تمكنت الصين بعد عرض واضح لشدة نفوذها على كثير من الدول من إفشال مشروع قرارٍ تقدمت به دول غربية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لمناقشة تقرير مفوضة حقوق الإنسان السابقة الذي اتهم بكين بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق أقلية الإيغور، سكان إقليم شينجيانغ، وجرائم محتملة ضد الإنسانية.
جاء التصويت في مجلس حقوق الإنسان المكون من 47 دولة في جنيف يوم الخميس 6 أكتوبر/تشرين الأول، بأغلبية 19 صوتاً مقابل 17 صوتاً، وامتناع 11 دولة عن التصويت، لتكون النتيجة رفض دعوة قادتها الولايات المتحدة لإجراء مناقشة بشأن تقرير مفوضة حقوق الإنسان في اجتماع المجلس المقرر في الربيع المقبل، كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية.
ما هو تقرير مفوضية حقوق الإنسان لمناقشة انتهاكات الصين ضد الإيغور؟
التقرير كتبته مفوضة حقوق الإنسان المنتهية ولايتها، ميشيل باشليت، ونُشر في أغسطس/آب بآخر يوم لها في المنصب، ووصفته منظمات غربية بأنه تقرير واضح وصريح في إدانته للصين، لا سيما وأن معظمه يستند إلى بيانات رسمية صينية.
جاء مشروع القرار الأمريكي في أخف صيغة ممكنة لجذب أكبر عدد من الأصوات، ومع ذلك لم تتمكن الولايات المتحدة من تأمين أصوات كافية من الدول المتأرجحة في المجلس، ولم تستطع حتى إبقاء القضية على جدول أعمال الأمم المتحدة بإجراء مناقشة رسمية بشأن التقرير.
قالت صحيفة The Guardian البريطانية إن رفض مشروع القرار كان ضربة قاسية لمناصري القيم العالمية لحقوق الإنسان، وإثباتاً جديداً بأن كثيراً من الدول ترفض الانحياز إلى جانبٍ ما فيما يُوصف بصراع الأيديولوجيات القائم بين الصين والغرب.
ضغوط مكثفة من الصين أفشلت القرار
تأكدت هزيمة مشروع القرار بعد أن رفضت عدة دول إسلامية، منها باكستان وإندونيسيا، مساندة مساعي التحقيق في اضطهاد مسلمي الإيغور. وكانت المكسيك واحدة من دول كثيرة امتنعت عن التصويت بعد ضغوط مكثفة من الصين.
وقالت إندونيسيا في اجتماع جنيف إنها لمَّا كانت أكبر دولة إسلامية [من جهة عدد السكان]، فإنها لا يمكنها التخلي عن أشقائها المسلمين الإيغور، وإن كانت تميل إلى الحوار، ومع ذلك فقد صوتت بعد ذلك برفض الدعوة إلى مناقشة التقرير.
واستنكر صالح حديار، مؤسس حركة "الصحوة الوطنية لتركستان الشرقية" التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، تصويتَ الدول ذات الأغلبية المسلمة برفض مشروع القرار، ووصف الأمر بأنه "خيانة مخزية".
وقال دولكون عيسى، رئيس "المؤتمر العالمي للإيغور"، إن "دول مجلس حقوق الإنسان أهدرت فرصة لمعاملة الصين بالمعايير ذاتها التي تُعامل بها الدول الأخرى"، وامتناع الدول الأعضاء عن مساندة المشروع "إعراض صارخ عن مبادئ الموضوعية والحوار والحياد ومكافحة التمييز والإنصاف التي أعلنت التزامها مسبقاً".
أقرَّ دبلوماسيون غربيون قبل التصويت بالتقارب الشديد في عدد الأصوات بين الجانبين، وأشاروا إلى أن أصوات الدول المتأرجحة ستكون حاسمة للنتيجة، وقد شملت تلك الدول كازاخستان وماليزيا والبرازيل والسنغال.
رفض مشروع القرار يقطع الطريق على محاولات الغرب للضغط على الصين بهذه القضية
كان الدبلوماسيون الغربيون يعلمون أن محاولة وضع قوة عظمى في قفص الاتهام بالأمم المتحدة مخاطرة كبيرة، إلا أنهم قالوا إنه لا يجوز السماح بتجاهل التقرير الواضح في إدانته وتركِ الصين تفلت من دون أي عقاب، بحسب "الغارديان".
