يهدد مزيج سام من السياسة والتضخم وارتفاع أسعار الفائدة النظام المالي في بريطانيا، ويؤثر على الأسواق العالمية. وهو أيضاً بمثابة تحذير من العصر الاقتصادي الجديد الذي ندخله؛ إذ أثار تخفيض الضرائب المفاجئ الذي أقدمت عليه الحكومة البريطانية الجديدة منذ نحو أسبوع قلق المستثمرين إزاء مصداقية البلاد المالية، وأدى إلى انهيار الجنيه الإسترليني وسوق السندات الحكومية البريطانية.
ما تأثير الأسواق المالية البريطانية على الاقتصاد العالمي؟
تقول صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية، إن هذه التخفيضات لم تكن كبيرة، لكن الاضطرابات التي شهدتها الأسواق الأسبوع الماضي كانت غير اعتيادية. ففضلاً عن التقلبات الضخمة في قيمة الجنيه، فقدت السندات طويلة الأجل، المستحقة خلال 50 عاماً، ثلث قيمتها في أربعة أيام. ثم قفزت قيمتها بأكثر من الربع في يوم واحد بعد شراء السندات الطارئ الذي أقدم عليه بنك إنجلترا، بهدف منع دورة بيع اضطراري من صناديق التقاعد. وبالمقارنة كانت أكبر حركة هبوط سابقة في أربعة أيام نصف هذا الحجم، وبلغت نسبة أكبر مكاسب يومية 15%، وكلاهما كان في الوقت الذي تسببت فيه إغلاقات الجائحة في تعطل الاقتصاد.
كان لهذه التحركات الكبيرة تأثير مباشر على الأسواق العالمية، وهذا أدى إلى ارتفاع عوائد الدولار وسندات الخزانة والإضرار بأسعار الأسهم والسلع، وتراجع السوق مرة أخرى.
تقول وول ستريت جورنال، إن مكانة لندن كمركز مالي رئيسي وقاعدة للمستثمرين العالميين، بالإضافة إلى دور سعر صرف الجنيه الإسترليني مقابل الدولار كثالث أكثر أزواج العملات تداولاً في العالم، غالباً ما يمنحها تأثيراً كبيراً على الأسواق العالمية، ولكن ثمة مشكلة أكبر، فالمملكة المتحدة ربما تكون عصفور الكناريا في منجم الفحم، أو بمعنى آخر تحذير من المخاطر التي تواجهها الأسواق المتقدمة الأخرى أيضاً.
وهذه المخاطر ستتضاعف ثلاث مرات، فعلى المدى القصير، هل المملكة المتحدة حالة خاصة، أم أنها مجرد الضحية الأولى لحراس السندات (المستثمرون الذين يعاقبون الحكومات المبذرة بتكاليف اقتراض مرتفعة)؟. وعلى المدى الطويل، هل تسلك المملكة المتحدة مرة أخرى نهجاً متطرفاً- أي سياسة مالية فضفاضة ينتج عنها مزيد من الضغوط التضخمية- سيصبح الوضع الاعتيادي الجديد؟
وأخيراً، يقول خبراء الاقتصاد إن الاحتياطي الفيدرالي يرفع أسعار الفائدة إلى أن ينهار شيء ما. ويتمثل دور الاحتياطي الفيدرالي في كل هذا في أن رفعه لأسعار الفائدة يرفع قيمة الدولار، وهذا أثر على قيمة الجنيه الإسترليني ورفع أسعار الفائدة العالمية حتى قبل عمليات البيع المدفوعة بخفض الضرائب. وها قد انهار شيء ما، وربما تنهار أشياء أخرى أيضاً.
التضخم مستمر وكذلك رفع أسعار الفائدة
ولحل المشكلات قصيرة المدى، من الضروري أن نبدأ بما لم يسر على النحو الصحيح، فقد بدأ هذا كله بتخفيض الحكومة المفاجئ للضرائب غير الممولة، بما يصل إلى حوالي 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، وهذا سيفيد الأثرياء أكثر من غيرهم. ومن المنظور العام لا يبدو هذا التخفيض كبيراً، لكن تأثيره كان كبيراً بسبب أسعار الفائدة المرتفعة، والديون المرتفعة، وتآكل مصداقية مؤسسات البلاد، ومعظم هذه المشكلات بدرجة أكبر أو أقل تنطبق على جميع دول العالم المتقدم.
