أعلنت بريطانيا الحداد بعد موت الملكة إليزابيث الثانية مساء الخميس 8 سبتمبر/أيلول 2022، وعبّر كثيرون حول العالم عن حزنهم لفقدان الملكة البالغة من العمر 96 عاماً، لكن في المقابل شهدنا احتفالات بهذا الموت في أماكن مثل إيرلندا والأرجنتين، وعبر كثير من الأفارقة عن رفضهم الحداد على ملكة اعتبروها رمزاً إمبريالياً ووجهاً من وجوه الاستعمار.
إليزابيث الثانية.. في خدمة الإمبريالية
حكمت العائلة المالكة البريطانية العديد من "مستعمرات التاج" على مر السنوات، من ضمنها هونغ كونغ التي كانت مستعمرة بريطانية منذ 1842، والهند منذ 1858 وجامايكا منذ 1866.
وعلى الرغم من أن عدداً من هذه المستعمرات نالت استقلالها قبل وصول الملكة إليزابيث الثانية إلى العرش، فإن الملكة ورثت عن أجدادها مع ذلك عدداً لا يستهان به من المستعمرات التي كانت واقعة تحت حكم "الإمبراطورية البريطانية".
وخلال فترة حكم إليزابيث الثانية التي امتدت 70 عاماً، تفككت تلك الإمبراطورية التي استعمرت أجزاء واسعة من العالم، وتمكنت 50 دولة من الحصول على استقلالها.
في عام 1947، احتفلت إليزابيث بعيد ميلادها الحادي والعشرين خلال جولة ملكية في مستعمرات بريطانيا بجنوب إفريقيا، وألقت خطاباً قالت فيه: "سأهب حياتي كلها، سواء كانت قصيرة أو طويلة، لخدمتكم وخدمة عائلتنا الإمبريالية العظيمة التي ننتمي لها جميعاً".
وعندما تُوجت ملكة تم تتويجها في دير ويستمنستر عام 1953، تم تصوير إليزابيث البالغة من العمر 25 عاماً آنذاك، على أنها طائر الفينيق الذي سينهض ببريطانيا العظمى.
هل الكومنولث لا يشبه إمبراطوريات الماضي حقاً؟
بعد توليها العرش أصبحت إليزابيث الثانية رئيسة لـ"الكومنولث" وهو اتحاد يضم بريطانيا وجميع مستعمراتها. وفي خطابها الذي ألقته عند توليها المنصب عام 1953، أصرت الملكة على أن "الكومنولث لا يشبه إمبراطوريات الماضي"، إلا أن التاريخ يشير إلى عكس ذلك، إذ لم يتغير وضع المستعمرات البريطانية ولم تحصل الدول الخاضعة للتاج على استقلالها إلا بعد كفاح مرير.
ويجدر بالذكر أن الكومنولث لا يزال قائماً إلى اليوم على شكل اتحاد سياسي يضم 54 دولة كانت جميعها تقريباً أقاليم سابقة للإمبراطورية البريطانية ويرأسه اليوم الملك تشارلز الثالث خلفاً لوالدته الملكة إليزابيث الثانية، ويعتبر هذا الاتحاد وسيلة للحفاظ على نفوذ بريطانيا الدولي.
وقبل نيل العديد من دول الكومنولث استقلالها كانت مجرد مستعمرات تابعة للتاج البريطاني، ولم ينل أبناؤها الاستقلال إلا بعد كفاح مرير.
نعرفكم في هذا التقرير على أبرز السياسات القمعية التي انتهجتها بريطانيا في عهد الملكة إليزابيث:
سياسة الأرض المحروقة في "الملايو"
أعلنت حالة الطوارئ في "الملايو"- الواقعة في ماليزيا اليوم- لمدة 12 عاماً قتل فيها الجيش البريطاني الآلاف واعتقل وجوّع مئات الآلاف من السكان الأصليين.
بدأ الكفاح المسلح لجيش التحرير الوطني الماليزي قبل استلام إليزابيث الثانية الحكم بأربع سنوات، واستمر قرابة 8 سنوات.
واشتعلت حرب عصابات بين القوات المسلحة البريطانية والجيش الوطني الذي كان يسعى إلى الاستقلال عن الحكومة الاستعمارية البريطانية.
ورداً على هجمات جيش التحرير الماليزي، أعلنت السلطات البريطانية حالة الطوارئ عام 1948، مما أدى إلى حرب استمرت 12 عاماً استعملت فيها بريطانيا سياسة الأرض المحروقة.
