عاد جو بايدن "للعب بالنار" في توقيت حساس للغاية، إذ تعهد مجدداً بأن الجيش الأمريكي سيدافع عن تايوان في حالة تعرضها للغزو، فهل يسعى الرئيس الأمريكي لاستفزاز الصين؟
ففي مقابلة بثتها شبكة CBS الأمريكية مساء الأحد 18 سبتمبر/أيلول، قال بايدن إن القوات الأمريكية ستدافع عن تايوان في حالة تعرضها لغزو صيني، وذلك في أوضح وأحدث تصريح للرئيس الأمريكي حتى الآن بشأن هذه القضية المفصلية بالنسبة لبكين.
ولدى سؤاله في مقابلة مع شبكة (سي. بي.إس) عما إذا كانت القوات الأمريكية ستدافع عن الجزيرة المتمتعة بحكم ذاتي والتي تعتبرها الصين إقليماً تابعاً لها قال: "نعم، إذا حدث في الواقع هجوم غير مسبوق".
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصرُّ على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر. ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
بايدن ومخالفة السياسة الأمريكية
هذه ليست المرة الأولى التي يدلي فيها الرئيس الأمريكي بتلك التصريحات، التي تعتبرها الصين "لعباً بالنار"، لكن التوقيت والتفاصيل التي أدلى بها بايدن تطرح تساؤلات بشأن ما تسعى الإدارة الأمريكية الحالية إلى تحقيقه من وراء مثل تلك التصريحات.
إذ عندما طُلب من جو بايدن توضيح ما إذا كان يقصد أنه على عكس الوضع في أوكرانيا ستقوم القوات الأمريكية بالدفاع عن تايوان في حالة حدوث غزو صيني قال بايدن: "نعم".
وكانت هذه أحدث مرة يتجاوز فيها بايدن السياسة التي أعلنتها أمريكا منذ فترة طويلة بشأن تايوان، ولكن تصريحاته خلال المقابلة كانت أوضح من التصريحات السابقة حول التزام القوات الأمريكية بالدفاع عن الجزيرة.
إذ تلتزم الولايات المتحدة منذ فترة طويلة بسياسة عدم توضيح ما إذا كانت سترد عسكرياً على أي هجوم على تايوان، أو ما يعرف بسياسة "الغموض الاستراتيجي"، خصوصاً أن واشنطن تعلن التزامها بسياسة "الصين الواحدة" طوال الوقت.
وهذا ما أكده بايدن نفسه خلال مقابلته مع الشبكة الأمريكية، إذ شدد على عدم دعم الولايات المتحدة استقلال تايوان وأنها لا تزال ملتزمة بسياسة "صين واحدة" التي تعترف فيها واشنطن رسمياً ببكين وليس تايبيه.
وفي هذا السياق، تنظر الصين إلى النظام الديمقراطي ذاتي الحكم في تايوان على أنه محافظة صينية منفصلة، ولم تستبعد استخدام القوة لتحقيق الوحدة، ووصلت التوترات بين بكين وتايبيه إلى ذروتها منذ عقود، في ظل إرسال الجيش الصيني عدداً قياسياً من الطائرات الحربية بالقرب من الجزيرة، في استعراض للقوة لا يخفى على دول المنطقة الأخرى.
وكالعادة، سعى فريق بايدن إلى التخفيف من وطأة تصريحات الرئيس، إذ قال متحدث باسم البيت الأبيض إن السياسة الأمريكية تجاه تايوان لم تتغير: "الرئيس قال هذا من قبل، بما في ذلك في طوكيو في وقت سابق من هذا العام. وقد أوضح أيضاً وقتها أن سياستنا تجاه تايوان لم تتغير. ولا يزال هذا صحيحاً"، بحسب رويترز.
المتحدث باسم البيت الأبيض يقصد ما صرح به بايدن خلال قمة "كواد" أو الرباعية، التي تضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، يوم 24 مايو/أيار في العاصمة اليابانية طوكيو، حين وجَّه أحد الصحفيين سؤالاً مباشراً للرئيس الأمريكي بشأن إذا ما كانت الولايات المتحدة ستتدخل عسكرياً للدفاع عن تايوان إذا ما هاجمتها الصين، فلم يتردد بايدن وأجاب قائلاً: "نعم".
