تتجه اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل إلى محطتها النهائية، فيما يبدو نجاحاً لإدارة جو بايدن، فلماذا وافقت تل أبيب الآن على ما رفضته على مدى عقد من الزمان، وكيف يمثل الاتفاق انتصاراً لبيروت؟
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، قد أعلن، الأحد 2 أكتوبر/تشرين الأول، موافقة حكومته على مقترح أمريكي لحل النزاع البحري مع لبنان، بينما أعلنت بيروت موافقتها الثلاثاء، رغم تقديم مقترح بإدخال تعديلات على المسودة الأمريكية، من المتوقع ألا يكون لها تأثير على مسار المفاوضات، ما يعني احتمال أن يتم ترسيم الحدود رسمياً في أقرب وقت.
ترجع جذور النزاع على الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل إلى عام 2007، عندما وقَّعت الأولى اتفاقية فتح الحدود البحرية مع قبرص، وهو ما فتح الباب أمام احتمال تعديل حدود المنطقة البحرية بين إسرائيل ولبنان. ورغم أن البرلمان القبرصي صدَّق على الاتفاقية عام 2009، فإن لبنان لم يصدّق عليها حتى الآن.
وفي عام 2010، وقَّعت إسرائيل وقبرص اتفاقية تنفيذية لتحديد المنطقة الاقتصادية الحصرية بينهما، واعتمدت قبرص فيها على اتفاقيتها مع لبنان عام 2007 في تحديد الحد الشمالي لحدودها البحرية.
وكنتيجة لهذه الاتفاقية، حدث تداخُل بين الحدود البحرية الشمالية التي تقول إسرائيل إنها حدودها من جهة وبين الحدود البحرية الجنوبية للبنان من جهة أخرى، وانتقد لبنان الاتفاقية البحرية بين إسرائيل وقبرص، معتبراً إياها اعتداءً على حقوقه السيادية الخالصة في تلك المنطقة.
ورغم ذلك قامت إسرائيل بإيداع تلك الإحداثيات البحرية المتنازع عليها لدى الأمم المتحدة على أنها حدود تل أبيب البحرية، وكان ذلك في يوليو/تموز 2011. وتبلغ مساحة المنطقة المتنازع عليها 860 كيلومتراً مربعاً، يوجد فيها حقل كريش للغاز الطبيعي.
وساطة أمريكية مدتها عقد من الزمان
ترجع جهود الوساطة الأمريكية في النزاع البحري بين لبنان وإسرائيل إلى بداية الأزمة، وكان فريدريك هوف، الدبلوماسي الأمريكي الذي كان مكلفاً بالوساطة بين إسرائيل ولبنان من عام 2010 حتى 2012، قد قال لموقع ميدل إيست آي البريطاني: "قبل أكثر من 10 سنوات، قضيت أنا وفريقي في الخارجية الأمريكية وقتاً طويلاً للغاية لدراسة كيف توصل لبنان وإسرائيل إلى تلك الإحداثيات، واقتنعنا أن كلاً منهما لديه وجهة نظر سليمة رغم استخدامهما معايير مختلفة".
تبلغ مساحة المنطقة المتنازع عليها 860 كيلومتراً مربعاً بحسب الخرائط المودعة من جانب لبنان وإسرائيل لدى الأمم المتحدة، وهي منطقة غنية بالغاز الطبيعي، وتقع بين الخطين 23 و29.
كان الوسيط الأمريكي، هوف، قد صرح بأنه عرض على نجيب ميقاتي عام 2011، الذي كان رئيساً لوزراء لبنان وقتها، أن تحصل بيروت على 55% من عائدات المنطقة المتنازع عليها، وتحصل تل أبيب على 45%، لكن تم رفض المقترح من جانب الطرفين، وكان ذلك الاقتراح يعرف بعدها بأنه "خط هوف".
وفي عام 2017 اكتسب النزاع الحدودي البحري أهمية خاصةً بعد أن وقَّع لبنان اتفاقاً لاستكشاف وإنتاج الغاز الطبيعي مع تحالف من الشركات الدولية مكون من توتال الفرنسية وإيني الإيطالية ونوفاتيك الروسية، وذلك في المربعين 4 و9.
وعام 2020، عادت الوساطة الأمريكية مرة أخرى، بعد أن وصل النزاع البحري إلى مرحلة خطيرة من التوتر، في ظل بدء إسرائيل، من خلال شركة إنيرجين اليونانية، الاستعداد لاستخراج الغاز الطبيعي من حقل كاريش وتهديد حزب الله، المدعوم من إيران، باستهداف سفن التنقيب في المنطقة، باعتبار ذلك اعتداء على حقوق لبنان البحرية.
