ترى الأغلبية في اليابان في إقامة جنازة رسمية لرئيس الوزراء المقتول شينزو آبي استفزازاً يجب التعبير عن رفضه، بينما تواجه السلطات تحدياً أمنياً غير معهود، فلماذا يتعاطف اليابانيون مع القاتل؟
كان رئيس وزراء اليابان السابق شينزو آبي قد اغتيل برصاص رجل كان يحمل سلاحاً محلي الصنع أطلق عليه النار من مسافة قريبة أثناء حملة انتخابية في مدينة نارا غرب البلاد خلال يوليو/تموز الماضي.
جريمة الاغتيال سببت صدمة في اليابان، التي نادراً ما تشهد جرائم عنيفة وتميل الشخصيات المرموقة فيها إلى التنقل بحراسة بسيطة فقط. وأقرت السلطات اليابانية، وكذلك رئيس الوزراء فوميو كيشيدا، بوجود قصور أمني ساهم في مقتل آبي.
جنازة رسمية هذه تفاصيلها
الآن تستعد السلطات اليابانية لإقامة جنازة رسمية لآبي، يتوقع أن يحضرها العشرات من كبار الشخصيات الأجانب، وستقام الثلاثاء 27 سبتمبر/أيلول في قاعة نيبون بودوكان وسط طوكيو.
وتجنباً لتكرار حدوث تقصير أمني آخر، ستغلق السلطات الطرق المحيطة بمكان الجنازة، التي تبدأ الساعة الثانية ظهراً (0500 بتوقيت غرينتش)، وستفرض قيوداً على المجال الجوي في نطاق نحو 46 كيلومتراً من الموقع منذ الاثنين 26 سبتمبر/أيلول إلى الأربعاء.
ستسمح السلطات للناس بوضع الزهور في أماكن مخصصة قرب موقع الجنازة، لكن وفقاً لمنشور حكومي ستقوم السلطات بتفتيش متعلقاتهم وقد يُطلب منهم المرور عبر أجهزة الكشف عن المعادن، بحسب تقرير لرويترز
كما ذكرت وسائل إعلام محلية أن اليابان تطبق أقصى درجات التأمين، إذ سينتشر عشرات الآلاف من ضباط الشرطة لتعزيز إجراءات الأمن في العاصمة طوكيو من بينهم نحو 2500 سيأتون من أنحاء البلاد. وتفيد تقارير بأن ضباط شرطة ومعهم كلاب مدربة يكثفون دوريات مكافحة الإرهاب في محطات السكك الحديدية الرئيسية ومطار هانيدا في طوكيو على مدى الأيام القليلة الماضية.
كما ستنظم الشرطة دوريات على الطرق السريعة بحثاً عن أي أغراض مشبوهة وتتفقد المناطق المحيطة بالسفارات والفنادق حيث سيتواجد الضيوف الأجانب. وسيصل اليابان جواً نحو 700 ضيف أجنبي للمشاركة في الجنازة، بينهم نحو 50 من الزعماء الحاليين أو السابقين.
ومن المقرر أن تشمل قائمة كبار الشخصيات نائبة الرئيس الأمريكي كمالا هاريس، ورئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، ولي هسين لونج رئيس وزراء سنغافورة، والرئيس الفيتنامي نجوين شوان فوك، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل. وألغى رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو حضوره للتركيز على جهود التعامل مع تبعات عاصفة قوية ضربت ساحل البلاد الشرقي.
سينتشر أكثر من ألف جندي من الجيش الياباني من أجل مراسم الجنازة مع توقع حضور 4300 ضيف. وسيقوم حرس الشرف بإطلاق 19 قذيفة مدفع فارغة تكريماً لآبي وستعزف فرقة عسكرية الموسيقى.
لماذا يرفض اليابانيون الجنازة الرسمية؟
صحيفة The New York Times الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "لماذا يغضب اليابانيون من قرار الحكومة إقامة جنازة رسمية للزعيم المُغتال؟"، رصد أسباب الغضب الشعبي، التي تبدو مخالفة لتقاليد اليابانيين بشكل عام.
إذ إنه على الرغم من مرور نحو 3 أشهر على مقتل آبي، رئيس الوزراء الأكثر نفوذاً والأطول بقاءً في المنصب، خلال إحدى جولات الحملة الانتخابية لحزبه، لا يزال الجدل كبيراً والغضب أكبر.
لكن الغضب الشعبي الناجم عن عملية اغتيال آبي ليس موجهاً إلى القاتل وقدرته على صنع سلاح ناري واستخدامه في بلد يفرض قيوداً صارمة على حيازة الأسلحة أو حتى التفاصيل الأمنية التي فشلت في حماية شينزو آبي. بدلاً من ذلك، انصب غضب اليابانيين على الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم وخطته لإقامة جنازة رسمية للزعيم المقتول، الذي تولَّى رئاسة الحزب منذ فترة طويلة.