فقد أضرم الجيش البريطاني النار في المنازل والأراضي الزراعية المملوكة لأولئك الذين يشتبه في أن لهم صلات بالحركة الوطنية الهادفة إلى الاستقلال، وتم نقل ما بين 400 ألف ومليون شخص إلى معسكرات اعتقال بريطانية أطلق عليها اسم "القرى الجديدة".
ومع حلول عام 1960 كان نحو 6700 مقاتل وأكثر من 3000 مدني قد فقدوا حياتهم في الحرب.
160 ألف كيني في معسكرات الاعتقال البريطانية
كانت أجزاء واسعة من إفريقيا واقعة تحت وطأة الاستعمار البريطاني، ولعل عملية "قمع تمرد ماو ماو" كانت من أبشع المجازر التي ارتكبها الجيش البريطاني في عهد الملكة إليزابيث الثانية.
بدأت القصة عام 1952، أي قبل عام واحد من تولي إليزابيث الحكم. إذ أطلقت مجموعة من المسلحين في كينيا انتفاضة مناهضة للاستعمار، تستهدف المستوطنين البيض والموالين للاستعمار من الأفارقة، وقد عرّف هؤلاء المسلحون أنفسهم باسم "متمردي ماو ماو".
كانت هذه الانتفاضة رداً على عقود من الاستعمار البريطاني لكينيا، نهب البريطانيون خلالها كثيراً من الأراضي من السكان الكينيين لإعطائها للمستوطنين البيض، مما أجبر السكان المحليين على العمل بأجور منخفضة في مزارع المستوطنين.
وكثيراً ما ناشدت المنظمات القومية، مثل الاتحاد الإفريقي الكيني، السلطات البريطانية من أجل الإصلاح الزراعي والمساواة في الحقوق السياسية، ولكن دون جدوى.
وبحلول أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام، نقل البريطانيون تعزيزات عسكرية إلى كينيا لإخماد هذه الانتفاضة. وشنوا حملة وحشية لمكافحة التمرد، وألقوا بأكثر من مئة ألف كيني في معسكرات الاعتقال، حيث تعرضوا للاستجواب والتعذيب والضرب والاعتداء الجنسي.
استمر القمع على مدار 8 سنوات لاحقة، ومع حلول عام 1960، كان هناك ما يقارب 90 ألفاً من الضحايا الكينيين ما بين قتلى ومشوهين، فضلاً عن 160 ألف كيني محتجز في معسكرات الاعتقال، وفقاً للجنة حقوق الإنسان الكينية.
لكن، وعلى الرغم من هزيمة "ماو ماو"، لعب التمرد دوراً رئيسياً في تحقيق استقلال كينيا عام 1963.
ويذكر أن قبيلتي تالاي وكيبسيجيس في كينيا تسعيان اليوم للحصول على تعويضات بقيمة 200 مليار دولار من الحكومة البريطانية كتعويض عن سرقة الأراضي والجرائم الاستعمارية.
دعم سري للملكيين في اليمن
في عام 1962 وبعد وفاة الحاكم بأمر الله أحمد بن يحيى، ملك اليمن، استولى قوميو الجيش العربي بدعم شعبي وبدعم من الجيش المصري بقيادة جمال عبد الناصر، على السلطة وأعلنوا قيام الجمهورية اليمنية. لكن، في الوقت ذاته، شن الملكيون هجوماً مضاداً لاستعادة السلطة بدعم من المملكة العربية السعودية وإسرائيل والأردن وبريطانيا، وفقاً لما ورد في موقع liberationnews.
وعلى الرغم من أن بريطانيا- التي كانت تحت حكم الملكة إليزابيث آنذاك- قد انتهجت سياسة عدم التدخل في اليمن على العلن، فإنها قدمت الدعم للملكيين بتزويدهم بطائرات مقاتلة لتنفيذ غارات جوية على البلاد، فضلاً عن ملايين الجنيهات التي كرستها بريطانيا لدعم الملكيين بالأسلحة.
تجدر الإشارة إلى أن المسؤولين البريطانيين اعترفوا بأن الملكيين الذين دعموهم لديهم فرصة ضئيلة للفوز. كانت الاستراتيجية، كما أخبر رئيس الوزراء آنذاك هارولد ماكميلان، الرئيس الأمريكي جون كينيدي، هي ضمان أن "النظام اليمني الجديد مشغول بشؤونه الداخلية الخاصة خلال السنوات القليلة المقبلة"، وأن الهدف النهائي هو "حكومة ضعيفة في اليمن غير قادرة على إثارة المتاعب".
