بدأ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، عملية إعادة هيكلة أجهزة الاستخبارات بهدف استرداد سيطرته على الأجهزة التي تمتعت باستقلالٍ نسبي عن الإشراف الرئاسي لسنوات طوال، بحسب ما قاله موقع Africa Intelligence الفرنسي الاستخباراتي، الخميس 22 سبتمبر/أيلول 2022.
بحسب الموقع الاستخباراتي، فإن هذه التعديلات لها تداعياتها المباشرة على منطقة إفريقيا جنوب الصحراء ومنطقة الساحل المجاورة تحديداً.
وتسعى الجزائر العاصمة لفرض نفوذها في المفاوضات الجارية مع باماكو وراء الكواليس، من أجل تأمين الإفراج عن 49 جندياً إيفوارياً.
حيث أثار الرئيس عبد المجيد تبون هذه القضية الحساسة مع نظيره المالي أسيمي غويتا في أغسطس/آب 2022، واستمرت المحادثات بضعة أيام في باماكو بين وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة ونظيره المالي عبد الله ديوب مطلع سبتمبر/أيلول. بينما كان السفير الجزائري محمد عبد العزيز بوقطاية، يُنسّق الاتصالات مع فريق الرئيس الإيفواري الحسن واتارا في أبيدجان.
لكنَّ تبون لم يتوقف عند تعبئة الدبلوماسيين فقط. إذ أشرك أجهزته الاستخباراتية في العملية على أرفع المستويات، حيث تعمل هذه الأجهزة بشكلٍ نشط في شمال مالي. ولا شك في أن هذا الأمر أثار حفيظة لوميه، بعد أن جرى تكليف توجو بالوساطة بين ساحل العاج ومالي رسمياً منذ أوائل سبتمبر/أيلول. ويأتي هذا الانخراط كإشارة من الجزائر لعواصم المنطقة بأن أجهزتها الأمنية والدبلوماسية ما تزال قوةً لا يُستهان بها في مالي المجاورة.
طموحات خارج الجزائر
في الجزائر العاصمة، أشرف اللواء جبار مهنا على عمليات مكافحة الإرهاب في التسعينيات بصفته رئيساً للمركز الرئيسي العسكري للتحقيقات. وأصبح مهنا مسؤولاً عن تنسيق عمل أجهزة الاستخبارات في المنطقة اليوم.
إذ يرأس المديرية العامة لمكافحة الإرهاب منذ نوفمبر/تشرين الثاني عام 2021، بعد أن تشكلت حديثاً لتنقل تقاريرها إلى الرئيس مباشرةً. كما عُيِّن مطلع سبتمبر/أيلول، على رأس المديرية العامة للوثائق والأمن الخارجي، بدلاً من اللواء عبد الغني راشدي الذي استمرت ولايته لشهرين فقط. وربما استُبعد راشدي من منصبه بحجة الأسباب الصحية، لكن الشائعات في أروقة السلطة تقول إنه خسر وظيفته بسبب علاقته المزعومة برئيس شركة سوناطراك توفيق حكار، فضلاً عن علاقاته بالإمارات العربية المتحدة، التي تواجه الجزائر عدداً من الخلافات السياسية معها في الوقت الراهن.
بينما يُعتبر جبار على درايةٍ جيدة بشؤون منطقة الساحل، ومن المرجح أن يخصص جزءاً كبيراً من وقته لمسألة مالي. وتمتعت الجزائر بمكانةٍ نافذة في علاقتها مع جارتها تاريخياً، لكن الانقلاب الذي وقع قبل عامين وأسفر عن تنصيب المجلس العسكري في الحكم قلَب الموازين، مما أدى إلى تهميش العديد من جهات اتصال قادة المخابرات الجزائرية.
إصلاح الاستخبارات
كان اللواء جبار من أهم الشخصيات الحاضرة في أثناء زيارة إيمانويل ماكرون للجزائر في 26 أغسطس/آب 2022، قبل تعيينه رئيساً للمديرية العامة للوثائق والأمن الخارجي. حيث جلس جبار على يسار تبون في أثناء مأدبة الغداء مع الرئيس الفرنسي، بينما جلس رئيس الأركان السعيد شنقريحة إلى يمين الرئيس الجزائري.
أما راشدي فجلس إلى جوار اللواء جبار، وأمام رئيس المديرية العامة للأمن الخارجي، الفرنسي برنارد إيمييه. وشعرت الجزائر بالقلق تاريخياً من مديرية الأمن الخارجي الفرنسية، لهذا فضَّلت التعامل مع أجهزة الاستخبارات الفرنسية الداخلية بدلاً منها. وشغل إيمييه منصب السفير السابق لدى الجزائر بين عامي 2014 و2017.
ولهذا سافر إلى العاصمة قبيل زيارة ماكرون، كما يتمتع بعلاقةٍ جيدة مع جبار.
ويعتبر رئيس مديرية التوثيق والأمن الخارجي الجزائري الجديد من محبي فرنسا، ويتمتع بعلاقات جيدة داخل المجتمع الاستخباراتي الفرنسي، كما زار باريس عدة مرات خلال العام الجاري بالفعل. ولا شك في أن وصوله إلى سُدّة قيادة جهاز الاستخبارات الخارجية الجزائري سيعزز العلاقات الوثيقة بين أجهزة الاستخبارات على جانبي البحر المتوسط.