ويشهد فوميو كيشيدا، رئيس الوزراء الحالي لليابان، أسوأ انخفاض في معدلات تأييده منذ أن أصبح زعيماً للحزب الليبرالي الديمقراطي في الخريف الماضي. كما يبدو أنَّ حالة الحداد العام في اليابان قد تلاشت مع خروج آلاف المتظاهرين إلى الشوارع أو التوقيع على عرائض للاحتجاج ضد إقامة جنازة رسمية لآبي، إذ يعتبرونها إهداراً للمال العام.
فالحكومة تعتزم إنفاق 1.65 مليار ين (11.5 مليون دولار) على الجنازة، بينها 800 مليون ين على تأمين المراسم و600 مليون ين لاستضافة الوفود الأجنبية. وتسببت التكلفة المرتفعة للجنازة في انتقادات حادة من الرأي العام، إذ يأتي التمويل من نقود دافعي الضرائب في وقت يعاني فيه كثيرون من صعوبات اقتصادية.
لكن يبدو أن تكلفة الجنازة ليست السبب الوحيد للغضب، إذ أدَّى اغتيال آبي إلى إطلاق موجة من الاكتشافات غير المريحة تخص العلاقة بين سياسيي الحزب الحاكم ومجموعة دينية هامشية معروفة باسم "كنيسة التوحيد".
وكان تيتسويا ياماغامي، المتهم بقتل شينزو آبي، قد كتب عن شعوره بالاستياء الشديد من "كنيسة التوحيد" المرتبطة -على حد قوله- برئيس الوزراء السابق والعديد من السياسيين الآخرين.
جذبت قصة ياماغامي اهتمام الجمهور الياباني، لاسيما أنَّ هناك وسائل إعلامية كانت تبحث بالفعل في أعمال "كنيسة التوحيد" المتهمة باستغلال أتباعها الضعفاء، من بينهم والدة ياماغامي، لتحقيق مكاسب مالية من خلال حثهم على تقديم الهبات والتبرعات.
إرث شينزو آبي المثير للجدل
ومع استعداد مئات الشخصيات الدولية البارزة لزيارة طوكيو لحضور الجنازة الرسمية – وهي الأولى لرئيس وزراء ياباني منذ 55 عاماً- أصبحت ردود الفعل المعارضة للجنازة تُمثّل استفتاءً شعبياً على ما يقرب من 8 سنوات متتالية من حكم آبي للبلاد.
أزومي تامورا، أستاذة مشاركة في علم الاجتماع بجامعة "شيغا" اليابانية، قالت لنيويورك تايمز إنَّ "منتقدي إقامة جنازة رسمية لآبي يعتقدون أنَّها ستكون بمثابة تكريم غير مستحق لسياسي تورَّط في عدد من القرارات والفضائح المثيرة للجدل، من بينها اتهامات بأنَّ حكومته منحت بشكل غير مشروع خدمات سياسية لأصدقائها السياسيين وأساءت التعامل مع أزمة جائحة كوفيد-19 في بداياتها.
وبينما قد يواصل الناخبون اليابانيون إبقاء حزب شينزو آبي في السلطة تحت شعار الاستقرار، فإنَّهم يعبرون عن استيائهم من فترة ولايته من خلال معارضة الجهود المبذولة لتكريمه بعد وفاته.
يوم الإثنين 19 سبتمبر/أيلول، تجمع الآلاف من اليابانيين في حديقة "يويوجي" وسط طوكيو احتجاجاً على إقامة جنازة لرئيس الوزراء الياباني السابق المُغتال ورفعوا أعلاماً متعددة الألوان تمثل مجموعة كبيرة من القضايا، مثل تمكين المرأة وحقوق المعاقين ومعارضة الطاقة النووية أو القواعد العسكرية الأمريكية.
قال شو ساتو، 42 عاماً، أحد المحتجين المحتشدين ضد إقامة الجنازة الرسمية: "أعتقد من المهم لنا جميعاً التجمّع والتعبير عن مشاعرنا تجاه ما فعله آبي، والذي لم يكن جيداً على الإطلاق".
كان آبي قد حاز إشادة كبيرة على الصعيد الدولي لنجاحه المبكر في دفع عجلة الاقتصاد الياباني واستضافته الرئيس باراك أوباما في أول زيارة رئاسية أمريكية لهيروشيما وتعامله الذكي مع الرئيس المراوغ دونالد ترامب، بالإضافة إلى المساعدة في عقد اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الأطلسي التي تُمثّل حصناً ضد الصين حتى بعد قرار ترامب بانسحاب الولايات المتحدة منها.
ومع ذلك، كانت سمعته محل جدال على المستوى المحلي. تعرَّض آبي لانتقادات بسبب تجاهله الاحتجاجات الجماهيرية الضخمة وأحزاب المعارضة عندما مرَّر تشريعاَ أعاد تفسير الدستور السلمي لليابان وسمح بتنفيذ مهام قتالية في الخارج إلى جانب قوات متحالفة. أعربت النساء أيضاً عن خيبة أمل لفشل شينزو آبي في الوفاء بوعوده بشأن إصلاح قرون من الهيمنة الأبوية.