وترتفع أسعار الفائدة في كل مكان تقريباً، وهذا يثير قلق المستثمرين، فالاقتراض لتحفيز الاقتصاد حين يكون التضخم بمعدلات تتجاوز 10% ورفع البنك المركزي لأسعار الفائدة لتهدئة التضخم ينتج عنه تضارب بين السياسة النقدية والمالية، ويدفع بنك إنجلترا لاتخاذ خطوات أخرى. وسلكت أوروبا نهج زيادة الإنفاق، عوضاً عن خفض الضرائب، فبدأت لتوها ضخ حوافز صندوق Next Generation EU التي تبلغ قيمتها 750 مليار يورو (735 مليار دولار).
وتوقفت الولايات المتحدة عن تقديم الدعم المالي، بعد معارضة مجلس الشيوخ لخطة الرئيس جو بايدن Build Back Better، والتضخم الذي نتج عن حزمة التحفيز الضخمة للعام الماضي. وانتهى المطاف بجزء من الخطة الأصلية في قانون خفض التضخم الأكثر توازناً مالياً.
الديون تفاقم الأزمة
وفي بريطانيا، كان من المقرر أن يقفز الدين بالفعل نتيجة للدعم المنتظر البالغ 150 مليار جنيه إسترليني أو نحو ذلك (140 مليار دولار) لنفقات الطاقة للمنازل والشركات. وكان هذا أكبر دعم تقدمه أي دولة في أوروبا حتى تفوقت عليها ألمانيا يوم الخميس، 29 أكتوبر/تشرين الأول 2022، لتصل نسبة الدعم إلى 6.5% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة، وفقاً لمركز Bruegel البحثي ومقره بروكسل.
ورغم ذلك، لم تتأثر الأسواق بهذا الدعم، لأنه مؤقت بهدف تعويض الارتفاع الهائل في أسعار الطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا؛ لكن التخفيضات الضريبية وما يرتبط بها من خسارة في الدخل الحكومي ستكون دائمة، وكذلك التهافت على البيع بالضرورة.
وما يزيد وضع الديون سوءاً أن بريطانيا تضطر إلى الاقتراض من الخارج، لأنها تعاني من عجز هائل في الحساب الجاري. وهي تتمتع بميزة رئيسية لأسواق الدول المتقدمة، وهي أنها تقترض بعملتها، ولكن كلما اضطرت إلى الاقتراض انخفضت قيمة العملة، أو كلما ارتفع سعر الفائدة، أو كلاهما، مثلما حدث الأسبوع الماضي، لجذب المقرضين في الخارج.
ولم يكن إعلان تخفيضات الضرائب واضحاً، فلم تفسر الحكومة تأثيرها على إيراداتها، واكتفت بالإشارة إلى رغبتها في زيادة النمو، وهو ما قالت إن التخفيضات الضريبية ستساعد في تحقيقه، لكن خبراء الاقتصاد والمستثمرين لم يتفقوا. والتزمت رئيسة الوزراء ليز تراس الصمت عدة أيام بعد رد الفعل المتوحش للسوق، ثم حاولت أن تلقي بمسؤولية الهبوط في الأصول البريطانية على عوامل عالمية، لكن إنكار ما يراه جميع المستثمرين بوضوح استراتيجية فاشلة لاستمالة الناس، كما تقول وول ستريت جورنال.
والمؤسسة التي تتولى عادة مراجعة خطط الضرائب والإنفاق الجديدة، مكتب مسؤولية الميزانية، هُمشت ولم يُطلب منها تقديم التقييم المعتاد.
وأمضت تراس معظم شهور الصيف في مهاجمة النهج التقليدي لخزانة المملكة المتحدة في التعامل مع الاقتصاد، وهو نهج طمأن أسواق السندات، لكنها اعتبرته مسؤولاً عن تباطؤ النمو الاقتصادي البريطاني خلال العقد الماضي. وأقيل وزير الخزانة البريطانية في أول تحركات الحكومة، وهي خطوة غير اعتيادية بكل المقاييس في نظام الخدمة المدنية غير الحزبية في بريطانيا.
هل كانت بداية كل ذلك بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟
يقول ريتشارد روب، الشريك المؤسس لشركة كريستوفرسون روب، لصحيفة وول ستريت جورنال: "في البداية جاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم بوريس جونسون، وبعد ذلك ظننا أن الأمور ستعود إلى طبيعتها، ولكن مهلاً… لم يعد شيء إلى طبيعته".
والدول الأخرى تواجه بعض أو كل هذه المشكلات، ولكن لم يتعامل أي اقتصاد من اقتصادات الدول الكبرى بهذا الامتهان مع رغبات السوق، وتعطي المملكة المتحدة للقادة الآخرين درساً عملياً في وجوب توخي الحذر، ولعل بريطانيا هي عصفور الكناريا، لكن تذبذبها بمثابة تنبيه للدول الأخرى، كي تتعامل مع أسواق السندات بصورة أفضل.