قال أولاف وينتزيك، مدير مؤسسة "كونراد أديناور" في جنيف، إن "هذه النتيجة مخيبة للآمال، وتنال من مصداقية الأمم المتحدة، لكن لا يمكن القول إنها لم تكن في الحسبان، وهي تدل في الوقت نفسه على قدر النفوذ الدبلوماسي للصين".
واستغرب وينتزيك: "ألا يحصل هذا التقرير الذي يتضمن بيانات واضحة بشأن الحالة الكارثية في شينجيانغ على مساندة كافية من الدول لإجراء نقاش بشأنه. لا سيما وأن المروجين للقرار لم يرغبوا في الحديث مثلاً عن آلية لرصد [الانتهاكات]، وإنما مجرد النقاش، لكن حتى ذلك كان أكثر من اللازم لكثير من الدول الأعضاء".
من جانب آخر، أكد سيمون مانلي، سفير بريطانيا في مجلس حقوق الإنسان بجنيف، أن "مساعي الصين لكبت النقاش وإخفاء الحقيقة لن تنجح. فقد بعث تصويت اليوم برسالةٍ واضحة إلى الصين مفادها أن دولاً كثيرة لن تسكت عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، حيثما كانت ومهما كان مُرتكبها. ولذلك فإننا سنواصل العمل مع شركائنا على محاسبة السلطات الصينية وتسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان في الصين".
وقالت صوفي ريتشاردسون، مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش في الصين، إن رفض مشروع القرار كان "تنصّلاً من المسؤولية وخيانة لضحايا الإيغور. لكن تقارب الأصوات دلَّ على أن مزيداً من الدول مستعدة لمقاومة ما تفرضه الصين عليها من ضغوط للبقاء صامتة. فقد اتخذوا موقفاً يعبر عن تمسكهم بالمبادئ، وسلطوا الضوء على انتهاكات الصين الجسيمة لحقوق الإنسان".
محاولات غربية طويلة لإدانة الصين
ثابرت الدول الغربية مدةً طويلة على بذل الجهود لإقناع الصين بأن تسمح لباشليت بإجراء تحقيق بشأن الانتهاكات داخل الصين، ومع ذلك فقد وصلت نتائج هذه الجهود الآن إلى طريق مسدود بعد الفشل في عرض التقرير على المجلس للنقاش. وقال دبلوماسيون غربيون إنهم سيبذلون وسعهم لإقناع مفوض حقوق الإنسان الجديد، النمساوي فولكر تورك، بوضع القضية على رأس جدول أعماله.
يُنتخب أعضاء مجلس حقوق الإنسان كل سنتين على أساس كل كتلة إقليمية، ويجتمع المجلس في جنيف مرتين في السنة. وكانت الولايات المتحدة غادرته في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب بذريعة تحيز المجلس ضد إسرائيل.
اتهمت المفوضة السابقة، ميشيل باشليت، الصين قبيل مغادرة المنصب بارتكاب "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان" وزعمت ممارستها "جرائم ضد الإنسانية"، منها الاعتقالات الجماعية وغيرها من صنوف الاضطهاد للإيغور والأقليات الأخرى في الصين.
أشار تقرير باشليت إلى أن الاعتقال المنهجي للجماعات المسلمة في مقاطعة شينجيانغ يمكن تصنيفه بأنه جرائم ضد الإنسانية، وحثَّ الصين على "اتخاذ خطوات فورية" بالإفراج عن جميع المعتقلين فيما يسمى مراكز التدريب أو السجون أو مرافق الاحتجاز.
واستشهد التقرير في مزاعمه بـ"النمط التمييزي" الممنهج في الاعتقال، ووصف مزاعم "التعذيب" في شينجيانغ بأنها "ذات مصداقية"، وقال إن الأمر يتطلب اهتماماً دولياً "عاجلاً".
على الرغم من ذلك، أشار دبلوماسيون بريطانيون إلى أنه بات من المرجح الآن [بعد فشل مشروع القرار المقدم لمناقشة مزاعم انتهاكات الصين] أن يسافر كل من المستشار الألماني أولاف شولتز، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قريباً إلى بكين لإصلاح العلاقات مع الرئيس شي جين بينغ بعد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني منتصف هذا الشهر.