لأول مرة منذ نشأة الأمم المتحدة، يبدو أن الغرب بدأ يكتشف عيوب حق الفيتو في مجلس الأمن الذي طالما استخدمته الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة لصالحها وبالأكثر لمنع إدانة جرائم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، فهل يتجه الغرب لمراجعة أو تقييد حق الفيتو ضمن الإصلاحات المقترحة للأمم المتحدة.
ويستعد زعماء العالم لحضور سلسلةٍ من الاجتماعات رفيعة المستوى بالجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك خلال الأسبوع الجاري، بينما تواجه المنظمة أزمة ثقة كبيرة في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
إذ تواجه الأمم المتحدة عدداً متزايداً من الأزمات الإنسانية، بدايةً بالصدمات الاقتصادية الناتجة عن هجوم روسيا على أوكرانيا الذي تسبب في انعدام الأمن الغذائي العالمي، ووصولاً إلى الكوارث الطبيعية المميتة والمتزايدة التي أثارها تغير المناخ. ناهيك عن الصراعات الكارثية في سوريا وإثيوبيا مثلاً، والتي أبرزت محدودية قدرة الأمم المتحدة على التدخل دبلوماسياً لإحلال السلام.
يأتي كل هذا بالتزامن مع المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين التي تلقي بظلالها على مقرات الأمم المتحدة، بالتزامن مع قلق الدول الأعضاء حول العالم من فكرة جرهم إلى حربٍ باردةٍ جديدة.
وحذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في خطابٍ ألقاه قبيل اجتماعات الأسبوع الجاري من أن دول العالم "تتعرض للافتراس بواسطة أحماض القومية والمصالح الشخصية. بينما تلتقي الجمعية العامة في توقيتٍ بالغ الخطورة".
دعوات لإصلاح الأمم المتحدة
ووسط هذه الأزمات، ترتفع الأصوات داخل مقر الأمم المتحدة مناديةً بحاجة المجلس لإصلاحٍ جاد وعاجل. وتأتي أعلى الأصوات من جهة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن شخصياً، بما في ذلك سفيرته لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد. لكن لم يتضح بعد شكل الإصلاح المقترح، أو ما إذا كانت القوى الكبرى مثل روسيا والصين ستوافق على إجراء أي تعديلات من الأساس.
بينما قال ريتشارد غوان، مدير شؤون الأمم المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية: "أظهرت الأمم المتحدة أنها لا تتمتع بالمساحة السياسية لتحقيق مبادئ ميثاق الأمم المتحدة الأصلي في العديد من المناطق، مثل أفغانستان وشمال غرب سوريا وأوكرانيا. وأصبح دور الأمم المتحدة محصوراً في تقديم الإسعافات الجيوسياسية معظم الوقت الآن".
أمريكا لها اليد العليا في غياب بوتين والرئيس الصيني
وتتمتع الولايات المتحدة بأفضليةٍ في اجتماعات العام الجاري لأسباب تتعدى إقامة الجمعية العامة على أرضها. إذ لن يحضر الرئيس الصيني شي جين بينغ أو نظيره الروسي فلاديمير بوتين في العام الجاري، بعكس بايدن. مما يمنح الولايات المتحدة فرصةً من نوعها لفرض أجندة سياستها الخارجية على الخصوم بالتعاون مع بقية زعماء العالم.
ولا شك أن حشد الاستجابة العالمية للأزمة الأوكرانية يمثل أولويةً قصوى لإدارة بايدن في الجمعية العامة للعام الجاري. إذ قالت سفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد لمجلة Foreign Policy الأمريكية: "نريد تقوية دعم أوكرانيا هنا في الأمم المتحدة. ونريد مواصلة فرض العزلة على روسيا وإدانتها حتى تنتهي هذه الحرب غير المنطقية".
أخيراً.. الغرب اكتشف عيوب حق الفيتو بعد استخدام روسيا له بأزمة أوكرانيا
ويمكن القول إن الاستجابة للحرب الأوكرانية تمثل واحدةً من النقاط الدبلوماسية المضيئة القليلة للأمم المتحدة ومن يتولى قيادتها خلال العام الجاري، حسب مجلة Foreign Policy الأمريكية.
وفي هذا الصدد، قالت عقيلة راداكريشنان، رئيسة منظمة Global Justice Center الحقوقية: "رغم شلل مجلس الأمن بسبب وجود روسيا في عضويته، لكننا شهدنا استغلال النظام السياسي لكافة الأدوات المتاحة أمامه في محاولةٍ لفعل أي شيء على أقل تقدير".
