ ومن الغبي الحقيقي هنا؟".
لعبة الاستفزاز هي لعبة تُمَارس كثيراً على السوشيال ميديا، مثلما فعلها شعبان عبد الرحيم رحمه الله قبلاً، وهي اللعبة التي يقول أو يفعل فيها صاحب الفيديو، كل ما قد يستفز المشاهد العادي، والذي سريعاً ما يُشارك الفيديو مع أصدقائه بسذاجة، مع دعوات كثيرة من السباب واللعن والتحقير، والتي كلما زادت رقص صاحب الفيديو فرحاً، لأنّه ازداد شهرةً ومالاً في الوقت نفسه.
كل ذلك وأكثر يحدث فعلاً، وما هو أسوأ منه، وفي كل لحظة تظهر فكرة شيطانية جديدة، تجعلنا نعرف أنّنا لم نصل للقاع بعد، ولن نصل أبداً، لأن تحت كل قاعٍ، قاعاً آخر أحطّ منه.
إدمان الشهرة، والرغبة في كسب المال السريع، بغض النظر عن التفكّر في كونه حلالاً أم حراماً، هما شهوة هذا الزمن..
لم تزدنا عوالم السوشيال ميديا قُبحاً أو انحطاطاً أو قذارة، كانت كلها بداخلنا طوال الوقت…
ولكننا عرفنا مؤخراً أنّ ظهورها على الشاشة في فيديو، يُمكنه أن يجعلنا أغنياء..
فباع من باع..
وما أبخسها من بيعة!!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.