ومنذ ذلك الوقت، يتنقل الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين بين لبنان وإسرائيل، في محاولة لإبرام اتفاق من شأنه أن يمهد الطريق للتنقيب عن موارد الطاقة البحرية ونزع فتيل مصدر محتمل للصراع في المنطقة.
ومع تولي جو بايدن المسؤولية في البيت الأبيض، منذ يناير/كانون الثاني 2021، استمرت جهود الوساطة الأمريكية بقيادة هوكشتاين، دون أن تلوح في الأفق بوادر اتفاق بين بيروت وتل أبيب، لكن الأسابيع القليلة الماضية شهدت تكثيفاً واضحاً لتلك الجهود، لأسباب يتعلق أغلبها ببايدن نفسه، بحسب الصحافة الإسرائيلية.
لماذا وافق لابيد على ترسيم الحدود البحرية مع لبنان؟
"لابيد استسلم في الصفقة البحرية مع لبنان، لكنه لم يستسلم لحسن نصر الله"، تحت هذا العنوان نشرت صحيفة Haaretz العبرية تحليلاً، ألقى الضوء على كواليس الموافقة الإسرائيلية على المقترح الأمريكي، رغم أن ذلك المقترح لا يحمل جديداً عما عرضته واشنطن منذ البداية.
كانت مصادر مُطلعة قد كشفت لـ"عربي بوست" أن إسرائيل وافقت على الشروط اللبنانية بخصوص ترسيم الحدود البحرية، وبالتالي سيكون لبيروت الحق في التصرف في كل من الخط 23، بالإضافة إلى حقل قانا كاملاً.
كان بايدن ولابيد قد تحدثا هاتفياً يوم 31 أغسطس/آب الماضي، وهو أمر طبيعي بين الحليفين بطبيعة الحال، لكن ما لم يكن طبيعياً هو أن البيان الذي أصدره البيت الأبيض حول تلك المكالمة حمل فقرة لم تكن موجودة في البيان الصادر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي.
"كما أكد الرئيس على أهمية إنهاء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان خلال الأسابيع القليلة القادمة"، بحسب ما رصده تحليل هآرتس، الذي فسر تلك العبارة على أنها "بكلمات أخرى أخبر بايدن لابيد بأنه (أي الرئيس الأمريكي) قد نفد صبره من التأخيرات في هذا الملف، وأنه سيرسل مبعوثه (هوكشتاين) إلى المنطقة لتوقيع الاتفاق، كي تنطلق عمليات تطوير حقل "كاريش" الإسرائيلي وحقل "قانا" اللبناني للغاز الطبيعي.
وترى الصحيفة العبرية أن إسرائيل لم ترضخ لمطالب حزب الله، كما يزعم رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، لكنها (أي تل أبيب) استجابت لطلب من البيت الأبيض، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لطبيعة العلاقة بين دولة عظمى (الولايات المتحدة) وأحد حلفائها الصغار، أي إسرائيل، التي تعتمد على الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري الأمريكي.
الخلاصة في تحليل هآرتس هي أن إسرائيل تحتاج للدعم الأمريكي في جبهاتها الرئيسية، وفي المقابل لا بد لتل أبيب أن توافق على ما قد تطلبه واشنطن، ولهذا وافق لابيد على "طلب" بايدن، حتى وإن أراد (لابيد) أن يبقي القصة برمتها طي الكتمان.
وتتكون مسودة المقترح الأمريكي من عشر صفحات تتضمن ترتيباً يتم بموجبه إنتاج الغاز من قبل شركة بترخيص لبناني في حقل قانا المتنازع عليه، مع حصول إسرائيل على حصة من الإيرادات، واقترح مسؤولون لبنانيون علناً دوراً لشركة توتال إنرجيز، وقال مصدر مطلع لرويترز إن مسؤولاً إسرائيلياً كبيراً التقى بممثلين للشركة في باريس، الإثنين 3 أكتوبر/تشرين الأول.
كان إلياس بو صعب، نائب رئيس مجلس النواب اللبناني، قد أعلن الثلاثاء أنه قدم لسفيرة الولايات المتحدة في لبنان "تعديلات" تريدها بيروت على المقترح الأمريكي، دون الخوض في تفاصيل، مضيفاً أنه لا يعتقد أن التغييرات المقترحة ستؤدي إلى خروج الاتفاق عن مساره، مؤكداً أنه في حين أن الرد لا يعني الموافقة على المسودة، فإننا "أنهينا المفاوضات".
