درعا هدية ترمب إلى طاولة مفاوضاته مع بوتين في قمة هلسنكي.
وقد انطبق عليهما المثل القائل "هديةُ من لا يملك إلى مَن لا يستحق".
اقتداءً بالكرم العربي الشهير يقوم المدعو دونالد ترمب بتقديم درعا، بما تحمله من رمزية الثورة السورية، هدية كبيرة لنظيره الروسي بوتين، مستبقاً بذلك قمة هلسنكي التي جمعت الطرفين، وذلك عندما أزال الحظر المفروض على غزوها عن الروس والنظام، داعياً ثوارها ليتصرفوا منفردين وبما يرونه ملائماً لهم.
ثم ذهبت إدارة ترمب لأبعد من ذلك عندما صرح جون بولتون، وهو مستشار الأمن القومي الأميركي، بأن بقاء الأسد ليس مشكلة استراتيجية، مرطِّباً بذلك أجواء قمة هلسنكي.
وفي السياق ذاته، يصرح وزير الدفاع الإسرائيلي بأنه لا يستبعد إقامة علاقة مع بشار الأسد في المستقبل.
إذاً، نحن أمام خط أحمر أصبح رمادياً ثم تبخر.
هذا التحول الأميركي وإطلاق يد بوتين في الملف السوري له معادل واحد فقط وهو العودة إلى الاصطفافات الجديدة بعيداً عن الحليف الإيراني، الذي حُكم عليه بالعودة إلى حجمه كبضاعة منتهية الصلاحية في سوق الكبار.
إذاً، هل نحن أمام تصعيد حقيقي يترتب عليه إرغام إيران على الانسحاب من المشهد السوري الذي تتشبث به بكل قوة.
إيران بدورها تهدد بإغلاق مضيق هرمز ووقف تدفق النفط، في المقابل يطالب ترمب المملكة العربية السعودية بزيادة ضخ النفط كبديل للنفط الإيراني؛ وذلك لتحقيق الاستقرار في السوق العالمية لأسعار الذهب الأسود.
إذاً، النفط المسال عبر مضيق هرمز في عين العاصفة الإيرانية وتحت مرمى التهديدات الإيرانية مجدداً.
– الأمير محمد بن سلمان يستبق الخطر القادم، ليؤكد دعم المعارضة الإيرانية المعتدلة التي لا تبحث عن الحروب الخارجية وتصدير الأزمات لجيرانها، حيث أقدمت إيران في سابقة خطيرة، على تزويد جماعات موالية لها في بلدان أُخرى بالصواريخ الباليستية، وهذا من تبعاته استهداف الحوثيين للمملكة العربية السعودية بهذه الصواريخ.
إذاً، نحن أمام مشكلة الصواريخ الباليستية الإيرانية كقيمة مضافة لمشكلة برنامجها النووي.
– روسيا لا تزال تسير في جنازة الصمت بهذا الملف، وذلك طبيعي طالما لم تصل إلى خطاب إخماد الحريق السوري بعد، وكلنا يعلم أنه لا يزال أمامها تحدٍّ كبير في شمال سوريا.
– التداعيات الاقتصادية الناجمة عن قرار ترمب زيادة الطوق حول عنق النفوذ الإيراني والتي سيترتب عليها زيادة المجاعة وزيادة التفكك الحاصل في النسيج الإيراني متعدد المشارب، تشير إلى أن الرجل بدأ بخطوات جديّة ضد إيران، وبشكل خاص عندما انسحب من الاتفاق النووي معها.
في الوقت ذاته يُطمْئِن ترمب نظيره الروسي بوتين ويدعوه إلى التحالف الجديد، وبشكل خاص بعد تحقيق ترمب الخرق الكبير في ملف كوريا الشمالية. وتعبيراً عن حسن النوايا، فإن ترمب يدرس إمكانية منح المشروعية للوجود الروسي في شبه جزيرة القرم، إضافة إلى نقله الملف السوري كاملاً إلى عهدة بوتين، والذي نجم عنه ما نجم من جرائم ضد الإنسانية ارتُكِبَت مؤخراً في درعا من خلال تهجير سكانها وفرض الاستسلام عليهم، وسط مباركة أميركية مهَّدت الطريق أمام بوتين للإسراع بإعلان النصر المأمول في "صفقة القرن" السورية، التي يراد منها إعادة تأهيل نظام بشار الأسد مقابل تنازل بوتين عن الحليف الإيراني.