وكانت الدول الغربية وأوكرانيا قد لجأت للجمعية العامة لبحث القضية الأوكرانية بعد أن منع الفيتو الروسي صدور قرار بشأنها من مجلس الأمن، وبالفعل تمكنت كييف والغرب من حشد الأصوات الكافية لإدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا.
الأمم المتحدة حققت بعض المكاسب مؤخراً
حقق غوتيريش بعض المكاسب الدبلوماسية على هامش الصراع منذ اندلاعه أيضاً، رغم تعرضه لانتقادات واسعة بسبب عدم فعله ما يكفي لتجنب الهجوم في البداية. حيث سافر إلى أوكرانيا في أبريل/نيسان للتفاوض على ممرٍ إنساني للمقاتلين والمدنيين الأوكرانيين العالقين في مصنع آزوفستال للصلب قرب مدينة ماريوبول. وتعاون غوتيريش مع تركيا لاحقاً للوساطة في صفقة بين روسيا وأوكرانيا من أجل السماح للموانئ الأوكرانية بتصدير السلع الغذائية الأساسية خارج البحر الأسود، مما خفف بعض صدمات سلسلة توريد الغذاء العالمية.
وأوضح غوان: "تبيّن أن غوتيريش كان واحداً من الزعماء القلائل الذين نجحوا في الخروج بتنازلات ولو بسيطة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين".
وحققت الأمم المتحدة بعض الإنجازات الدبلوماسية الأخرى خلال العام الماضي أيضاً. وشملت الإنجازات ما حدث في اليمن عندما نجح مبعوث الأمم المتحدة هانس غروندبرغ في التوصل إلى هدنةٍ دائمة بين الأطراف المتحاربة في البلاد وهي هدنة ما زالت صامدة حتى الآن رغم هشاشتها. بالإضافة إلى أفغانستان التي حافظت الأمم المتحدة على عمل مهمتها الإنسانية داخلها، وإن كان ذلك بقدرات محدودة.
وفي واقعة نادرة، أصدرت الأمم المتحدة الشهر الجاري تقريراً مطولاً يسرد تفاصيل قمع الصين لمسلمي الإيغور في سنجان. لكن الوثيقة التي وصلت إلى 45 صفحة صدرت قبل دقائق من نهاية فترة المفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة ميشيل باشيليت، ولم تذكر وصف "الإبادة الجماعية" مطلقاً.
ولكنها عاجزة أمام التغير المناخي وأزمة التيغراي
ومع ذلك، تعرضت الأمم المتحدة للعديد من الإخفاقات التي قد تغطي على إنجازاتها خلال اجتماع الجمعية العامة للعام الجاري.
وشملت الإخفاقات خيبة الأمل بسبب عدم إحراز تقدم كبير على صعيد الجهود الدولية لحل أزمة تغير المناخ، بالإضافة إلى الإخفاقات الدبلوماسية رفيعة المستوى التي حفّزت أشد منتقدي الأمم المتحدة وأثارت النقاشات حول إصلاح مجلس الأمن.
وفي الوقت ذاته، تتعرض اثنتان من أكبر مهمات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة للانتقادات بطريقةٍ تزيد من حدة أزمة الثقة التي تواجهها المنظمة. حيث واجهت بعثة حفظ السلام في مالي ونظيرتها في جمهورية الكونغو الديمقراطية انتقادات كبيرة من العواصم الأجنبية، بالإضافة إلى احتجاجات واسعة من السكان المحليين، لفشلهما في تلبية متطلبات المهمة الأساسية وتوفير الحماية للمدنيين أثناء الصراع.
وانتقد المدافعون عن حقوق الإنسان منظمة الأمم المتحدة أيضاً لأنها لم تفعل الكثير لحل حرب تيغراي القائمة منذ قرابة العامين في إثيوبيا. وقال المنتقدون إن مجلس الأمن لم يفعل شيئاً كذلك لحل الأزمة الجارية في ميانمار، حيث تولى المجلس العسكري السلطة في انقلاب العام الماضي وألغى تحول البلاد المتباطئ للديمقراطية، بعد تدبير عملية إبادة جماعية لأقلية الروهينغا المسلمة.
وأوضحت عقيلة: "لم نشهد أي تحرك كبير من الأمم المتحدة في ميانمار، حتى في أعقاب الإبادة الجماعية للروهينغا. ويمكن القول إن المنظمة تبعث برسالةٍ مستمرة مفادها أنهم ليسوا مهتمين بما يكفي للتورط في الأمر".
