خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، كان الشغل الشاغل لدول العالم، التفكير في حاضرها المُهدد حينها بالحرب، بينما كان تفكير الدول العظمى المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي منصباً في المستقبل، وكيفية السيطرة على العالم بعد نهاية هذه الحرب.
تسابقت أمريكا وحليفتها بريطانيا مع السوفييت من أجل امتلاك سلاحٍ يحقق هدف قيادة العالم الجديد، فكانت الولايات المتحدة الأمريكية السابقة في الوصول الى السلاح النووي عبر مشروعها الشهير مانهاتن سنة 1945.
سرعان ما التحق بها الاتحاد السوفييتي بعد أربع سنوات ليصبح ثاني دولة نووية في العالم.
لكن ذلك حدث بطريقة توصف بالملتوية، بعد أن اعتمد السوفييت على عدة جواسيس للوصول إلى التقنية النووية، كان العالم الألماني كلاوس فوكس أبرزهم، بخدماته استطاع السوفييت تسريع مشروع إنتاج قنبلة ذرية لسنتين.
كلاوس فوكس.. الألماني الشيوعي الذي هرب من هتلر
وُلد العالم الكيميائي كلاوس فوكس في 29 ديسمبر/كانون الأول عام 1911، بمدينة روسلسهايم الألمانية، كان والده إيميل فوكس يشتغل أستاذاً لعلم اللاهوت في جامعة لايبزيغ، وكان من بين الناشطين ضد النازية.
درس الرياضيات والفيزياء في جامعة لايبزيغ، وفي عام 1930، انضم إلى الحزب الشيوعي الألماني واعتنق الشيوعية وصار ناشطاً ضد النازية أسوة بوالده. وفي وقت لاحق من نفس السنة، انتقل فوكس إلى جامعة كيل عندما أصبح والده أستاذًا للدين هناك.
بعد وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا، اضطر فوكس للجوء إلى إنجلترا في سبتمبر 1933 لتجنب اضطهاد النازيين.
أبلغت السلطات الألمانية البريطانيين عام 1934 بخلفية فوكس الشيوعية، إلا أنّ السلطات البريطانية تجاهلت تلك المعلومات، باعتبار أن النازيين هم مصدر هذه المعلومات بحسب ما ذكره تقرير لـ bbc البريطانية.
أثناء إقامته في إنجلترا، عمل فوكس كمساعد باحث في جامعة بريستول، وهناك تحصّل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء سنة 1937، تحت إشراف أستاذ الفيزياء العالم البريطاني الشهير نيفيل موت.
بعد التخرج، بدأ فوكس العمل تحت إشراف العالم الألماني ماكس بورن في جامعة أدنبرة.
فوكس بدأ بتسريب المشروع البريطاني لتطوير السلاح النووي إلى السوفييت
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، تمّ اعتقاله في جزيرة آيل أوف مان، وفي وقت لاحق نُقل إلى معسكرات الاعتقال في كندا، وفق ما أوردته الكاتبة الأمريكية نانسي ثورنديك غرينسبان في كتابها "الجاسوس الذري".
بعد عودته إلى بريطانيا في عام 1941، أصبح كلاوس فوكس مساعداً لرودولف بيرلز؛ حيث عمل في برنامج "سبائك الأنابيب" – وهو مشروع القنبلة الذرية البريطانية.
ومنذ تلك اللحظة، بدأ فوكس بتمرير معلومات عن المشروع إلى الاتحاد السوفييتي من خلال الجاسوسة أورسولا كوتشينسكي، والتي تحمل الاسم الرمزي "سونيا"، وهي شيوعية ألمانية وضابط برتبة رائد في الاستخبارات العسكرية السوفيتية.
في سنة 1942، وفي مقهى مقابل محطة سكة حديد في برمنجهام الإنجليزية، قام العالم الألمانية كلاوس فوكس بإعطاء الجاسوسة الألمانية "سونيا" حقيبة تحتوي على 85 صفحة من الوثائق السرية المتعلقة بالمشروع النووي البريطاني.
احتوت الوثائق التي سرّبها فوكس من البريطانيين على تقارير وحسابات ورسومات وصيغ ومخططات متعلقة بتطوير أسلحة نووية.
ذكرت صحيفة أنّ فوكس استطاع الحصول عليها بعد أن نجح في الحصول على نسخة من مفاتيح مركز الأبحاث النووية في برمنغهام.
بحسب موقع richmond history، كان كلاوس فوكس يستعمل عدّة طرق تمويه للاجتماع مع الجواسيس السوفييت في إنجلترا، فقد كان يضع علامة على الصفحة 10 من إحدى المجلات، ثم يرميها في حديقة بلندن.
بعد نجاحه في مهمته الأولى، أطلق على فوكس الاسم الرمزي "العملاق"، وصارت تقاريره تسلّم مباشرةً إلى الرئيس السوفييتي ستالين، الذي أعجب بالعالم الألماني.
نجح كلاوس فوكس في تسريب أسرار مشروع مانهاتن الأمريكي
في أواخر عام 1943، كان فوكس من بين مجموعة من العلماء البريطانيين الذين تم إحضارهم إلى أمريكا للعمل في مشروع مانهاتن، البرنامج الأمريكي لتطوير قنبلة ذرية.
انضم فوكس إلى قسم الفيزياء النظرية في مختبر لوس ألاموس، الذي كان يعمل تحت قيادة هانز بيث. كان مجال خبرته الرئيسي هو مشكلة الانفجار (عملية ميكانيكية)، وهي ضرورية لتطوير قنبلة البلوتونيوم.