ولا يخرج عن هذا الإطار الرضا الضمني الإسرائيلي عن هذه الخطوات، التي عبر عنها أيضاً رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو في زيارته الجديدة لموسكو والتي سبقت قمة ترامب-بوتين.
لكن السؤال الغائب الحاضر هو: هل بمقدور بوتين إزاحة حليف الأمس عن مشهد اليوم وعن حصاد اليوم في الوقت الذي توغل فيه هذا الحليف (الإيراني) في مفاصل العسكرة السورية كما مفاصل القرار السوري إلى حد أن أي جراحة في هذا الجسد قد تكون قاتلة وقد نكون بانتظار الحرب التي تم تأجيلها مراراً؟
والسؤال الآخر هنا: هل بمقدور بوتين إخراج عشرات الآلاف من المقاتلين الطائفيين الذين زجت بهم إيران في سوريا وأصبحوا جزءاً من آلة القتل الأسدية تحت أسماء شتى (قوات رديفة، قوات حليفة… إلخ)، فضلاً عمّن تم تجنيسه وتوطينه في البلاد، إلى جانب التصريحات الإيرانية وفي أكثر من موقع عن عزمها البقاء بسوريا؛ بل هناك من المسؤولين الإيرانيين من صرَّح بأن سوريا محافظة إيرانية لا يمكن التخلي عنها، بامتداد أيديولوجي طائفي. وبناءً عليه، فإن انسحاب إيران من سوريا عبر المفاوضات أمر مستبعد تماماً؛ لأن إيران استثمرت حتى النخاع في الملف السوري، ولأن الوجود العسكري الإيراني هو الوحيد الذي يمنع انهيار بشار الأسد وبقايا جيشه المهترئ وليس طيران بوتين؛ ومن ثم فإن الروسي قد لا يدخل في هذه المغامرة؛ بل لا يستطيع فك الارتباط مع الحليف الإيراني دون ضمانات ومزايا يقتنع بها.
فهل مغريات ترمب تكفي إلى حد دفع بوتين للتخلي عن الحليف الإيراني وبناء الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن، وبشكل خاص أن ترمب لا يريد لبوتين التوجه شرقاً نحو الصين ولا حتى بناء الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بعيداً عن البصمة الأميركية، وخصوصاً أننا نعيش زمن التحالفات الكبرى التي لا بد منها.
ورغم تفاؤل البعض ورغم انتظار الكثيرين لترتيبات الدستور والحل السياسي في سوريا بعد إنهاء الحالة الفصائلية والعسكرة غير المركزية وصولاً إلى جسد عسكري واحد يجمع بقايا جيش النظام مع فصائل قليلة من الثورة والتي بوصلتها داخل حدود الوطن والتي لا تنتمي إلى أجندات أيديولوجية عابرة للحدود- فإن ما يسعى إليه بوتين هو مجرد لُصاقة بتاريخ جديد لبضاعة تعفنت من تاريخ قديم.
بالعودة إلى الحالة السورية:
إذا كان الحل هو بتقديم منتج متعفن وبالٍ بلُصاقة شهادة صلاحية جديدة، فهذا يعني أننا أمام تحوُّل في السياسة الدولية تغيب عنه كل قيم الأخلاق والإنسانية، وخصوصاً عندما يُعاد تأهيل وتصدير المنتج الفاسد الذي تسبب في موت مليون مواطن سوري، جلهم من الأطفال والنساء والشيوخ، فضلاً عن التهجير والتدمير، وغير ذلك من الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية.
لكن، يبقى فصل القول أنَّ استقراراً منشوداً ومأمولاً في بيئة تعرضت لكل هذا الكم من طحن البشر والحجر ضرب من ضروب المستحيل؛ ومن ثم أصبح في ذهنية أصحاب القرار الدوليين أن تغيير البيئة التي حضنت كل هذه الترسبات الوبائية أصبح ضرورة حتمية، وأن الجراحة أصبحت مستحيلة في عضو متفسخ يستوجب البتر.
وهل بمقدور بقايا جيش النظام المتهالك تغطية الجغرافيا السورية كما كان، إذا ما اتُّخذ القرار بإخراج إيران والميليشيات التابعة لها؟
وبما أن الجواب بديهي "لا"، فإنه لن يكون بمقدور أي حلٍّ القفز فوق قوات "الجيش الحر"، التي أصبحت رقماً صعباً في أي حل.
ومن ثم، فإن الوصول إلى الاستقرار في تخومٍ مجاوِرةٍ لإسرائيل ولمصالح الفرقاء الدوليين الكبار يتطلب إنصاف هذا الشعب العظيم الذي قدَّم كل هذه التضحيات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.