عندما انطلقت الرصاصة الأولى من قبل روسيا صوب أوكرانيا، كان الكل، بمن فيهم الروس أنفسهم، يرون أن هذه العملية لن تطول، وستنتهي في بضعة أيام، وبعدها ستعود القوات الروسية إلى ثكناتها، لكن ما حدث خالف التوقعات.
مرت أكثر من 9 أشهر ومازالت المعارك مشتعلة والخسائر في الطرفين لا تتوقف، لكن الخسائر الأكبر تجاوزت العدة والعتاد ووصلت إلى النظام العالمي برمته خلال هذه الفترة، ومن المتوقع أن تستمر مستقبلاً.
أزمة الطاقة التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي كاملاً عقب عقوبات بوتين بوقف تصدير الغاز وتهديد أوروبا بالظلام، قابلتها عقوبات قوية فرضت على الدب الروسي قد تدفعه هو الآخر لخسارة مليارات الدولارات من عائدات النفط والغاز التي تمول بشكل كبير العمليات العسكرية هنا وهناك.
النظام العالمي تغير، ومن المتوقع أن يتغير أكثر بعد ومع وأثناء هذه الحرب، فالاتحاد الأوروبي بدوله الـ27 سيعود بها التاريخ إلى قبل 20 عاماً في كل الجوانب، بما فيها الاقتصاد الذي سيدفع ثمن هذه الحرب وهروب المليارات إلى الولايات المتحدة بسبب الوضع الاقتصادي المتراجع.
روسيا هي الأخرى تدفع وستدفع ثمن هذه المعركة من الجوانب الاقتصادية، وأيضاً فيما يتعلق بمكانتها العالمية وتراجعها من قوة منافسة للولايات المتحدة إلى دولة إقليمية، وليست قطباً في النظام العالمي متعدد الأقطاب إلى نظام ثنائي الأقطاب فيه بكين وواشنطن فقط والباقي دول أقل، بما فيها أوروبا وروسيا.
مجلة Foreign Policy الأمريكية قالت إن أزمة الطاقة التي أثارتها الحرب في أوكرانيا أثبتت أنها مدمرة اقتصادياً لكل من روسيا والاتحاد الأوروبي، بحيث يمكن أن تقلل في النهاية كلا القوتين على المسرح العالمي. والآثار المترتبة على هذا التحول -التي لا تزال غير مفهومة- هي أننا على ما يبدو نتحرك بسرعة إلى عالم ثنائي القطب تهيمن عليه قوتان عظيمتان: الصين والولايات المتحدة.
من مرحلة التعددية القطبية إلى العودة إلى قطبين فقط
إذا اعتبرنا أن فترة ما بعد الحرب الباردة للهيمنة الأمريكية أحادية القطب استمرت من عام 1991 إلى الأزمة المالية عام 2008، فيمكننا التعامل مع الفترة من عام 2008 إلى فبراير/شباط من هذا العام، عندما غزت روسيا أوكرانيا، على أنها فترة أقرب إلى تعدد الأقطاب. كانت مكانة الصين ترتفع بسرعة، لكن الحجم الاقتصادي للاتحاد الأوروبي -والنمو قبل عام 2008- منحاها حقاً شرعياً كواحدة من القوى العظمى في العالم. وأدى نهوض روسيا الاقتصادي منذ عام 2003 واستمرار قوتها العسكرية إلى وضعها على الخريطة أيضاً. أشاد القادة من نيودلهي إلى برلين إلى موسكو بالتعددية القطبية باعتبارها الهيكل الجديد للشؤون العالمية.
الصراع المستمر على الطاقة بين روسيا والغرب يعني أن فترة التعددية القطبية قد انتهت الآن. على الرغم من أن ترسانة الأسلحة النووية الروسية لن تختفي، ستجد الدولة نفسها شريكاً صغيراً في مجال النفوذ الذي تقوده الصين. في غضون ذلك، سيكون التأثير الصغير نسبياً لأزمة الطاقة على الاقتصاد الأمريكي بمثابة راحة باردة لواشنطن من الناحية الجيوسياسية: سيؤدي انهيار أوروبا في النهاية إلى إضعاف قوة الولايات المتحدة، التي اعتبرت القارة منذ فترة طويلة صديقةً لها.
تؤدي الأخبار السيئة بالنسبة لأوروبا إلى مضاعفة الاتجاه الموجود مسبقاً: منذ عام 2008، انخفضت حصة الاتحاد الأوروبي في الاقتصاد العالمي. ورغم تعافي الولايات المتحدة من الركود العظيم بسرعة نسبية، عانت الاقتصادات الأوروبية بشدة. استغرق البعض منهم سنوات لإعادة النمو فقط إلى مستويات ما قبل الأزمة. في غضون ذلك، استمرت الاقتصادات في آسيا في النمو بمعدلات مذهلة، بقيادة الاقتصاد الصيني الضخم.
بين عامي 2009 و2020، بلغ متوسط معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي 0.48% فقط، وفقاً للبنك الدولي. كان معدل النمو في الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها أعلى بثلاث مرات تقريباً، بمتوسط 1.38% سنوياً. ونمت الصين بوتيرة قوية بلغت 7.36% سنوياً خلال الفترة نفسها. والنتيجة الصافية هي أنه في حين أن حصة الاتحاد الأوروبي من الناتج المحلي الإجمالي العالمي كانت أكبر من تلك الخاصة بكل من الولايات المتحدة والصين في عام 2009، فهي الآن الأدنى بين الثلاثة.
