بعدما تمكن الاستعمار الفرنسي من إخضاع جل مناطق التراب المغربي بعد توقيع عقد الحماية سنة 1933، لم تتمكّن القوات الاستعمارية من فرض سيطرتها على سكان الجنوب الشرقي للمغرب، وخاصة منطقة "صاغرو" التي تتمركز بها قبائل "آيت عَطَّا" الأمازيغية غير الخاضعة لسلطة الاحتلال الفرنسي.
لعلّ معركة "بوغافر" هي العنوان الأبرز لمحاولات تطويع منطقة "آيت عطا"، حين قهرت المقاومة المغربية المتحصنة في أعالي الجبال الاحتلال الفرنسي، ما دفعه إلى العمل السياسي والحوار مع قائد المقاومة المغربية في المنطقة "عسو أوبسلام".
عسو أوبسلام.. من مهد القصور إلى مقاومة الاستعمار
ولد عسو أوبسلام بقصر "تاغيا" بإقليم "تِنْغِيرْ" الأمازيغي الواقع في عمق جبال الجنوب الشرقي للمغرب سنة 1890، صادفت الفترة التي ولد فيها أوبسلام إنشاء ما سمي بالأمازيغية "تافراوت نايت عطا"، وهو تحالف لقبائل أمازيغية كبيرة، كان الهدف منه الدفاع عن هذه القبائل من الاستعمار الفرنسي.
وخلال الثلاثينيات من القرن الماضي تولى أوبسلام شؤون قبيلة آيت عطا لبسالته المعهودة وشجاعته المعروفة في القيادة وتأطير المقاومين، بالإضافة إلى توحيد القبائل.
تمكن عسو أوبسلام من تدبير الأمور المدنية والعسكرية والنجاح في عقد التحالفات بين قبائل الأطلس المجاورة، لصد الغزاة والخونة على حد سواء.
بعدما تغلغل الاحتلال في قلب جبال الأطلس الكبير الشرقي بالتعاون مع "التهامي الكلاوي"، أحد أشهر المتعاونين مع المحتل الفرنسي، تولى عسو أوبسلام قيادة المقاومة الأمازيغية، حيث دخل في معارك عديدة ظلت أهمها معركة "بوغافر" سنة 1933، والتي انتصر فيها أوبسلام على المستعمر الفرنسي.
انطلاق المقاومة للمستعمر الفرنسي
انطلقت مقاومة عسو أوبسلام من جبل "صَاغْرُو" بالأطلس الكبير وسط المغرب، ووجَّه مقاومته لجهتين كانت الأولى استهداف محاربي "التهامي الكْلَاوِي" الذي فرض سطوته على الجنوب خلال العشرينيات من القرن الماضي، حيث ساعده الفرنسيون على مد نفوذه على كل قبائل الجنوب، كما دعموه بالمال والأسلحة من أجل تطويق السُّوسِيِّين "سكان منطقة سوس"، وفرض سيطرته على مناطقهم حسب ما جاء في الكتاب الفرنسي "La pacification du Maroc – 1907-1934"، الذي يدرس الاحتلال الفرنسي للمغرب.
ومن الجهة الأخرى قاوم عسو أوبسلام القوات الفرنسية، وعرف بانتصاره عليها في إحدى أقوى المعارك التي خاضها سميت "بُوغَافِرْ"، حيث اعترف ضباط الاحتلال بالهزيمة، وأشادوا بشجاعة المقاومين المغاربة، حسب ما جاء في المصدر نفسه.
إمكانياتٌ محدودة وانتصار هائل
اندلعت مقاومة عسو أوبسلام بعد الحملات المتكررة للتُهَامِي الكلاوي، الذي كان يخضع القبائل الأمازيغية الضعيفة لسلطة الاحتلال الفرنسي مقابل بعض الامتيازات المادية والمعنوية، بالإضافة إلى بسط نفوذه السيادي على أغلب قبائل الأمازيغ.
لكن لم تصبح هذه المقاومة أكثر حدة إلا بعد دخول القوات العسكرية الفرنسية لجبال الأطلس الكبير الشرقي، قصد الاستيلاء على خيراته ونهب ثرواته، وهذه المناطق تعرف بثرائها بالفضَّة والفوسفات والذهب. بالإضافة إلى الجانب الديني، حيث تعرف المناطق الأمازيغية بالمغرب بالتشبث بالدين وتعاليمه.