استمر فوكس بنقل جميع ما يعرفه عن مشروع مانهاتن الأمريكي لصنع القنبلة الذرية إلى الاتحاد السوفييتي، وكان الجاسوس المكلف بنقل معلومات فوكس هو الجاسوس السوفيتي الشهير هاري جولد.
وبنفس طريقة عمله في إنجلترا، استخدم فوكس التمويه في لقاءاته الاستخباراتية مع جولد، قد كان يضع علامة طباشير على عمود إنارة محلي. في نيويورك، ويحمل كتاباً أخضر وكرة تنس، وكانت كلمة السر في لقاءاته مع مسؤوله في الكي بي جي هي السؤال عن الاتجاهات المؤدية للشارع الصيني في نيويورك.
بعد الحرب عاد إلى المملكة المتحدة وعمل في مؤسسة الطاقة الذرية البريطانية في هارويل كرئيس لقسم الفيزياء النظرية، وكان مسؤولاً عن تطوير القنبلة النووية البريطانية.
مشروع VENONA الأمريكي يكشف تجسس فوكس
في 20 من سبتمبر/أيلول عام 1949، أعلن الرئيس الأمريكي هاري ترومان في بيان مقتضب للشعب الأمريكي، أن السوفييت فجروا قنبلتهم النووية الأولى، مشيراً إلى أن واشنطن لديها الدليل على إقدام السوفييت على ذلك قبل أسابيع.
في تلك الأثناء، كانت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تعملان في مشروع يحمل الاسم الرمزي "VENONA" لكسر الشفرات السريّة للسوفييت.
وبالفعل نجحت الولايات المتحدة الأمريكية من فك رموز عدد كبير من الرسائل، وبعضها كان تقارير عن اجتماعات العالم الألماني البريطاني كلاوس فوكس مع هاري جولد.
زاد التشابه شبه الكلي بين القنبلة الذرية الأمريكية والسوفييتية من شكوك الأمريكان بوجود جاسوس سوفييتي كبير في مشروع مانهاتن.
ركزت تحقيقات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على تحديد الشخص المعني الذي أطلق عليه اسم REST.
على الرغم من أنه لم يكن في البداية في دائرة المشتبهين بهم، فقد تمكن المحققون من تضييق نطاق المشتبه بهم إلى شخصين فقط – فوكس نفسه وعالم ألماني المولد، هو رودولف بيرلز.
بحلول عام 1949، أصبح من الواضح أن فوكس هو العميل السري الكبير للسوفيات داخل مشروع مانهاتن.
لم يكن بوسع الأمريكان استخدام مواد VENONA لإدانة فوكس بسبب السرية الشديدة لـ VENONA؛ لذا تقرر ممارسة الضغط على فوكس لحمله على الاعتراف.
الشرطة البريطانية تطيح بكلاوس فوكس
في تلك الأثناء كان فوكس بلندن يعمل على تطوير مشروع القنبلة النووية البريطانية، لتتحمل الشرطة السرية البريطانية مسؤولية استجواب فوكس. وتمّ اختيار وليام سكاردون، وهو ضابط سابق في الفرع الخاص للشرطة، لأداء هذه المهمة.
بدأ المحقق البريطاني سكاردون رحلته في كشف حقيقة العالم فوكس، من والده الذي كان يعمل في جامعة لايبزيغ في ألمانيا الشرقية التي كانت تخضع للحكم الشيوعي.
استخدم سكاردون ذلك كذريعة لفتح نقاش مع فوكس حول حياته الشخصية، وعلاقته مع السوفييت.
وبعد عدة لقاءات تمكن سكاردون من نيل ثقة فوكس، وفي ديسمبر/ كانون الأول 1949، أخبر المحقق البريطاني فوكس بأنّ الشرطة البريطانية على علم بتورطه بالتجسس لصالح السوفييت.
انهار فوكس بعدها واعترف بتهمة التجسس لصالح السوفييت منذ عام 1942، وأعطاهم أسراراً مهمة في مشروع القنبلة الذرية.
لم يكن يريد أن تحتكر أمريكا السلاح النووي
كانت ذريعة فوكس حسب موقع spyscape.، أنّ الاتحاد السوفييتي كان حليفاً للغرب ولم يكن عدواً، وانّ احتكار القنبلة الذرية في يد قوة واحدة لا يساهم في جعل العالم أكثر أمناً.
أدت شهادته إلى اعتقال عدة جواسيس سوفييت في مشروع مانهاتن، أبرزهم هاري جولد، وديفيد جرينجلاس، ويوليوس وإيثيل روزنبورغ.
بعد محاكمة قصيرة اعترف فيها بالذنب في تهم انتهاك قانون الأسرار الرسمية، حُكم عليه بأقصى عقوبة؛ السجن أربعة عشر عاماً. قضى منها تسع سنوات فقط، وبعد إطلاق سراحه سنة 1959، عاد إلى ألمانيا الشرقية التي منح جنسيتها، وتم انتخابه في أكاديمية العلوم وأصبح عضواً في اللجنة المركزية لحزب الوحدة الاشتراكية في ألمانيا. كما تم تعيينه فيما بعد نائباً لمدير معهد الأبحاث النووية في روسندور.
خلال فترة عيشه في ألمانيا الشرقية، ظل فوكس شيوعياً ملتزماً وحصل على العديد من التكريمات من الحزب الشيوعي الألماني الشرقي إلى غاية وفاته سنة 1988.