(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
"سورة الإسراء: الآية 1"
لم يكن من المستغرب أن يُفكر المسلمون في فتح بيت المقدس، وهي المدينة المشرّفة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وعلى لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أحاديث الصحابة، فضلاً عن كونها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسراه ومعراجه صلى الله عليه وسلم إلى السماء.
لقد رأى المسلمون في غزوتي مؤتة وتبوك عزم النبي على غزو الروم، وإبعادهم عن بلاد الشام، فضلاً عن ردعهم عن الجزيرة العربية، وأدرك الصحابة هذا العزم بيقين، فاستكمله أبو بكر رضي الله عنه حين أنفذ جيش أسامة، ثم حين فرغ من حروب الردة وتوحيد الجزيرة العربية من جديد، فقرر أن يوجّه جيوش المسلمين لفتح العراق والشام، وأرسل خالد بن الوليد والعياض بن غُنم والمثنى بن حارثة الشيباني لفتح العراق، كما وجَّهَ لفتح الشام يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبا عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص.
كانت مهمة عمرو بن العاص الأساسية فتح فلسطين على رأس جيش قوامه سبعة آلاف مقاتل، لكن لا يشرع في هذا الفتح إلا بعد أن يطمئن إلى استيلاء الجيوش التي سبقته على بلاد الشام والقلب منها دمشق، قائلاً له: "إذا سرتَ بجيشك فلا تسر في الطريق التي سار فيها يزيد وربيعة (بن عامر) وشرحبيل (بن حسنة)، بل اسلك طريق إيلياء (القدس) حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وابعث عيونك يأتونك بأخبار أبي عبيدة، فإن كان ظافراً بعدوّه فكن أنت لقتال مَن في فلسطين، وإن كان يريد عسكراً فأنفذ إليه جيشاً في أثر جيش"[1].
على أن وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أثناء ذلك، في العام 13هجرية، ومبايعة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب قد غيّرتا من بعض الأوضاع العملياتية في أرض المعركة في العراق والشام، ودخل تحدي فتح القدس أو إيلياء منعطفاً جديداً مع تشبث البيزنطيين "الروم" بهذه الأرض المقدسة، فكيف استطاع المسلمون التغلب على ذلك؟ وكيف وصلت خيولهم إلى أسوار المدينة المقدسة؟ ولماذا طال حصارهم بها؟ ثم لماذا قبلوا شروط الروم ورجال الدين من البطاركة والقساوسة بضرورة استدعاء الخليفة عمر بن الخطاب؟
خلافة عمر والانطلاق نحو القدس
كانت أولى الخطوات التي اتخذها عمر بن الخطاب بعد تسلمه الخلافة أن ينزع الولاية أو القيادة العامة من خالد بن الوليد، وقرر تسليمها إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح، خوفاً من فتنة المسلمين به، ومظنة أن انتصاراته المتوالية التي لم يلق فيها هزيمة واحدة هي محض فضل منه، بسبب مهارته العسكرية الفذة، وقد قبِلَ خالد بن الوليد رضي الله عنه بهذا القرار، وعاد من القيادة إلى الجندية، دون أدنى حرج منه أو تسخُّط على رأي الخليفة الفاروق[2]، كما أن عمر امتاز بالمركزية الشديدة، حتى على صعيد المعارك وأدق التفاصيل في ساحات العراق والشام، بينما امتاز خالد بإنفاذ اجتهاده العسكري دون الرجوع للخليفة، كما كان يفعل في عهد الصديق رضي الله عنه.
وشرع الجميع إثر ذلك في مواجهة الروم، في المعركة الفاصلة اليرموك، على حدود الشام الجنوبية، في العام 13هـ، كما في رواية الطبري[3]، وأدى انتصارهم الساحق فيها إلى تقهقر البيزنطيين الروم إلى الخلف، وأعادوا تجميع صفوفهم في منطقة قريبة تُسمى فحل، وجاءت أوامر عمر إلى أبي عبيدة بقوله: "ابدأوا بدمشق فانهَدوا لها، فإنها حِصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنكم أهل فَحل بخيلٍ تكون بإزائهم في نحورهم وأهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذاك الذي نحب"[4].
