شكّل إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضم أربع مقاطعات أوكرانية أخطر تطور سياسي في أزمة أوكرانيا منذ الغزو الروسي للبلاد، ولكن إلى أي مدى تسيطر روسيا فعلياً على هذه المقاطعات،، وهل تمثل المكاسب الأوكرانية الأخيرة نكسة كبيرة لموسكو أم أن هذا فيه مبالغة من كييف والغرب؟
في احتفال فخم، وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الجمعة الماضي، على وثيقة "ضم" أربع مقاطعات أوكرانية إلى روسيا، وسط رفض وتنديد غربي واسع، والمقاطعات الأربع هي دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروغيا.
ورد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المستند إلى المكاسب الأوكرانية الأخيرة بالإعلان أن بلاده لن تتفاوض مع روسيا طالما ظل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موجوداً.
أمام الشعب الروسي فإن هذه الخطوة تبدو كانتصار سياسي كبير، بعد سلسلة من الانتكاسات العسكرية الروسية.
تمهد هذه الخطوة الطريق أمام الكرملين للتأكيد على أنه يدافع، لا يهاجم، في الحرب في أوكرانيا- ولذا فمن المبرر استخدام أي وسيلة عسكرية ضرورية، بما في ذلك استخدام أسلحة نووية للدفاع عن هذه المناطق التي أصبحت روسية، كما يمكن استخدام ضم المقاطعات كأساس منطقي لتجنيد الرجال الأوكرانيين الذين يعيشون هناك لمحاربة الجيش الأوكراني لمواجهة النقص في أعداد القوات لدى الجيش الروسي في وقت يتذمر فيه الشباب الروسي من التجنيد.
هناك إقليمان غير ناطقين بالروسية ولكنهما مهمان لبوتين لسبب آخر
نسبة المتحدثين باللغة الروسية قبل أزمة عام 2014 تبلغ في لوغانسك 68% وفي إقليم دونيتسك 74.9%، وفي زاباروغيا 48.2%، وفي خيرسون 24.9%.
وتوجد أقاليم أوكرانية أخرى نسب اللغة الروسية فيها أعلى من زاباروغيا وخيرسون مثل خاركيف التي انسحب منها الروس، وأوديسا المقاطعة الشهيرة باسم لؤلؤة البحر الأسود، ولكن أهمية المقاطعتين تأتي من أنهما تربطان بين مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك المشكلتين لمنطقة الدونباس وبين شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014.
ففي حال انسحاب روسيا من زاباروغيا 48.2%، وخيرسون، فإن هذا سيعني أنه ستفقد التواصل البري مع شبه جزيرة القرم، وسيصبح التواصل الوحيد عبر جسر يعبر المضيق البحري الرابط بين البحر الأسود وبحر أزوف.
ولذلك لم تكتفِ روسيا بضمهما فقط، ولكن أعطت أولوية كبيرة للدفاع عنهما خاصة خيرسون، حتى لو على حساب وجودها في إقليم خاركيف، الذي يوجد به نسبة أعلى من الروس، وأقرب للأراضي الروسية.
تطور سيطرة الروس على الأراضي الأوكرانية
سيطرت روسيا على مساحات كبيرة من أوكرانيا في بداية الغزو، الذي بدأ ليلة 23 فبراير/شباط، حيث احتلت في بداية الحرب على نحو خُمس الأراضي الأوكرانية، أو حوالي 119000 كيلومتر مربع من إجمالي 603500 كيلومتر مربع.
بعد أقل من شهر من الغزو، استولت روسيا على أكثر من ربع (27%) من أوكرانيا- وهو أكبر قدر احتفظت به في أي مرحلة منذ بدء الغزو.
وشمل ذلك أجزاء كبيرة من الشمال، مثل منطقة محطة تشيرنوبل المحظورة، وممر من الأراضي يصل إلى حافة كييف، كما سيطرت القوات الروسية على مساحات شاسعة من الجنوب، وخاصة في منطقة خيرسون الغنية بالزراعة.
لكن هذا كان يمثل ذروة النجاح الروسي، حيث قررت موسكو سحب قواتها من شمال وشمال شرق أوكرانيا في أوائل أبريل/نيسان 2022، بعد أن فشلت في السيطرة على العاصمة كييف.
بحلول 8 أبريل/نيسان 2022، انسحبت القوات الروسية من الجبهات الشمالية، قائلة إنها ستعيد التركيز على السيطرة على الأراضي في الشرق، وتخلت روسيا عن حوالي 40% من المكاسب التي حققتها منذ بداية الغزو.
