تميّزت المغنية الفرنسية إديث بياف بصوتٍ فريد من نوعه، وطريقة غناء خاصة جداً، إضافةً إلى مجموعة أغنيات لامست الجمهور بكلماتها ولحنها الجميل. لكن وراء مسيرتها الفنية الناجحة، كان هناك الكثير من الألم والمعاناة.
فقد مرّت إديث بياف بالعديد من الإحباطات والانتكاسات في حياتها الشخصية تحديداً، منذ طفولتها إلى ما بعد شهرتها ونجاحها الفني.
وعلى مر السنين، قدمت بياف أغاني لا تزال راسخة في عقول جمهورها في أوروبا والعالم، أشهرها "La vie en Rose"، أو "الحياة الوردية"، التي أصدرتها سنة 1946، بالإضافة إلى "Non, Je ne regrette rien" التي أصدرتها في العام 1960.
لكن إدمان الكحول خطفها من جمهورها، وعمرها لم يتجاوز الخمسين سنة بعد، تاركةً وراءها قصصاً كثيرة وأغنيات بالمئات.
إديث بياف.. عائلة فقيرة وغناء في الشارع
ولدت إديث بياف، واسمها الحقيقي "إديث جيوفانا غاسيون"، يوم 19 ديسمبر/كانون الأول سنة 1915، من أب ذي أصول إيطالية، وأم ذات أصول مغاربية أمازيغية، في منطقة "بال فيل" بمدينة باريس، وهي منطقة اشتهرت بتواجد الأجانب بكثرة فيها.
وقد سُمّيت إديث بهذا الاسم تيمناً بالممرضة البريطانية إديث كافيل، التي كانت تساعد الضباط الفرنسيين على الهرب من معتقلات الألمان خلال الحرب العالمية الأولى.
عاشت إديث طفولة صعبة؛ كان والدها يشتغل كمهرّج في الشارع، بينما كانت والدتها مدمنة كحول تغني في الكباريهات. لكن إديث لم تعِش معهما طويلاً، بعد أن غادر الأب للمشاركة في الحرب، فيما تركتها والدتها للعيش مع جدتها عائشة سيد بن محمد، بسبب وضعها المادي الصعب.
لم تكن حياة إديث بياف وردية بعد أن انتقلت للعيش مع جدتها، التي كانت تعاني كذلك من وضعٍ مادي صعب. فكانت تعاني من نقص الغذاء، وأصبحت نحيلة وشاحبة الوجه.
بعد عودة والد إديث من الحرب قرر نقلها للعيش معه، إذ عاد للعمل كمهرج في الشوارع، فصار يأخذها معه للغناء خلال أداء فقرته، وعمرها لم يتجاوز 12 سنة.
عندما بلغت من العمر 17 سنة تعرفت إديث على شاب يدعى لويس دوبون، ووقعت في حبه، وأنجبت منه طفلتها الوحيدة. لكن علاقتهما لم تدُم طويلاً وانفصلا بعد فترة قصيرة، فتحملت تربية ابنتها وحيدة، قبل أن تموت عندما بلغت من العمر سنتين فقط، بسبب مرض التهاب السحايا، لأنها كانت تحملها معها خلال غنائها في الشارع في أجواء البرد القارس.
الصدفة قادتها إلى عالم الاحتراف
ومع مرور السنين أصبحت إديث بياف تمتهن الغناء في الشوارع، وحيدة وحزينة لما عاشته وهي في عمرها الصغير ذاك، فصقلت موهبتها الغنائية هناك، إلى أن ظهر في حياتها رجل يدعى لوي لوبلي بالصدفة. كان لوي صاحب أحد الملاهي الليلية في باريس، وأخذها للغناء هناك، حيث وقفت على خشبة المسرح لأول مرة، وهي تبلغ من العمر 20 سنة.
وبعد سنة واحدة تعرض صاحب الملهى للقتل، فكانت تظن أنها ستعود لحياتها البائسة مرة أخرى، لكن فرصتها الحقيقية كانت على يد الموسيقي ريمون أسوبتولي، الذي التقت به بمحض الصدفة. فقد انتقل بها من الغناء في الشوارع والحانات إلى أشهر استوديوهات التسجيل في فرنسا، وشرعت في رسم معالم مسارها الحقيقي في مجال الغناء.
