أين المثقفون؟ سؤال يشغل الشارع السياسي المصري، فمنذ قيام ثورة "25 يناير" 2011 وما تلاها من أحداث في 30 يونيو/حزيران 2013، وهو سؤال تزداد الحاجة إلى إجابته يوماً بعد يوم، في ظل تفاقم سوء الأحوال السياسية والاقتصادية للبلاد.
معظم المثقفين المصريين، ثوريون، لكن ثوريتهم حنجورية، فلم يشاركوا في صنع ثورة ملهمة من قبل، بل تفاجأوا كما تفاجأ الجميع بثورة "25 يناير" التي جاءت من شباب ثار على أوضاع عفنة وأراد تغييرها.
بل نستطيع أن نقول إن معظم المثقفين تمت صناعتهم في أزمنة سابقة للتأكيد على شرعية النظام، وهذا بالطبع ينسحب على الغالبية العظمى منهم وليس كلهم بطبيعة الأمور. باختصار، كان وزير الثقافة المصري السابق محقاً بقوله إن المثقفين قد دخلوا الحظيرة، يقصد حظيرة الدولة ممثلة في وزارة الثقافة.
أزمة المثقفين
عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة الضباط الأحرار، وقعت أزمة ثقة كبيرة بين المثقفين من ناحية وضباط الجيش من الناحية الأخرى، على الرغم من أن المثقفين، في غالبيتهم، استقبلوها بترحاب كبير ورغبة منهم فى إيجاد زمن جديد.
لكن بمرور السنوات اتسعت الفجوة وهو ما استدعى أن يقوم الأستاذ محمد حسنين هيكل بكتابة 4 مقالات حول الصدام بين السلطة والمثقفين، جمعت بعد ذلك في كتاب "أزمة المثقفين" في العام 1961، بعد مرور 8 سنوات على قيام الثورة، يشرح ويحلل فيها أسباب الأزمة وشدد في البداية على "أن التلاقي والامتزاج بين ما أسميه قوة الدفع الثوري وبين ما يسمونه المثقفين أمر حيوي لتوسيع وتعميق مجرى العمل الثوري اندفاعاً إلى إقامة المجتمع الجديد". واستمر هيكل شارحاً أسباب أزمة المثقفين التي لخصها في ثلاث أزمات رئيسية كالتالي: "قامت الأزمة الأولى حول المطالبة بعودة الجيش لثكناته في أعقاب تصديه لتنفيذ ثورة 23 يوليو، وقامت الأزمة الثانية حول المطالبة بعودة الحياة النيابية وبعودة الأحزاب السياسية باعتبار أن ذلك في رأى المطالبين به هو أساس الديمقراطية وصورتها التي لا تتغير. وقامت الأزمة الثالثة حول ما أسموه في ذلك الوقت بالمفاضلة بين أهل الثقة وأهل الخبرة، وتركزت هذه الأزمة في الواقع حول تعيين بعض العسكريين في عدد من الشركات والهيئات والمؤسسات وفي وظائف يبدو أنها فنية بحتة لا تحتمل غير المتخصصين في أعمالها".
لكنه فجأة يشن هجوماً خاطفاً على المثقفين قائلاً: "في هذا كله أين كان المثقفون، وأين كان دورهم الطليعي في قيادة الجماهير، بعضهم بارتباطاته الطبقية كان يقف في الصف المعادي للجماهير، والبعض الآخر بحكم إيثار العافية على الأقل كان يقنع بالانزواء ويباشر رعايته لمصالحه الشخصية من غير تعرض غير مأمون العواقب لمجرى الأحداث".