الأسوأ من ذلك، أن أوروبا متخلفة كثيراً عن القوى الأخرى من حيث القوة العسكرية. لقد حدَّت الدول الأوروبية في الإنفاق العسكري لعقود من الزمن ولا يمكنها بسهولة تعويض هذا النقص في الاستثمار. أي إنفاق عسكري أوروبي الآن -للتعويض عن الوقت الضائع- يأتي على حساب تكلفة فرصة لأجزاء أخرى من الاقتصاد، ما قد يؤدي إلى مزيد من العوائق على النمو وفرض خيارات مؤلمة بشأن تخفيضات الإنفاق الاجتماعي.
روسيا والبحث عن عملاء جدد
والآن بعد أن فقدت أوروبا الثقة في روسيا كمزود للطاقة، فإن استراتيجية روسيا الوحيدة القابلة للتطبيق هي بيع طاقتها للعملاء الآسيويين. لحسن الحظ، آسيا لديها الكثير من الاقتصادات النامية. أما لسوء الحظ بالنسبة لروسيا، فإن شبكتها بالكامل تقريباً من خطوط الأنابيب والبنية التحتية للطاقة مبنية حالياً للتصدير إلى أوروبا، ولا يمكن أن تتمحور شرقاً بسهولة.
سوف تستغرق موسكو سنوات ومليارات الدولارات لإعادة توجيه صادراتها من الطاقة، ومن المرجح أن تجد أنه لا يمكنها التركيز إلا على الشروط المالية لبكين. من المرجح أيضاً أن ينتقل اعتماد قطاع الطاقة على الصين إلى الجغرافيا السياسية الأوسع، وهي شراكة تجد فيها روسيا نفسها تلعب دوراً أصغر بشكل متزايد. يشير اعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 15 سبتمبر/أيلول بأن نظيره الصيني، شي جين بينغ، لديه "أسئلة ومخاوف" بشأن الحرب في أوكرانيا إلى فارق القوة الموجود بالفعل بين بكين وموسكو.
لكن من غير المرجح أن تستمر أزمة الطاقة في أوروبا داخل حدود أوروبا. بالفعل، يؤدي الطلب على الوقود الأحفوري إلى ارتفاع الأسعار في جميع أنحاء العالم -خاصة في آسيا، حيث يفوق الأوروبيون العملاء الآخرين على الوقود من مصادر غير روسية. ستكون العواقب قاسية بشكل خاص على مستوردي الطاقة من ذوي الدخل المنخفض في إفريقيا وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
أما نقص الغذاء -وارتفاع أسعار ما هو متاح- فيمكن أن يشكل مشكلة في هذه المناطق أكثر من مشكلة الطاقة. لقد أفسدت الحرب في أوكرانيا المحاصيل وطرق النقل لكميات هائلة من القمح والحبوب الأخرى. لدى كبار مستوردي المواد الغذائية مثل مصر سبب للقلق بشأن الاضطرابات السياسية التي غالباً ما تصاحب ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
قوتان عالميتان رئيسيتان
ومربط الفرس للسياسة العالمية هو أننا نتجه نحو عالم حيث الصين والولايات المتحدة هما القوتان العالميتان الرئيسيتان. إن تهميش أوروبا عن الشؤون العالمية سيضر بمصالح الولايات المتحدة. تلتزم أوروبا -الديمقراطية والرأسمالية في معظمها- بحقوق الإنسان ونظام دولي قائم على القواعد. وقد قاد الاتحاد الأوروبي العالم في اللوائح المتعلقة بالسلامة وخصوصية البيانات والبيئة، ما أجبر الشركات متعددة الجنسيات على ترقية سلوكها في جميع أنحاء العالم لمطابقة المعايير الأوروبية. قد يبدو تهميش روسيا أكثر إيجابية بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة، لكنه يحمل في طياته خطر رد فعل بوتين (أو خليفته) على فقدان الدولة لمكانتها من خلال الهجوم بطرق مدمرة، وربما حتى كارثية.
بينما تكافح أوروبا لتحقيق الاستقرار في اقتصادها، يجب على الولايات المتحدة دعمها عندما يكون ذلك ممكناً، بما في ذلك عن طريق تصدير بعض مواردها من الطاقة، مثل الغاز الطبيعي المسال. قد يكون قول هذا أسهل من فعله: فالأمريكيون لم يستفيقوا بالكامل بعد لتكاليف الطاقة المتزايدة الخاصة بهم. تضاعفت أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة 3 مرات هذا العام، ويمكن أن ترتفع حيث تحاول الشركات الأمريكية الوصول إلى أسواق تصدير الغاز الطبيعي المسال المربحة في أوروبا وآسيا. إذا زادت أسعار الطاقة أكثر، سيتعرض السياسيون الأمريكيون لضغوط من أجل تقييد الصادرات للحفاظ على القدرة على تحمل تكاليف الطاقة في أمريكا الشمالية.
في مواجهة ضعف أوروبا، سيرغب صانعو السياسة في الولايات المتحدة في تكوين دائرة أوسع من الحلفاء الاقتصاديين المتشابهين في التفكير في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي. قد يعني هذا مغازلة أكبر للقوى المتوسطة مثل الهند والبرازيل وإندونيسيا. ومع ذلك، يبدو من الصعب استبدال أوروبا. لقد استفادت الولايات المتحدة لعقود من المصالح الاقتصادية المشتركة والتفاهمات مع القارة.