وبالرغم من شكلها المختلف، مقارنة بالفنانات نجمات جيلها -إذ كانت إديث قصيرة القامة لم يتجاوز طولها المتر و57 سنتيمتراً، ونحيلة الجسم- بالرغم منذلك فإنها تمكنت من جذب الجمهور من خلال صوتها لا مظهرها، خصوصاً أنها كانت دائماً ما ترتدي فستاناً أسود بسيطاً في أغلب حفلاتها.
إديث بياف بين الحب والإدمان
دخلت إديث بياف في الكثير من العلاقات العاطفية، التي كانت تنتهي بسرعة، إلى أن تعرّفت على الملاكم الفرنسي مارسيل سيردان، خلال رحلة فنية لها في الولايات المتحدة الأمريكية، سنة 1947، فعاشت معه قصة حب كبيرة في العلن، بالرغم من زواجه.
بعد سنتين من علاقة الحب الكبيرة التي جمعتهما، توفي مارسيل في حادث تحطم طائرة، خلال رحلته من باريس إلى نيويورك، من أجل لقاء محبوبته إديث بياف.
ومثّلت وفاة حبيب بياف صدمة حقيقية لها، لم تتمكن من استيعابها يوماً. الأمر الذي تسبب لها في حالة من الهذيان، فتدهورت حالتها الصحية، وأصبحت مدمنة على الكحول والمورفين، طمعاً في أن يكونا سبباً في التقليل من شدة ألمها على فراق حبيبها، الذي تركها وحيدة، مثلما تركها أشخاص آخرون قبله.
لكنها حاولت إعادة فتح باب قلبها للحب من جديد، وارتبطت عشر مرات برجال من مشاهير الفن؛ منهم من كان يصغرها سناً، كالمغني الفرنسي جاك بيلس الذي تزوجها وحاول مساعدتها من أجل تخطي إدمانها، فكتب لها عدة أغانيات، وجلس إلى جانبها في المستشفى كلما ساءت حالتها. لكنه قرر الاستسلام والنفصال عنها بعد أربع سنوات من المحاولات الفاشلة.
تركت خلفها حكايتها الحزينة
خلال مسار حياتها المليء بالإخفاقات العاطفية، كان مسار إديث بياف الفني عبارة عن لوحة مزينة بعناوين الأغاني الناجحة، التي مازالت راسخة في عقول جمهورها. فكانت ثاني فنان يُسهم في نشر الأغنيات باللغة الفرنسية في العالم، بعد المغني شارل أزنافور، حسب ما قاله عنها النقاد.
وقد قدمت المئات من الأغاني الناجحة خلال الفترة ما بين 1933 إلى 1963، كان بعضها يحكي قصص معاناتها الحقيقية، والألم الذي كانت تعيشه في حياتها من حين لآخر.
وكانت أشهر هذه الأغاني:
- "Les Mômes de la cloche" سنة 1936
- "Le Petit Monsieur triste" سنة 1939
- "Un monsieur me suit dans la rue" سنة 1942
- "La Vie en rose" سنة 1946
- "Rien de rien" سنة 1951
- "Un grand amour qui s'achève" سنة 1955
- "Milord" سنة 1959
- "Le Chant d'amour" سنة 1963
لكن بسبب إدمان الكحول كانت حالة إديث الصحية تتدهور بشكل ملحوظ، وبدا عليها التعب، وكأنها سيدة في الستينيات من عمرها، في الوقت الذي كانت لا تزال في الأربعينات من عمرها.
وفي سنة 1963، عندما كانت تبلغ من العمر 47 سنة، أصيبت إديث بياف بتشمع في الكبد، وشلل في الحركة، ما أدخلها في حالة اكتئاب حاد، وتوفيت 11 أكتوبر/تشرين الأول من السنة نفسها، تاركةً وراءها الكثير من الأغاني التي تحكي في كل واحدة منها قصة تعبر عن ألمها ومعاناتها في الحياة، إلا أن أغنية "الحياة الوردية" كانت الأشهر، ومازالت تُغنَّى حتى بين جيل الألفية، الذي لم يسمع بأغانيها السابقة من قبل.