علاقة الحزب الحاكم بـ"كنيسة التوحيد"
قال كاتسويا أوكادا، الأمين العام للحزب الدستوري الديمقراطي، وهو أكبر حزب معارض في اليابان، في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي، إنَّ "الشيء المؤسف للغاية هو التخطيط لإقامة جنازة رسمية لأحد السياسيين رغم معارضة أكثر من نصف الناخبين اليابانيين لذلك، إذ تظهر بعض استطلاعات الرأي في وسائل الإعلام أنَّ أكثر من 60% من اليابانيين يعارضون تلك الجنازة".
أضف إلى ذلك الكشف المستمر عن العلاقات الواسعة بين الحزب الليبرالي الديمقراطي و"كنيسة التوحيد" -التي اتهمها تيتسويا ياماغامي باستغلال والدته من خلال دفعها إلى التبرَّع بما يقرب من مليون دولار.
حتى الآن، أعلن الحزب الليبرالي الديمقراطي أنَّ ما يقرب من نصف أعضائه البرلمانيين البالغ عددهم 379 نائباً قد اعترفوا بوجود صلات مع "كنيسة التوحيد"، بدايةً من إرسال برقيات تهنئة مروراً بالمنظمات التابعة للكنيسة إلى الظهور في مؤتمرات من تنظيم الكنيسة.
قال جيفري هول، الأستاذ في جامعة "Kanda" للدراسات الدولية والباحث في السياسات اليابانية، إنَّ "حادثة اغتيال شينزو آبي كانت سبباً مباشراً في تسليط الضوء على الجانب المظلم من التعاون بين كنيسة التوحيد والحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم".
على صعيدٍ آخر، أشارت تاماكي كاواساكي، الصحفية التي تابعت عن كثب رد فعل اليابانيين على موت آبي، إلى أنَّه بعد الكشف عن أعمال "كنيسة التوحيد"، تحوَّل القاتل تيتسويا ياماغامي إلى نوع من الشخصيات البطولية بالنسبة لبعض الأشخاص -الذين يعانون بسبب قوى اقتصادية واجتماعية خارجة عن سيطرتهم.
وقالت كاواساكي إنَّ تباطؤ النمو وزيادة أوجه عدم المساواة -الناجمة جزئياً عن السياسات الاقتصادية لشينزو آبي- على مدى العقود العديدة الماضية أدت إلى خلق جيل لديه "شعور قوي بأنَّه ضحية"، وهو ما يفسر جزئياً التعاطف الياباني مع دوافع ياماغامي.
قاد أيضاً تسليط الضوء على أعمال "كنيسة التوحيد" إلى كشف تعاون طويل الأمد بين الحزب الحاكم ومجموعة أخرى من السياسيين المنتمين إلى حركات دينية. كان حزب "كوميتو"، وهو حزب ياباني يمزج بين المعتقدات الدينية البوذية والسياسة ومتحالف بشكل وثيق مع حركة "سوكا غاكاي" الدينية البوذية، شريكاً للحزب الليبرالي الديمقراطي في الائتلاف الحاكم منذ عام 1999.
تعليقاً على ذلك، قال دايساكو هيراكي، العضو عن حزب "كوميتو" في مجلس المستشارين في البرلمان الياباني، إنَّ الاختلاف الرئيسي في حالة "كنيسة التوحيد" هو أنَّ الاتصالات كانت بعيدة عن الرأي العام.
وأضاف هيراكي في مقابلة بمكتبه مع صحيفة "The New York Times": "يتبنى الجمهور الياباني حالياً وجهة نظر سلبية تجاه الحزب الليبرالي الديمقراطي وكنيسة التوحيد؛ لأنَّهم لم يكونوا على دراية بالعلاقة بين الكيانين، على عكس العلاقة الشفافة للغاية بين حزب كوميتو وحركة سوكا غاكاي".
من جانبه، قال شيجيرو إيشيبا، العضو البارز في البرلمان عن الحزب الليبرالي الديمقراطي والذي كاد يهزم شينزو آبي في منافسة على قيادة الحزب في عام 2012، إنَّه على الرغم من "تراجع شعبية فوميو كيشيدا، لم ترتفع معدلات التأييد لأحزاب المعارضة. ثمة استياء جماهيري، لكن أعتقد أنَّ اليابانيين لا يزالون في حيرة من أمرهم حيال ما يجب عليهم فعله".
في السياق ذاته، قالت ناهوكو ايشياما، واحدة من منظمي الاحتجاج في حديقة يويوغي والبالغة من العمر 33 عاماً، إنَّ "اليابانيين بحاجة إلى الثقة في أنفسهم وفي قدرتهم على تغيير الأشياء والضغط على الحكومة الوطنية إذا رفعوا أصواتهم عالياً".