في الأشهر التي تلت ذلك بين أوائل مايو/أيار ونهاية أغسطس/آب 2022، كافح الجيش الروسي وحلفاؤه لتحقيق مكاسب تركزت في منطقة دونباس، ولكن لم تكن مكاسب كبيرة وتراوحت بين 200 و1400 كيلومتر مربع من الأراضي الأوكرانية شهرياً، وفقاً لتقرير شبكة CNN الأمريكية.
ولكن أكبر انتصار لروسيا في الحرب إعلانها أنها أحكمت سيطرتها على إقليم لوغانسك (كان الانفصاليون الموالون لها يسيطرون على نحو ثلثه قبل بداية الحرب).
كانت الخسارة الاستراتيجية الأكثر أهمية من جانب أوكرانيا هي السيطرة على مدينة ماريوبول الجنوبية القريبة من القرم، حيث انتهت المقاومة الأوكرانية- في مصانع الصلب في آزوفستال – في أواخر مايو/أيار 2022.
ما مساحة المكاسب الأوكرانية؟
لكن في أوائل سبتمبر/أيلول، نفذت أوكرانيا هجوماً مضاداً مفاجئاً في الشمال الشرقي دفع القوات الروسية للتراجع بأكثر من 50 كيلومتراً في بعض الأماكن على طول جبهة واسعة في منطقة خاركيف، بين عشية وضحاها، في أكبر تقدم قام به الجيش الأوكراني في يوم واحد وفقاً لما نقلته شبكة CNN عن معهد دراسة الحرب الأمريكي (ISW).
اعتباراً من الأسبوع الأخير من سبتمبر/أيلول، تراجعت القوات الروسية من أكثر من 9000 كيلومتر مربع من الأراضي مقارنة بنهاية أغسطس/آب أي نحو 8% من الأراضي التي تسيطر عليها روسيا (ونحو 1.5 % من إجمالي مساحة أوكرانيا).
في معارك إقليم خاركيف، انسحبت القوات الروسية من مدينتي إيزيوم وكوبيانسك الرئيسيتين في إقليم خاركيف، قائلة إن الانسحاب سيسمح لقواتها "بإعادة تجميع صفوفها".
كانت كلتا المدينتين مراكز لوجستية رئيسية للقوات الروسية في إقليم دونباس المجاور لخاركيف.
وفي أسبوع واحد فقط، كانت المكاسب الأوكرانية من الأراضي أكبر مما استولت عليه القوات الروسية في الأشهر الخمسة الماضية. ولكن جاءت المكاسب الأوكرانية في الجبهة الثانية التي فتحها الأوكرانيون، في زابوراجيا وخيرسون في الجنوب، أكثر تواضعاً، حسب الشبكة الأمريكية.
على الرغم المكاسب الأوكرانية الأخيرة، ما زالت روسيا تسيطر على حوالي 116000 كيلومتر مربع من الأراضي المعترف بها دولياً كأراض أوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، التي تم ضمها في عام 2014، أي أن الأراضي تقريباً بحجم بلغاريا، حسب وصف تقرير شبكة CNN الأمريكية.
ما هي المساحة التي تسيطر عليها موسكو في المقاطعات الأربع التي ضمتها؟
المقاطعات الأربع التي أعلنت روسيا ضمها، هي دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزاباروغيا، تمثل 18% من مساحة أوكرانيا.
استولت روسيا عام 2014 على حوالي ثلث مقاطعتي، دونيتسك ولوهانسك، وتقدم جيشها إلى المقاطعتين الأخريين، ووزاباروغيا، وخيرسون، في الغزو الذي بدأ في فبراير/شباط 2022.
ويسيطر الجيش الروسي الآن على معظم مقاطعتي لوغانسك التي تقع في الشرق تجاه الحدود الروسية، وخيرسون في الجنوب الشرقي الملاصق للقرم (رغم أنها الأبعد عن الأراضي الروسية من بين المقاطعات الأربع).
بينما مقاطعة دونيتسك (التي اشتق من اسمها إقليم الدونباس) يسيطر الجيش الروسي على نحو نصفها، رغم أنه أصلاً كان يسيطر على نحو ثلثها قبل الحرب، ويعد وضع الجيش الروسي حرجاً نسبياً فيها، ولها أهمية خاصة لأنها تمثل حلقة الوصل بين لوغانسك في الشرق وزاباروغيا، وخيرسون ومن بعدها القرم في الجنوب الشرقي.
كما يسيطر الجيش الروسي على نصف مساحة زاباروغيا التي تقع فيها المحطة النووية الشهيرة (أكبر محطة في أوروبا)، ولكن لا يسيطر على عاصمة المقاطعة التي تحمل نفس الاسم، حسبما ورد في تقرير لصحيفة the New York Times الأمريكية.