كانت "نعم"، تلك الكلمة المكونة من ثلاثة حروف (بالإنجليزية والعربية أيضاً)، بمثابة زلزال جيوسياسي بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، أو هي "طلقة رصاص" انطلقت بالفعل، لكن لا أحد يمكنه الجزم بأين استقرت أو من قد تكون قتلت.
وقتها لم يتأخر الرد الصيني على تصريح بايدن، وقال مكتب شؤون تايوان التابع لمجلس الدولة الصيني إن الولايات المتحدة "تلعب بالنار"، وقال تجو فينغليان، وهو متحدث باسم المجلس الذي غالباً ما يُعتبر بمثابة الحكومة الصينية، إن الولايات المتحدة "تستخدم ورقة تايوان لاحتواء الصين وستحترق بنفسها".
ودعت بكين الرئيس الأمريكي إلى "عدم التقليل من شأن تصميمها الحازم" على "حماية سيادتها". وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وينبن أمام الصحفيين: "نطالب الولايات المتحدة بتجنب إرسال إشارات خاطئة إلى القوى الاستقلالية" في تايوان.
التوقيت السيئ والتوتر مع الصين
للتوقيت وزن كبير في الحياة عموماً، وفي السياسة وعلاقات الدول بصفة خاصة. ومن هذا المنطلق، من الصعب تصور أن تمر تصريحات الرئيس الأمريكي مرور الكرام على المسؤولين الصينيين، رغم عدم صدور ردود أفعال رسمية بشكل فوري.
فالعلاقات بين واشنطن وبكين في أدنى مستوياتها على الإطلاق، في أعقاب زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، إلى تايوان الشهر الماضي، والتي نتج عنها رد فعل صيني غير مسبوق تمثل في فرض حصار شبه كامل على الجزيرة ذات الحكم الذاتي، وفرض أمر واقع جديد في المنطقة.
ففي يوم 2 أغسطس/آب الماضي، أصبحت نانسي بيلوسي أول مسؤول أمريكي رفيع المستوى يزور تايوان منذ عقود، رغم ما سبق الزيارة القصيرة من تصعيد في الحرب الكلامية بين واشنطن وبكين، وصل إلى تهديد الصين باستخدام القوة العسكرية في حال أصرت بيلوسي على الزيارة.
وبعد أن تمت الزيارة، التي لم تستغرق سوى بضع ساعات، تغير كل شيء في مضيق تايوان، من خلال التدريبات العسكرية غير المسبوقة التي نفذها جيش التحرير الشعبي الصيني بأفرعه المختلفة وفرض من خلالها حصاراً كاملاً على الجزيرة، ليفرض وضعاً راهناً جديداً لم يكن له وجود منذ انفصال تايوان والصين عام 1947. وهذا الوضع الجديد ليس مقتصراً على تايوان فقط، بل على منطقة شرق آسيا بأكملها، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
إذ إنه قبل الزيارة كان لتايوان مياهها وأجواؤها الإقليمية، وكان دخول طائرات صينية إلى تلك الأجواء أو عبور سفن للمياه في مضيق تايوان بأقل من 12 ميلاً بحرياً من شواطئ تايوان يثير أزمة دبلوماسية كبيرة، وتجد بكين نفسها موضع اتهامات بأنها تسعى لتغيير الأمر الواقع بالقوة. وصحيح أن الصين كانت تفعل ذلك من وقت لآخر قبل الزيارة، لكن بأعداد محدودة من الطائرات وعلى فترات متباعدة، وكانت تتعرض لانتقادات شديدة.
أما بمجرد أن أقلعت بيلوسي من تايوان عائدة إلى الولايات المتحدة، اختلفت الأمور تماماً، فأعلنت الصين عن تدريبات عسكرية بالذخيرة الحية وعلى مستوى لم يحدث من قبل قط، وصفتها الأوساط العسكرية الغربية بأنها "تدريبات الصدمة والرعب". ومن المستحيل أن تكون تلك التدريبات بذلك الحجم والدقة، قد تم التخطيط لها قُبيل زيارة بيلوسي، بل الواضح أنها مُعدَّة منذ سنوات، فما الذي كانت تنتظره الصين كي تُجري تدريباً شاملاً على السيطرة على تايوان وتجاهل "مياهها وأجوائها" الإقليمية كما حدث؟ كانت الصين تنتظر "استفزازاً" يمثل غطاء لتدريباتها تلك، وجاءت زيارة بيلوسي لتقدم لها "ذلك الغطاء على طبق من ذهب".