وبالفعل استطاع المسلمون هزيمة الروم في كامل بلاد الشام، فاستولوا على دمشق وحمص وحماة واللاذقية وقنسرين وحلب وأنطاكية، في المقابل جاءت الأوامر لعمرو بن العاص قائد جيش فلسطين بالتوغل لفتحها، والوصول إلى قلبها القدس، والتقى عمرو بن العاص مع أرطبون، القائد العسكري الرومي الذي يلي هرقل في المنزلة العسكرية بمعركة أجنادين بالقرب من مدينة الرملة الفلسطينية، واستطاع عمرو هزيمة الروم، كما تمكن من فتح مدن غزّة ورفح ونابلس واللّد وعمواس ويافا، واضطر الروم إلى الهرب صوب القدس أو إيلياء كما كانت تُسمى، للاعتصام بأسوارها المنيعة[5].
رأى القائد العام أبو عبيدة بن الجراح تقدم عمرو بن العاص فاتحاً مدن فلسطين وحصونها، وكانت قد جاءته رسالة الخليفة تطالبه بإمداده بالجيوش اللازمة، فلبى أبو عبيدة الأمر، واستدعى سبعة من أمراء الجيوش، عقد لكل واحد منهم لواءً على خمسة آلاف مقاتل، ما بين فارس وراجِلٍ، وأمرهم بالمسير على أيام متتالية، فسار خالد بن الوليد في اليوم الأول، ثم يزيد بن أبي سفيان، ثم شرحبيل بن حسنة، ثم المرقال بن هاشم، ثم مسيّب بن نجيّة الفزاري، ثم قيس بن المرادي، ثم عروة بن مهلهل بن زيد الخيل، بلغ مجموع هذه الجيوش خمسة وثلاثين ألف مقاتل، وبدأ الجميع في حصار بيت المقدس.
أرسل أبو عبيدة شروطه إلى بطاركة بيت المقدس بالتسليم أو دفع الجزية أو القتال، لكنهم لم يقبلوا إلا بالقتال، واستمر الحصار والقتال طوال أربعة أشهر كاملة، أدرك أهل المدينة والحامية البيزنطية بها، وكبار البطاركة والقساوسة أنهم لا طاقة لهم مع هذا الحصار، لا سيما مع نفاد تموينهم من الطعام والمؤن، ورأى الجميع التسليم وعلى رأسهم البطريرك صفرونيوس، الذي اشترط أن يُسلّم المدينة للخليفة عمر بن الخطاب، وأن يكون على رأس المتولين للصلح، ليكون أوكد وأضمن[6].
أمان الفاروق وعُهدته الخالدة
أرسل أبو عبيدة إلى الخليفة عمر كتاباً يخبره بما جرى، وبعد أن استشار عمر أهل الحل والعقد والمشورة من كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار في المدينة النبوية، اتفق على المغادرة صوب بيت المقدس مستخلفاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المدينة، ولما وصل إلى المخيّم الذي كان يُرابط فيه المسلمون على مقربة من أسوار القدس، وقيل في الجابية، استقبله المسلمون بكامل خيلهم ورماحهم وعدّتهم، وقد اصطفّوا لاستقباله في صفوف متراصّة، يهللون ويكبرون، وكان يعاونه على سفره غلام له، اعتادا على النوبة على ركوب بغلة وقيل قلوص من الإبل، وكانت نوبة الغلام آنذاك، فدخل عمر على جيوش المسلمين وهو سائق بغلته وعليها غلامه، وكان على رأس مستقبليه أبو عبيدة، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وآخرون من كبار الصحابة[7].
وفي مخيم جيوش المسلمين التقى عمر بوفد أهل القدس من الأساقفة والشمامسة والرهبان، حيث تحادثوا في شروط الصلح والتسليم، وخروج القوات العسكرية البيزنطية بقيادة الأرطبون إلى مصر، وبالفعل كتب لهم الفاروق وثيقة التسليم، التي لا تزال باقيةً حتى يومنا هذا، وقد عُرفت بـ"العُهدة العُمرية"، التي جاء فيها:
"بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبدُ اللَّه عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصُلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملّتها، أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقصُ منها ولا مِن حيّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضارَّ أحد منهم، ولا يَسكنُ بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الروم واللصوت (اللصوص)، فمَن خرج مِنهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومَن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحبَّ من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصُلُبَهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعِهم وصُلُبِهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومَن كان بها مِن أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمَن شاء منهم قعَدُوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومَن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يُؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد اللَّه وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شَهِد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكُتب وحضر سنة خمس عشرة"[8].
وكما أعطى عمر أهل القدس أو إيلياء أمانهم، والتزام المسلمين نحوهم بحقوقهم المصونة الدينية والاجتماعية وغيرها، اشترط عليهم عدة شروط، منها استضافتهم للمسلمين ثلاث ليالٍ لمن جاء إلى القدس ضيفاً أو عابراً للسبيل، ولا يواروا في كنائسهم أو منازلهم جواسيس يعملون ضد المسلمين، وأن يفتحوا كنائسهم ليل نهار للمسلمين إن أرادوا زيارتها وكشف ما بها، واشترط عليهم عدم بيع الخمر، فضلاً عن غيرها من الشروط الأخرى التي تحفظ علاقتهم بالمسلمين.