وبحسب بو صعب، حصل لبنان على جميع المناطق (البلوكات) البحرية التي يعتبرها تابعة له: "لبنان لن يدفع قرشاً من حصته في حقل قانا لإسرائيل، وهذا من صلب الاتفاقية ولا حقوق لإسرائيل من قانا".
أما لابيد، فقد وصف الاتفاق بأنه يعطي لإسرائيل "الأمن بنسبة 100% وحقل كاريش للغاز الطبيعي بنسبة 100%، وحتى جزء من مداخيل لبنان من حقل قانا". وما يقصده لابيد بالأمن هو أن عمليات التنقيب الإسرائيلية في حقل كاريش ستكون آمنة من تهديدات حزب الله باستهدافها، وفي المقابل ستبدأ شركة توتال الفرنسية عملياتها في حقل قانا، حيث كانت الشركة قد رفضت البدء قبل توقيع اتفاق ترسيم الحدود بين بيروت وتل أبيب.
لماذا "طلب" بايدن توقيع الاتفاقية الآن؟
للرئيس جو بايدن دوافع شخصية وراء دخوله على خط أزمة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في هذا التوقيت، وبهذه الصورة الحازمة، التي تجسدت في صورة "أمر" مباشر إلى لابيد بإنهاء المفاوضات وتوقيع الاتفاق، وهذه الدوافع لا تخفى على أحد، بحسب الصحافة العبرية.
فتجاهل الرئيس الأمريكي مواصلة الجهود لدفع قطار التطبيع بين إسرائيل ودول عربية أخرى، عكس ما قام به الرئيس السابق، دونالد ترامب، عندما أدت مساعيه إلى توقيع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان "اتفاقيات أبراهام" مع تل أبيب، جعل بايدن يريد أن يحقق إنجازاً في الشرق الأوسط.
ولا يريد الرئيس إضاعة "وقته ووضعه السياسي" في محاولة تحقيق سلام بين دولة الاحتلال والفلسطينيين، لكنه وجد في أزمة الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان ملفاً يمكن أن ينهيه بنجاح، خصوصاً أن فجوة الخلافات بين العدوين ليست واسعة، وكلاهما يحتاج إلى إغلاق ملف النزاع لأسباب اقتصادية ملحة، أي أن الاقتصاد أهم كثيراً من الأمن والسياسة في هذا الملف تحديداً.
أما عن دوافع بايدن فليس من الصعب "تخمينها"، كما يقول تحليل هآرتس. يريد الرئيس الأمريكي أن يحافظ على تماسك الحلف الغربي الداعم لأوكرانيا، ويخشى أن يتشقق هذا التحالف تحت وطأة أزمة قطع الغاز الروسي عن أوروبا، خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء، وتخريب خط أنابيب نوردستريم.
وفي هذا السياق أيضاً، تمثل أي إضافة للغاز أو النفط إلى الأسواق العالمية متنفساً بالنسبة للأمريكيين، يمكن ترجمته في صورة توفير مزيد من الأموال لتوظيفها في الدعم العسكري لأوكرانيا. لهذا أراد بايدن إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، ما كان سيعني رفع العقوبات عن طهران وضخ ملايين البراميل من النفط في الأسواق، ولهذا أيضاً قام بزيارة السعودية، في يوليو/تموز الماضي.
ولهذا أيضاً يريد بايدن توقيع إسرائيل ولبنان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، كي يبدأ كل منهما في استخراج الغاز الطبيعي. صحيح أن ذلك الغاز لن يجد طريقه إلى الأسواق العالمية على الفور، لكن مجرد توقيع الاتفاقية يرسل إشارات إيجابية للأسواق ويهدّئ من جنون الأسعار.
أما في تل أبيب، فقد أثارت موافقة لابيد وحليفه بيني غانتس، وزير الدفاع، عاصفة من الهجوم من جانب معسكر نتنياهو، وذلك قبل أسابيع من الانتخابات البرلمانية المقررة نهاية أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
ورصد تحليل لصحيفة جيروزاليم بوست، عنوانه "إسرائيل تتخلى عن نصيبها من الكعكة"، ردود الأفعال الإسرائيلية عقب الإعلان عن قرب التوصل للاتفاق، والتي أصبحت قضية انتخابية يأمل نتنياهو استغلالها لإظهار لابيد وغانتس على أنهما "خاضعان لبايدن وقدما تنازلات لحزب الله، ويرون أن لابيد تجاهل "التنازلات" التي قدمتها تل أبيب لبيروت، وذلك بأوامر مباشرة من بايدن.
الخلاصة هنا هي أن جميع أطراف النزاع مستفيدة من الاتفاق المنتظر توقيعه بوساطة أمريكية، وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي تتنازل فيها إسرائيل اقتصادياً، والسبب "الأمن".