لم تتأجج مقاومة عسو أوبسلام إلا بعد قضاء الفرنسيين على "أحمد الهيبة"، وهو أحد المقاومين المغاربة بالجنوب، واحتلالهم إثر ذلك المناطق الغربية للأطلس الكبير والأطلس الصغير.
اتخذ أوبسلام بعدها الجبال قلعةً حصينةً للمقاومة والصمود لتقدم القبائل الأمازيغية "سُوسِيَّة" لخوض معركة "بُوغَافِر"، في شهر فبراير/شباط سنة 1933، وذلك لصد التغلغل الفرنسي للمناطق رغم كل ما قدمته فرنسا من مساومات، حسب مقال جاء في الموقع المغربي "هيسبريس".
وحسب المصدر نفسه كبَّدت الحرب خسائر كبيرة للجيش الفرنسي في القتلى والمعدات العسكرية، رغم أن المقاومين المغاربة عاشوا هم الآخرين خلال فترة الحرب جوعاً وعطشاً وبرداً بحكم جلوسهم في جبل "صَاغْرُو" وعدم وصولهم الدائم للمؤونة.
انطلقت الحرب في 13 فبراير/شباط، وانتهت في 28 مارس/آذار سنة 1933، وعرف الاحتلال الفرنسي أشد المقاومات التي عاشها بالمغرب، حسب الكتاب الفرنسي "La pacification du Maroc – 1907-1934".
أسفرت المعركة عن تكبيد الاستعمار الفرنسي خسائر بشرية تقدر بـ3500 قتيل، حيث استمرت الحرب 42 يوماً، حسب الروايات الفرنسية، من بين القتلى ضباط ذوو رتب عالية، لتلجأ فرنسا إلى استخدام أفتك الأسلحة من رشاشات ومدفعيات ثقيلة وطائرات، كما استنجد الجيش الفرنسي بالقيادة المركزية لإغاثتهم بقوات عسكرية جديدة.
حسب كتاب "Une Vie exaltant" الذي ألفه العقيد الفرنسي "ماتيو"، وقد عاش هذه الحرب، كان عدد المقاومين المغاربة قرابة 3700، في حين وصل عدد الجنود الفرنسيين إلى 85 ألف جندي. وبينما كان عدد الوفيات في صفوف المقاومين المغاربة 700 شهيد، كان عدد القتلى في جيش الاستعمار 10 آلاف جندي.
فقد عسو أوبسلام خلال الحرب 4 من أفراد عائلته، من بينهم ابنته التي لم تتجاوز 13 سنة، بعدما قصفت القوات الفرنسية المدنيين، وسقط على إثر هذا القصف 4 آلاف قتيل، ما دفع أوبسلام للاستسلام مقابل شروط لصالح قبائل آيت عطا، وهي كالتالي:
- عدم تخلي المقاومين عن سلاحهم.
- طرد كل مساعدي التهامي الكلاوي من منطقة آيت عطا.
- عدم إجبار نساء مناطق آيت عطا على الاشتغال عند الفرنسيين.
- العفو العسكري عن كل المقاومين.
- عدم إخضاع رجال المنطقة للعمل لصالح الحكومة الفرنسية.
الاستسلام والاتهام بالخيانة
بعد توقيع المعاهدة بين عسو أوبسلام والقوات الفرنسية، في 30 مارس/آذار 1933، وصف الجنرال الفرنسي "هنري بوردو" المقاومين المغاربة بأنهم كانوا يظهرون هادئين وأقوياء، على الرغم من أنهم كانوا في ظروفٍ صعبة، وعدم توصلهم بالمؤن لعدة أيام، وذلك حسب الكتاب "Une Vie exaltant".
على الرغم من كل ما حققه أوبسلام إلا أن خبر المعاهدة التي أبرمها مع الفرنسيين لحقن دماء الأطفال والشيوخ لم تكن مرحباً بها من قبل المجاهدين، وخاصة النساء منهم، حيث اعتبروها تصالحاً مع الأعداء، واتهموا عسو أوبسلام بالخيانة العظمى، حسب ما جاء على لسان الجنرال الفرنسي هنري بوردو في الكتاب نفسه، حيث قال: "عندما رجع عسو أوبسلام من المقابلة وُبِّخ من قبل النساء، إنهن أردن الصمود حتى الموت".
توفي عسو أوبسلام سنة 1960، بعد صراع طويل مع مرض السكري، ودفن في مقبرة أجداده بجماعة "تاغيا إيملشان" بالمغرب.