الغرب يريد إصلاح مجلس الأمن بمنح مزيد من حلفائه حق الفيتو!
فيما طرحت ليندا بعض بالونات الاختبار لجهود إصلاح جادة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة خلال الأشهر الأخيرة، وذلك في أعقاب الإخفاقات المتعددة السابق ذكرها. لكن إدارة بايدن لم تقدم الكثير من التفاصيل حتى الآن.
وتتضمن بعض الإصلاحات التي يجري نقاشها إضافة أعضاء دائمين جدد إلى مجلس الأمن، مثل الهند واليابان، أو تقليص عدد مرات استخدام حق النقض (حق الفيتو) للأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس. لكن لم يتضح بعد مدى الزخم الذي ستحظى به هذه المقترحات في مواجهة المعارضة الشديدة من بقية الأعضاء الدائمين والدول الأخرى.
وقدمت دولة ليختنشتاين، في 12 أبريل/نيسان 2022، مشروع قرار بشأن استخدام حق النقض "حق الفيتو" بمجلس الأمن الدولي، أعلنت واشنطن دعمها له، في قرار قال مراقبون إنه يستهدف بالدرجة الأولى روسيا، وفق ما ذكرته وكالة الأناضول.
يدعو القرار إلى عقد اجتماع تلقائي لأعضاء الجمعية العامة (193 دولة) في كل مرة يتم فيها استخدام حق النقض من قبل أي من الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي، دون توضيح الهدف من ذلك الاجتماع.
بالطبع لم يشر تقرير المجلة الأمريكية إلى حقيقة أن الغرب كان أكثر استخداماً لحق الفيتو من روسيا والصين، وأن الولايات المتحدة لطالما استخدمته مراراً لمنع إدانة جرائم إسرائيل وانتهاكاتها بحق الشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب العربية رغم وضوح أن الممارسات الإسرائيلية تخالف مبادئ القانون الدولي التي يتشدق بها الغرب.
"تكمن المشكلة في أن الجميع يريدون الإصلاحات. ولا توجد دولةٌ في العالم لم تُعرب صراحةً عن شعورها بحاجة الأمم المتحدة للتغيير من أجل مواكبة الواقع الحالي للعالم. لكن رؤية كل طرف لإصلاح الأمم المتحدة تختلف عن الآخر"، حسبما قال ريتشارد غوان، مدير شؤون الأمم المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية.
ولكن حتى الأطروحات الغربية لإصلاح الأمم المتحدة ومجلس الأمن لا تخلو من انحيازات الغرب المعتادة، فالدعوة لضم اليابان والهند لنادي العضوية الدائمة لمجلس الأمن ليست سوى تأكيد للهيمنة الغربية على القرار الدولي، فالدولتان حليفتان للغرب ومواقفهما متشابهة مع واشنطن خاصة في مواجهة الصين، بينما يتم تجاهل ضرورة ضم أي دولة إسلامية مثل إندونيسيا أو إفريقية مثل نيجيريا (ذات غالبية مسلمة أيضاً) إلى مجموعة الدول دائمة العضوية الدائمة بمجلس الأمن.
واليابان تحديداً بمثابة تابع مخلص للسياسة الأمريكية أكثر حتى من معظم الدول الأوروبية، وضمها لمجلس الأمن يعني أن واشنطن أصبح لها صوتان بالمجلس لديهما حق الفيتو بدلاً من صوت واحد.
أما الهند، فبالإضافة لصداقتها المتزايدة مع الغرب، فهي طرف في أزمة إشكالية وهي قضية كشمير التي ضمتها نيودلهي رغم أنف شعبها، ورغم مخالفة هذا الضم، للقواعد التي تم الاتفاق عليها مع باكستان لتأسيس الدولتين وتقسيم شبه جزيرة الهند بعد جلاء الاستعمار البريطاني عنها، على أساس أن تشكل الأقاليم ذات الأغلبية الهندوسية دولة الهند، بينما تشكل الأقاليم ذات الغالبية المسلمة دولة باكستان.
ولكن الهند لم تكتفِ بإهدار مبدأ حق تقرير المصير للشعب الكشميري، ولكنها ألغت الحكم الذاتي للإقليم مؤخراً، وباتت تنتهج سياسة تمييز فجة ضد المسلمين، باعتراف الغرب نفسه، ولذا يعد اقتراح منحها العضوية الدائمة في مجلس الأمن بمثابة مكافأة لها على هذه الانتهاكات.