وعلى الرغم من أن هيكل لم يكن الأول الذي تحدث عن أزمة المثقفين فقد سبقه إلى ذلك الأستاذ أحمد بهاء الدين والأستاذ لطفي الخولي وغيرهم، إلا أن مقال هيكل الأول حول الأزمة قوبل برد فعل هجومي مما دعاه لكتابة ثلاث مقالات أخرى شارحة لموقفه، عاتباً على المثقفين موقفهم غير الواضح من ثورة 23 يوليو ورغبتهم في التغيير بضمانات من الجيش دون أي تضحية منهم قائلاً: "إن الثورة ليست عملاً يمارس تحت ظل الأمان والضمان، إنما الثورة اندفاع إلى التضحية بدافع الإيمان". وعاب عليهم عدم إدراكهم للحظة التغيير قائلاً: "أفدح منه في تصوري خطأ المثقفين، الذين لم يدركوا حتى الآن أن التغيير المحتم الذي لا مفر منه، ليس هو مجرد تغيير رأس الدولة وإنما بداية تغيير المجتمع من أساسه".
وأكمل يقول: "ومضى هؤلاء وهؤلاء ينتظرون الأيام لعل الأيام تأتي معها بجديد، وراحوا في تبرير الانتظار يصورون لأنفسهم أنهم قليلو الحيلة على أية حال في مواجهة القوة القاهرة".
ثم يأتي إلى لب مطلبه من المثقفين باعتباره متحدثاً باسم السلطة، وشارحاً لمفهوم "الوعي" الذي تحدث عنه الرئيس جمال عبد الناصر قائلاً: "ولقد كان الدور الطبيعي الواجب للمثقفين، ليس مجرد أن يتعاونوا مع الثورة، وإنما أن يتفاعلوا مع الثورة وأن يتبنوا قضيتها، أن يأخذوها، أن يعطوها من فكرهم نظريتها الوطنية، أن يصوغوا من أعماق ضميرهم وعلمهم عقيدتها الثورية أي طريقها إلى التغيير الأساسي والجذري للمجتمع المصري".
من ميثاق العمل الوطني إلى الحوار الوطني
لم تكن 1961 سنة عادية، لا لأنها حملت الذكرى الثامنة لقيام الثورة، ولا الذكرى السادسة لأزمة مارس 1954، ولا هي بالطبع سنة أزمة المثقفين، ولكنها كانت تحمل في أحشائها حدثاً فريداً من نوعه في مصر الحديثة، حيث عقدت اجتماعات اللجنة التحضيرية "للمؤتمر الوطني"، حيث أجريت المناقشات بشأن طبيعة نظام الحكم، وبناء شرعية جديدة، وكذلك الشكل الاقتصادي للبلاد، وقد شارك في فعالياته كل الأطياف السياسية فيما عدا "أعداء الشعب".
وقد انتهى هذا المؤتمر بعد الأخذ بالمناقشات والتعديلات من خلال اللجان النوعية والقواعد الجماهيرية، إلى إقرار "ميثاق العمل الوطني" في 30 يونيو 1962، كوثيقة استرشادية لطبيعة عمل الدولة خلال 10 سنوات وقد فسر الرئيس عبد الناصر ذلك قائلاً: "بنعمل محاولة.. بنقدم مشروع للميثاق الوطني بيبقى دليلنا للعمل، بعد كده كل سنة بنغير، لأن النظرية أو ميثاق العمل الوطني لن يكون إلا نتيجة لدراسة مشاكل المجتمع"، كما ذكر شريف يونس في كتاب "نداء الشعب: تاريخ نقدي للأيديولوجيا الناصرية".
وكان اللافت هو تأطير أو إدماج المثقفين داخل صلب الدولة الجديدة، وقد انقسموا لقسمين، الأول سارع بالاندماج لطبيعته المتعلقة بسلطة الحكم أياً ما كان الحاكم كما كان قبل ثورة 23 يوليو، والثاني انضم بعدما تيقن من صدق النوايا أو أن التجربة مع النظام الجديد إن لم تفِد فهي لن تضر حتماً.
وأصبح المثقفون السلبيون كما هم، آثروا السلامة كما في كل عهد خوفاً من دفع فواتير لا يقدرون عليها.
