في 21 ديسمبر/كانون الأول 1898، اكتشفت "ماري كوري" وزوجها "بيير كوري" عنصر الراديوم المشع، وبعد خمس سنوات، فازا بجائزة نوبل في الفيزياء لاكتشافهما الجديد.
ولم تكن خصائص تلك المادة معروفة جيداً، ونظراً لاستخدامه بنجاح في علاج السرطان، اعتبر الكثيرون الراديوم "مادة علاجية معجزة"، وتم تصنيع مجموعة متنوعة من المنتجات التجارية التي كان الراديوم مكوناً فيها، بما في ذلك معجون الأسنان ومستحضرات التجميل.
وفي مجال صناعة الساعات المتوهجة في الظلام، وكانت الآثار الصحية للعاملين في هذا المجال والذي تعرضوا لهذه المدة بشكل مباشر كارثية بكل المقاييس، وكانت أشهرها قصة النساء اللواتي عملن في "شركة الراديوم الأمريكية"، المعروفات باسم "فتيات الراديوم".
ساعات مضيئة في الظلام تستخدم طلاء الراديوم
في الحرب العالمية الأولى ظهرت مشكلة في الخنادق ليلاً، حيث لم يتمكن الجنود الذين يزحفون في الوحل من رؤية الوقت في ساعاتهم في الظلام، لحل هذه المشكلة، بدأ صانعو الساعات في طلاء أرقام الساعة بطلاء الراديوم الخاص الذي كان يتوهج في الظلام.
وحصلت "شركة الراديوم الأمريكية"، على عقد من الجيش الأمريكي لإنتاج ساعات يد متوهجة للجنود. وبعيداً عن الجنود ، سرعان ما أصبحت هذه الساعات الجديدة مطلوبة من عامة الناس أيضاً.
في عام 1917، تم توظيف عشرات الفتيات أنفسهن محظوظات في ورشة تابعة لـ"شركة الراديوم الأمريكية" في مدينة أورانج في ولاية نيو جيرسي.
وكانت المهمة الرئيسية التي أُعطيت للسيدات هي وضع طلاء متوهج على وجوه الساعات، وبينما كان الرجال يرتدون مآزر الرصاص لحماية أنفسهم من الإشعاع، لأنهم كانوا يتعاملون مع كميات أكبر من الراديوم، لم تحصل النساء على أي شيء.
تم إخبار الفتيات أن الكميات القليلة من الراديوم مفيدة للصحة ولن تسبب أي ضرر، على الرغم من أن الزوجين "ماري وبيير كوري" أخبرا الجميع أن اكتشافهما كان خطيراً، بعد أن أصابت ماري نفسها بعدة حروق عندما تعاملت مع الراديوم بشكل غير صحيح.
لكن أصحاب الشركات الذين وجدوا في الاكتشاف الجديد فرصة لتحقيق الربح اعتقدوا أن ماري وبيير كوري تعرضا للضرر لأنهما كانوا يتعاملون مع كميات كبيرة من الراديوم النقي، وأن القليل من الراديوم لن يكون مضراً.
وخلال أوائل القرن العشرين، شرب مئات الآلاف من الناس ماء منشطاً مملوءاً بالراديوم، وغسلوا أسنانهم بمعجون أسنان راديوم، وارتدوا مستحضرات تجميل راديوم أعطت بشرتهم توهجاً مشرقاً ومبهجاً.
تسمم بالإشعاع وحالات سرطان سببها طلاء الراديوم
لعدة سنوات، كان العمل في مصنع الراديوم ممتعاً وبأجور جيدة جداً؛ لذلك شجع العديد من الموظفين أقاربهم من النساء على العمل في الشركة بحلول عام 1920. كان العديد من العائلات تعمل في "شركة الراديوم الأمريكية"، بلغ مجموع الموظفات حوالي 300 فتاة.
لم يمض وقت طويل قبل أن تبدأ "فتيات الراديوم" في الشعور بالأضرار الجسدية الناتجة عن تعرضهن للراديوم، من بين الأوائل كانت "أميليا ماجيا". كان أول أعراض ماجيا هو وجع الأسنان، الأمر الذي يتطلب إزالة السن، وسرعان ما كان لابد من خلع السن المجاورة لها، ظهرت تقرحات مؤلمة ونزيف مليء بالقيح في مكان الأسنان.
انتشر المرض الغامض في جميع أنحاء فم ماجيا والفك السفلي، والذي كان لا بد من إزالته، ثم إلى أجزاء أخرى من جسدها. توفيت ماجيا في 12 سبتمبر/أيلول 1922 إثر نزيف حاد. كان الأطباء في حيرة بشأن سبب حالتها، والغريب أنهم قرروا أنها ماتت بسبب مرض الزهري.
بأعداد متزايدة، أصيبت فتيات الراديوم الأخريات بمرض مميت، وعانين من نفس الأعراض المؤلمة مثل ماجيا، ولمدة عامين أنكرت الشركة أي علاقة بين وفاة الفتيات وعملهن.
محاكمة الشركة التي ردت بتشويه سمعة فتيات الراديوم
بسبب الجدل المتزايد، طلبت الشركة أخيراً إجراء دراسة مستقلة لهذه المسألة، والتي خلصت إلى أن سبب مرض ووفيات "فتيات الراديوم" يرجع لآثار التعرض للراديوم.
ورفضت الشركة قبول نتائج التقرير، وطلبت إجراء دراسات إضافية، وحرمت الفتيات اللاتي أصبن بالمرض، من أي تعويض ودفعوا الأموال للأطباء لتزوير التقارير والقول إن الفتيات يعانين من مرض الزهري المنتقل عن طريق الاتصال الجنسي.
على أمل ألا يؤدي ذلك إلى إبعاد وسائل الإعلام عن الشركة فحسب، ولكن أيضاً تلطيخ سمعة الفتيات، وإذا كان الأطباء الذين فحصوا بعض الفتيات غير مستعدين لتقديم ادعاءات كاذبة، فإنهم ببساطة يدفعون لهم عدم التحدث إلى وسائل الإعلام.
لم تكن مقاضاة "شركة الراديوم الأمريكية" أمراً سهلاً، كان لديهم الكثير من المال والصلات مع كل مستوى من مستويات الحكومة، ولا يريد المحامون أي دور في مثل هذه الدعوى. في الواقع، استغرقت "فتيات الراديوم" عامين كاملين للعثور على محامٍ مستعد لتولي قضيتهن، بينما استمرت صحتهن في التدهور.
تسويات خارج المحكمة وإرث فتيات الراديوم لعمال أمريكا
في عام 1925 طور أخصائي علم الأمراض يدعى "هاريسون مارتلاند" اختباراً أثبت بشكل قاطع أن الراديوم قد سمم رفتيات الراديوم من خلال تدمير أجسادهن من الداخل. حاولت الشركة تشويه النتائج التي توصلت إليها "مارتلاند"، لكن دون جدوى.
في عام 1927 وافق المحامي "ريموند بيري" على قبول قضية "فتيات الراديوم"، واللاتي كان لدى العديد منهن أشهر فقط للعيش، وأجبرن على قبول تسوية خارج المحكمة وأخذ تعويضات بسيطة.
ولا يمكن التقليل من شأن إرث فتيات الراديوم، لأن قضيتهن كانت من بين الحالات الأولى التي تم فيها تحميل شركة ما المسؤولية عن صحة وسلامة موظفيها، وأدت إلى مجموعة متنوعة من الإصلاحات بالإضافة إلى إنشاء "إدارة السلامة والصحة المهنية" في أمريكا.