وكما كان متوقعاً، خسر الملكيون الحرب أمام الجمهوريين في عام 1969، وبحلول ذلك الوقت قتل ما يقدر بنحو 200.000 شخص.
الأحد الدامي (30 يناير/كانون الثاني 1972)
في 30 يناير/كانون الثاني 1972، وخلال مسيرة في أيرلندا الشمالية، فتح الجيش البريطاني النار على حشد من المتظاهرين، حيث أصيب 26 شخصاً توفي 14 منهم متأثرين بجراحهم، وأطلق على هذا اليوم اسم "الأحد الدامي".
وكانت جمعية الحقوق المدنية في أيرلندا الشمالية قد نظمت المسيرة رداً على التشريع الذي أقرته الحكومة البريطانية في أغسطس/آب 1971، والذي سمح للسلطات بسجن القوميين الأيرلنديين المشتبه بهم دون محاكمة.
وكان "الأحد الدامي" إحدى العلامات الفارقة في كفاح الأيرلنديين ضد الحكومة البريطانية، فقد أشعل أعمالاً انتقامية استمرت حتى مطلع الثمانينيات.
ويذكر أن الجيش الجمهوري الأيرلندي خاض صراع تحرير وطني استمر 30 عاماً ضد القوات شبه العسكرية البريطانية والجيش البريطاني من أجل الاستقلال.
العدوان الثلاثي على مصر
وبالتعريج على المنطقة العربية نجد أن هناك كثيراً من الأحداث الدامية التي وقعت خلال فترة حكم الملكة إليزابيث الثانية، أبرزها العدوان الثلاثي على مصر.
بدأت القصة في 26 يوليو/تموز من عام 1956، عندما قام الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر بتأميم شركة قناة السويس، التي كانت تسيطر عليها كل من فرنسا وبريطانيا.
كانت قناة السويس ذات أهمية عظيمة لبريطانيا على وجه الخصوص، فقد قدمت قناة السويس لبريطانيا طريقاً بحرياً أقصر إلى إمبراطوريتها. ومع بزوغ القرن العشرين وازدياد أهمية النفط، وفرت القناة طريقاً بحرياً قصيراً إلى حقول النفط في الخليج العربي.
لذلك كان قرار تأميم القناة يشكل تهديداً للمصالح البريطانية في مصر، وينذر بتقليص نفوذها في المنطقة، فتعاونت بريطانيا مع كل من فرنسا وإسرائيل لشن هجوم على مصر عُرف باسم "العدوان الثلاثي".
وكان من تبعات الحرب استقالة رئيس الوزراء البريطاني أنتوني إيدن، وأجبر البريطانيون على إنزال العلم البريطاني من فوق مبنى هيئة قناة السويس ببورسعيد والذي كانت قوات العدوان تتخذه مقراً للقيادة، وفي 22 ديسمبر/كانون الأول 1956 غادر آخر جندي من القوات البريطانية والفرنسية الأراضي المصرية، ويرى المؤرخون أن تلك الحرب مثلت "نهاية وضع بريطانيا العظمى كواحدة من القوى العظمى في العالم".
جزر فوكلاند في الأرجنتين
قام نزاع بين الأرجنتين والمملكة المتحدة عام 1982 على جزر فوكلاند الواقعة في المحيط الأطلسي والتي تبعد عن بريطانيا 8000 كم بينما تبعد عن الأرجنتين 1000 كم فقط.
وقد كانت جزر فوكلاند مستعمرة بريطانية منذ عام 1841 لكن الأرجنتين أصرت على استعادة هذه الأراضي باعتبارها تابعة لها.
بدأ النزاع عندما غزت الأرجنتين جزر فوكلاند واحتلتها، وتلا ذلك غزوها لجورجيا الجنوبية في اليوم التالي؛ في محاولة لإثبات سيادتها على هذه الأقاليم.
في المقابل أرسلت الحكومة البريطانية فرقة عمل بحري للاشتباك مع سلاح الجو والقوات البحرية الأرجنتينية، قبل شن هجوم برمائي على الجزر.
استمر النزاع 74 يوماً، وانتهى باستسلام الأرجنتين في 14 يونيو/حزيران، وعادت جزر فوكلاند للسيطرة البريطانية، بعد أن قُتل في الصراع 649 عسكرياً أرجنتينياً مقابل 255 عسكرياً بريطانيّاً، وقُتل خلال النزاع أيضاً ثلاثة مدنيين من جزر فوكلاند.