إعادة تدوير الماضي
بعد قيام ثورة 25 يناير 2011 وما تلاها، بدا واضحاً أننا نعاني من أزمة مثقفين متجددة، وأن الثورة فاجأتهم كما فاجأتهم حركة الجيش 1952، فلم يستطيعوا ملء الفراغ بين السلطة والجماهير، ولم يبشروا بثورة ولا أعدوا لها، وأنهم في غالبيتهم لم يخرجوا عن الثلاث فئات التي ذكرها هيكل، حيث فئة مع سلطة الحكم تحافظ على مكتسباتها الطبقية والوظيفية، وفئة مارست الفعل الحزبي دفاعاً عن مكاسب حزبية، وفئة ثالثة آثرت البعد عن السياسة وتفضيل العمل في القطاعين العام والخاص من أجل سلامتها لما في العمل العام من مشاكل سياسية وأمنية.
لهذا جاءت سنة 2022، لتعيد تدوير ما حدث في العام 1961، فدعوة الرئيس السيسي للحوار الوطني تشبه دعوة جمال عبد الناصر، والملفات المطروحة للنقاش هي ذاتها تقريباً، حتى المثقفين يعيدون نفس مطالبهم القديمة؛ تحكم الجيش في مفاصل الدولة، وتنظيم جديد للعملية السياسية والحزبية وفتح المجال للكفاءات بعيداً عن أهل الثقة، ولكن مجدداً تصطدمهم إجابة هيكل القديمة الباقية: "أين كان المثقفون، وأين كان دورهم الطليعي في قيادة الجماهير".
مشاركة المثقفين في الحوار الوطني الجاري تبدو غير واضحة المعالم، حيث إن المثقفين المتحلقين حول السلطة كانوا بطبيعة الأمر هم الأسبق للمشاركة في الحوار الوطني. أما المثقفون غير المدعوين للحوار يجلسون على مقاعد الانتظار لا يحركون ساكناً، لأنهم لم يدركوا أن الذي يجري في مصر فيه مفاصلة تامة عما سبق، ولا يدرون أن تبرير الصمت بالقوة القاهرة للمؤسسات الأمنية بات حجة بالية.
لم تدع الأحداث الجسام أية خيارات أمام المثقفين المصريين، الذين لم يتطوروا خارج حاضنة الدولة المصرية منذ ثورة يوليو 1952، فلم يعد لديهم إلا خياران وحيدان، الأول وهو الاندماج داخل الدولة وفق مخرجات "الحوار الوطني" كما حدث مع مخرجات "المؤتمر الوطني" من قبل، الثاني الحديث عن عمل وطني موازٍ لفكر الدولة الجديدة تكون نتيجته الوصول لحالة جديدة، ولكن هذا الخيار الثاني يصطدم بطبيعة المثقف المصري طوال السنوات السابقة التي تفضل إعادة تدوير الماضي على التفكير في المستقبل وتبعاته.
خاتمة
يبدو أننا نعيش مرحلة مهمة، ليس لأن هناك جديداً يلوح في الأفق، ولكن لأننا نشهد أكبر عملية إعادة تدوير لأفكار الماضي بنفس آليات العمل، وللمصادفة البحتة بنفس أطراف الصراع وإن تغيرت الأسماء، السلطة التي تمسك بزمام الأمور التي ملأت فراغ السياسة من جهة، والمثقفين والأحزاب السياسية من الجهة الأخرى، بينما تم استبعاد "أعداء الوطن".
إذا كان المثقفون المصريون يريدون أن يلحقوا بالمستقبل فعليهم بلورة رؤية واضحة لشكل العلاقة داخل البلاد بين السلطة والجماهير، تعبر عن الآمال والطموحات وشكل المستقبل الذي نريده، وعليهم أن يتركوا ساحات السوشيال ميديا ويلتحموا بالجماهير، وأن لا تتعلق آمالهم بضمانات تعطيها لهم السلطة نهاراً قبل أن تأكلهم ليلاً. وحتى يتحقق ذلك ستظل أزمة المثقفين المصريين "كلاكيت تاني مرة" لإشعار آخر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.