سقوط ليمان مشكلة للجيش الروسي
وهناك مئات المدن والبلدات والقرى تخضع الآن لسيطرة أوكرانية في منطقتي دونيتسك وزاباروغيا، بما في ذلك مدينة زاباروغيا.
وآخر المدن التي حررها الأوكرانيون هي مدينة ليمان الاستراتيجية في مقاطعة دونيتسك.
وأشار وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى أن ليمان كانت مركزاً لخطوط الإمداد التي استخدمتها روسيا لدفع قواتها وعتادها إلى الجنوب والغرب.
بدون هذه الطرق، سيكون الأمر أكثر صعوبة. لذا فإنه يمثل معضلة بالنسبة للروس في المضي قدماً.
وأدى سقوط ليمان إلى مطالبة رمضان قديروف رئيس الشيشان باستخدام الأسلحة النووية للرد على التقدم الأوكراني.
وقال بوتين الأسبوع الماضي إنه لم يكن يخادع عندما قال إنه مستعد للدفاع عن "وحدة أراضي" روسيا بكل الوسائل المتاحة، وأوضح يوم الجمعة أن هذا يمتد إلى المناطق الجديدة التي تطالب بها موسكو.
وتقول أوكرانيا إن الاستيلاء على ليمان سيسمح لها بالتقدم إلى منطقة لوغانسك، التي أعلنت موسكو احتلالها بالكامل في أوائل يوليو/تموز.
كانت منطقة دونباس محط تركيز كبير بالنسبة لروسيا منذ بداية الحرب.
محاولة أوكرانية للاختراق في الجنوب
عكس الشرق والشمال، فإن أداء الروس كان أفضل في الجنوب في خيرسون تحديداً، الأبعد عن الأراضي الروسية، ولكنها مقاطعة تمثل أهمية خاصة للقرم، كما سبقت الإشارة.
ولكن مؤخراً، اخترقت القوات الأوكرانية الدفاعات الروسية في جنوب البلاد بينما وسعت هجومها السريع في الشرق واستولت على المزيد من الأراضي في المناطق التي ضمتها موسكو وهددت خطوط الإمداد للقوات الروسية.
وقال مسؤولون أوكرانيون وقائد روسي في المنطقة إن القوات الأوكرانية حققت أكبر اختراق لها في الجنوب منذ بدء الحرب، حيث استعادت القوات الأوكرانية عدة قرى في تقدم على طول نهر دنيبرو الاستراتيجي يوم الإثنين.
وقال فلاديمير سالدي، الزعيم الروسي في الأجزاء الخاضعة لروسيا من إقليم خيرسون، للتلفزيون الرسمي الروسي، إن القوات الأوكرانية استعادت السيطرة على بلدة دودتشاني على طول الضفة الغربية لنهر دنيبرو الذي يقسم البلاد.
روسيا تعترف بأنها لم تسيطر بالكامل على المقاطعات الأربع التي ضمتها
وقال دميترى بيسكوف، المتحدث باسم الرئاسة الروسية إن منطقتي دونيتسك ولوغانسك في مجملهما جزء من روسيا، على الرغم من افتقار روسيا للسيطرة الكاملة على مناطقها.
وقال بيسكوف إن الكرملين لا يزال يحدد مناطق أوكرانيا المحتلة التي "ضمتها"، مشيراً إلى أن روسيا لا تعرف أين تقع حدودها الدولية المعلنة من جانبها، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وجاء الاعتراف المفاجئ في مكالمة هاتفية مع الصحفيين، رداً على طلبات الصحفيين لتوضيح حدود الأراضي التي ضمتها روسيا.
وقال: "سنواصل المشاورات مع السكان فيما يتعلق بحدود منطقتي خيرسون وزاباروجيا".
والآن بعد سبعة أشهر من شن الغزو، الذي اعتقد المسؤولون الغربيون أنه سينتهي في أيام باجتياح العاصمة الأوكرانية، تقول شبكة CNN إن روسيا تسيطر على مساحة تقل بحوالي ثلاثة آلاف كيلومتر مربع عما كانت عليه في الأيام الخمسة الأولى من الحرب.
ولكن رغم المكاسب الأوكرانية، فإن كييف لم تحرر سوى نحو أقل من 10% أراضيها المحتلة، كما أن تزايد طموحاتها- وخاصة الحديث عن التفكير في محاولة استعادة القرم- قد يدخل الحرب لمرحلة جديدة شديدة الخطورة على العالم برمته.