كما أدى تعيين جبار إلى إحكام قبضة تبون على غالبية الأجهزة الحساسة في الدولة الجزائرية. حيث تعاون الرئيس الجزائري بشكلٍ مكثف مع شنقريحة لإطلاق عملية إصلاح شاملة للأجهزة الأمنية؛ سعياً منه لينأى بنفسه عن نظام عبد العزيز بوتفليقة، الذي كانت الاستخبارات في عهده خاضعةً لسيطرة شقيقه سعيد بوتفليقة. ويُمكن القول إن التوازن الجديد الذي يسعون إليه سيكون غير مسبوق داخل بلدٍ لطالما سيطرت فيه الخلافات العنيدة على العلاقة بين أجهزة الأمن، ومكتب الرئيس، والجيش.
إضافة إلى فرض سيطرته على المديرية العامة للوثائق والأمن الخارجي، أعاد تبون إحياء المجلس الأعلى للأمن الذي أهمله أسلافه. ويتألف المجلس الأعلى من جميع رؤساء الاستخبارات، ويمكنه طلب الإحاطات من أفراد الحكومة الذين يعملون على قضايا حساسة بعينها.
إعادة إحياء دائرة الاستعلام
وركّز الرئيس اهتمامه على الأجهزة الداخلية قبل أن يُوجه أنظاره إلى الاستخبارات الخارجية. إذ تُدار المديرية العامة للأمن الداخلي في الجزائر تحت قيادة اللواء جمال كحال مجدوب منذ يوليو/تموز 2022، بعد أن قضى الشهرين السابقين كقائم بأعمال رئيس مديرية التوثيق والأمن الخارجي بدلاً من اللواء نور الدين مقري. ويُعتبر مجدوب من أنقى منتجات أجهزة الاستخبارات الجزائرية، لكنه درس في مدرسة سان سير العسكرية الفرنسية وأكاديمية جهاز الأمن الفيدرالي الروسي أيضاً. كما كان من كوادر المديرية العامة للأمن والحماية الرئاسية بين عامي 2005 و2015 تحت إمرة بوتفليقة، ويعتبر من أكبر المطلعين على خبايا الأجهزة العسكرية والسياسية رفيعة المستوى.
أما على صعيد الاستخبارات العسكرية، فتظل المديرية المركزية لأمن الجيش خاضعةً لسيطرة شنقريحة. حيث فقد اللواء سيد علي ولد زميرلي الثقة بعد اتهامات التهريب التي طالت شقيقه وأُجبر على المغادرة، قبل أن تُعيّن القيادة العليا للجيش اللواء عبد العزيز نويوات شويطر رئيساً لمديرية أمن الجيش في 11 سبتمبر/أيلول 2022.
وشهدت عملية الإصلاح عودة بعض اللواءات القدامى الذين فُصِلوا من مناصبهم، أو سُجِنوا في بعض الحالات، في أثناء عهد بوتفليقة ورئيس أركانه أحمد قايد صالح. وبرّأت المحاكم العسكرية هؤلاء اللواءات، لكن غالبيتهم بلغ السبعين من عمره ودخل في سن التقاعد.
يمكن القول إن جبار، ومجدوب، وغيرهما من الشخصيات التي أُعيد تأهيلها يدينون بالولاء للواء المتقاعد محمد مدين (توفيق)، الذي رأس دائرة الاستعلام والأمن لمدة 25 عاماً قبل أن يقوم بوتفليقة بتفكيكها عام 2015. وسُجِن توفيق منذ مايو/أيار عام 2019 حتى يناير/كانون الثاني عام 2021. لكنه كان واحداً من أفراد الحرس القديم الذين أشاد بهم تبون في الرابع من أغسطس/آب، إلى جانب قائد الجيش ووزير الدفاع السابق خالد نزار، واللواء حسين بن حديد من جيش التحرير الوطني.
وتستهدف إعادة هيكلة أجهزة الاستخبارات إنشاء كيانٍ على غرار دائرة الاستعلام والأمن المنحلة، لكن بهيئةٍ عصرية وتحت قيادة شخص يستطيع التنسيق بين مختلف أذرع الأجهزة الأمنية. ويرفع الكيان الجديد تقاريره إلى مكتب الرئيس مباشرةً، بينما ستظل الاستخبارات العسكرية تحت ولاية شنقريحة. وفي الوقت ذاته، يعمل اللواءات القدامى الذين أُعيد تأهيلهم، على تدريب جيلٍ جديد من الكوادر الشابة لتولّي الدفة. ولا يمتلك توفيق منصباً رسمياً، لكنه يمارس نفوذه المُكتشف حديثاً داخل الأجهزة الأمنية في السر، كما يقدم مشورته داخل أرفع مستويات الدولة. وما يزال شخصيةً تحظى بالتقدير في المجتمع الاستخباراتي، ويتمتع بعلاقات جيدة من موسكو حتى واشنطن، فضلاً عن قيامه بإعادة تنشيط شبكة مصادره في منطقة الساحل والعديد من العواصم الإفريقية.