وفي هذا السياق، تأتي التصريحات الأخيرة لبايدن، والتي يبدو أنها "استفزاز" مباشر للصين وتلويح بالقوة العسكرية الأمريكية، بحسب أغلب المحللين، وهو أمر من الصعب ألا يكون له تأثير على بكين، خصوصاً في هذا التوقيت.
فقبل أيام قليلة، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بزيارته الخارجية الأولى منذ عام 2020، حيث حضر قمة منظمة شنغهاي للتعاون في آسيا، والتقى خلالها نظيره الروسي فلاديمير بوتين، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل نحو 7 أشهر، وأعلن الزعيمان تدشين نظام عالمي جديد قائم على "التوازن".
الإعلان بطبيعة الحال موجه للغرب عموماً، وللولايات المتحدة بشكل خاص، ويعكس مستوى التعاون والتحالف الاقتصادي والعسكري بين موسكو وبكين، فيما يمكن اعتباره تدشيناً للحرب الباردة الجديدة بين المعسكرين. وبالتالي، ستختلف قراءة القيادة الصينية لتصريحات بايدن هذه المرة، وعلى الأرجح سيكون من الصعب اعتبارها واحدة من "زلات لسان" الرئيس الأمريكي التي لا تتوقف.
هل أمريكا قادرة عسكرياً على حماية تايوان؟
ربما يكون هذا هو السؤال الأهم في هذا الملف الشائك، والذي يتصدر المشهد في كل مرة يلوح بايدن باستعداد جيش بلاده للدفاع عن الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي في مواجهة أي "غزو" صيني، وتوصيف غزو هنا يبدو غريباً في حقيقة الأمر، كون واشنطن نفسها تعترف ضمنياً بأن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين.
لكن على أية حال، يرى بعض المراقبين أن تصريحات بايدن في هذا الشأن لا تساعد في تهدئة الأمور، ليس هذا فحسب، وإنما قد تمثل عنصراً سلبياً للغاية إذا لم تقترن بأفعال تؤكد جديتها.
"لو أن الرئيس بايدن يخطط فعلاً للدفاع عن تايوان، فعليه إذاً أن يتأكد أولاً أن الولايات المتحدة لديها الإمكانيات القادرة على تنفيذ ذلك"، بحسب ما قالته بوني غلاسر، خبيرة الشؤون الآسيوية في صندوق مارشال الأمريكي لصحيفة الغارديان البريطانية.
وأضافت غلاسر: "الدعم اللفظي غير المصحوب بقدرات حقيقية من غير المرجح أن يقوي عنصر الردع"، خصوصاً أن إصرار البيت الأبيض على عدم وجود تغيير في السياسة الأمريكية تجاه تايوان والالتزام بسياسة "صين واحدة" أصبح "مثاراً للتندر" بين المراقبين.
وفي هذا السياق، كانت التدريبات العسكرية الصينية، في أعقاب زيارة بيلوسي لتايوان، قد شهدت في مرحلتها الأخيرة تدريبات في البحر الأصفر شمال تايوان، الهدف منها التأكد من قدرة الجيش الصيني على منع أي قوات أمريكية متمركزة في اليابان أو كوريا الجنوبية من الوصول إلى تايوان لتقديم الدعم وقت الأزمة.
وهي تدريبات واستعدادات بدت موجهة بشكل مباشر إلى إدارة بايدن، في ظل حديث بايدن المتكرر عن أن "أمريكا مستعدة للتدخل عسكرياً للدفاع عن تايوان إذا ما هاجمتها الصين"، بينما في المقابل لا يبدو أن هناك تكثيفاً للوجود العسكري في المنطقة استعداداً لمواجهة قد تبدو وشيكة، قياساً على تصريحات الرئيس الأمريكي نفسه.
الخلاصة هنا هي أن "كلام" بايدن عن استعداد بلاده للدفاع عسكرياً عن تايوان لا تصاحبه أفعال تؤكده، فهل الهدف هو استفزاز الصين للإقدام على مهاجمة تايوان عسكرياً كما حدث في حالة روسيا وأوكرانيا؟