بين جنبات المسجد الأقصى
دخل عمر المدينة، وفتحت القدس أبوابها أمام المسلمين، الذين رافقوا الخليفة الراشد، وكانوا أربعة آلاف صحابي وتابعي حاملين سيوفهم، وقد استقبله بطريرك المدينة الأكبر صفرونيوس، فدخلوها مهللين مكبرين، وابتدأ عمر بزيارة كنيسة القيامة، وتجول مع صفرونيوس أركانها، ودخل عليه وقت الصلاة فأشار عليه البطريرك أن يصلي داخل الكنيسة، لكنه أبى وخرج من الكنيسة، وقرر الصلاة في موضع آخر على مقربة منها، وكان قد خشي أن يتخذ المسلمون ذلك ذريعة مِن بعده ليستولوا عليها، فقابل النصارى هذا العمل بالشكر والتقدير[9].
بحث الخليفة عمر عن الصخرة المشرفة التي عرج من فوقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى موضعها خراباً تجمعت فيه الأقذار والمزابل، فراح يحفن التراب وينظف المكان بيديه، فلما رآه الصحابة والمسلمون حذوا حذوه، حتى طهّروا موضع الصخرة الشريفة، ثم أمر عمر ببناء مسجد عليها، فبُني في صورته الأولى من الخشب، وكان معه كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم، فشهد أن ما قام به عمر نبؤة في التوارة ذكرها أحد أنبياء بني إسرائيل قبل مجيء الإسلام بخمسة قرون[10].
تجوّل عمر في المدينة وشوارعها وأسواقها، وقرر أن ينظّم أحوالها وأحوال فلسطين الإدارية، حيث وضع الدواوين، وقسّم البلاد إلى مناطق، وعيّن لكل منطقة أميراً، كما عيّن قاضياً يحكم بين الناس، وأسس الحسبة على الأسواق وتطهير الشوارع والأزقة، وهدم البناء المحدث وسط الأسواق، وحظر على الناس الازدحام في الطرق، وبينما عمر منشغلاً في هذه الأمور والتفاصيل الإدارية، حتى قيل إنه قرر وضع التأريخ للمسلمين بعد فتحه لبيت المقدس، وكانت العهدة العمرية أول وثيقة مؤرخة هجرياً.
حرص عمر أيضاً على إقامة العدل ولو على المسلمين وكبار الصحابة أنفسهم، فقد جاءه رجل من أهل البلد يشكوه أن المسلمين أكلوا من عِنبه وكرْمِه دون إذنه، فوقف على القضية بنفسه، وعرف أن أصحابه جاعوا فأكلوا منها، فنهرهم ودفع لصاحب العنب حقّه، وحرّض أصحابه على العدل، ثم قرر الفاروق مغادرة المدينة المقدسة[11]، بعدما دخلت في حوزة المسلمين، ومنها انطلق عمرو بن العاص إلى فتح مصر، ثم شمال إفريقيا فيما بعد.
تلك قصة فتح القدس في العام 15 أو 16 من الهجرة النبوية، تلك المدينة التي اشترط أهلها وعلى رأسهم بطاركتها وقساوستها ألا يدخلها إلا خليفة المسلمين وقائدهم الأعلى، وقد قبل الصحابة ذلك، وكان دخول المسلمين والفاروق هذه المدينة المقدسة إيذاناً ببداية عهد جديد، فتح فيه المسلمون أذرعهم لأهل الأديان جميعاً دون تفريق، وكانت وجهتهم الأولى الصلاة في المسجد الأقصى وتطهير الصخرة المشرفة، لتكون لمن خلفهم درساً وتاريخاً ومقدساً لا يُنسى على مرّ الأيام والسنين!
المصادر
1- أبو عبد الله الواقدي: فتوح الشام 1/15.
2- ابن عساكر: تاريخ دمشق 2/126.
3- تاريخ الطبري 3/394- 408.
4- تهذيب وترتيب البداية والنهاية ص52.
5- أكرم ضياء العمري: عصر الخلافة الراشد ص373، 374.
6- البلاذري: فتوح البلدان ص140.
7- تاريخ الطبري 3/608.
8- تاريخ الطبري 3/608، 609.
9- عارف العارف: تاريخ القدس ص48.
10- تاريخ الطبري 3/610، 611.
11- عارف العارف: السابق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.