مفاجأة فجّرها وزير الخارجية المصري سامح شكري، عندما انسحب أمام الكاميرات من اجتماع وزراء الخارجية العرب فور تولي وزير خارجية ليبيا نجلاء المنقوش رئاسة الاجتماع احتجاجاً على توليها رئاسة مجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية.
ورغم أن اجتماعات الجامعة العربية مشهورة بالخلافات التي تقع في اجتماعاتها، خاصة وراء الكواليس، ولكن نادراً ما تصل للانسحاب.
وأثار هذا المشهد تساؤلات حول كيف كان يتم التعامل مع التمثيل الليبي بالجامعة العربية في السنوات الماضية، وكذلك ما السبب في وصول الأزمة لهذا المستوى؟ وهل تستحق مسألة من يمثل ليبيا في الاجتماع أو من يترأس مجلس الجامعة أن تنسحب أكبر دولة عربية وبلد المقر من اجتماع بالجامعة العربية من أجلها؟
وكان وزير الخارجية المصري، سامح شكري، والوفد المصري المشارك في اجتماع الدورة الـ158 لمجلس الجامعة العربية، التي عقدت في 6 سبتمبر/أيلول 2022 بمقر الجامعة العربية بالقاهرة، قد دخل كآخر وفد عربي إلى الجلسة الافتتاحية، حيث جلس بجانب الوفد الليبي برئاسة المنقوش بحكم الترتيب الأبجدي.
واستمع شكري إلى كلمة وزير الخارجية اللبناني، عبد الله بوحبيب، رئيس الدورة الـ157 السابقة، وعندما أعلن بوحبيب تسليم رئاسة الجلسة إلى وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، وقف الوفد المصري برئاسة شكري ثم خرج منسحباً من القاعة.
بينما توجهت المنقوش إلى المنصة لتلقي كلمتها، التي أشارت فيها إلى أنها أول سيدة عربية تترأس اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب، معربة عن اعتزازها بذلك، ودعت إلى إجماع عربي حول إجراء الانتخابات الليبية، ولم تشر إلى انسحاب الوفد المصري، ولكنها نوهت بأن الجامعة العربية أصدرت قراراً بدعم موقف مصر والسودان في حقوقهما المائية وأزمة سد النهضة.
وبعد رفع الجلسة العلنية وبدء الجلسات المغلقة لمجلس الجامعة العربية، أفادت تقارير بعودة الوفد المصري إلى الاجتماعات.
مصر لم تقبل رئاسة نجلاء المنقوش لمجلس الجامعة العربية
ونجلاء المنقوش هي وزير الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدُبَيْبة، التي تم تشكيلها من قبل ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي رعته الأمم المتحدة فبراير/شباط 2022.
وكان هناك خلاف قد سبق الاجتماع بين مصر والجانب الليبي بشأن تمثيل نجلاء المنقوش لليبيا في الاجتماع، حيث تعتبر مصر أن حكومة الوحدة الوطنية، حكومة منتهية الولاية، وذلك في مؤشر على اعتراف القاهرة بحكومة باشاغا باعتبارها مختارة من مجلس النواب (علماَ بأن المجلس نفسه شرعيته مشكوك فيها، بحكم عدم التزامه باتفاق الصخيرات الذي يكتسب منه شرعيته، إضافة للشكوك حول اكتمال نصاب الاجتماعات).
كما أعلنت حكومة وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، التي يعتقد أنها مدعومة من حليف مصر اللواء المتقاعد خليفة حفتر، اعتراضها على تمثل المنقوش لليبيا في الاجتماع.
وجرت محاولات لحل الخلاف على مدار الأيام الماضية، خاصة من قبل اجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين، الذي عقد قبل أيام، مما أوصل الخلاف إلى يوم اجتماع وزراء الخارجية العرب دون الحل، حيث عقد الوزراء اجتماعاً تشاورياً لبحث الموضوع.
وأفادت تقارير بأن مصر عرضت كحل وسط أن تقبل أن يكون وكيل وزير الخارجية الليبية التابعة لحكومة الدبيبة هو رئيس وفد ليبيا، ولكن دول عربية أخرى رفضت أن يترأس وكيل وزارة اجتماعاً وزارياً باعتباره أمراً مخالفاً لبروتوكول وأعراف الجامعة العربية، ورفضت ليبيا بدورها التنازل عن رئاسة هذه الدورة لدولة أخرى.
وقال المتحدث باسم الخارجية المصرية، أحمد أبو زيد، إن سبب مغادرة شكري والوفد المرافق له الجلسة الافتتاحية لمجلس وزراء الخارجية العرب هو تولي نجلاء المنقوش، الممثلة لحكومة منتهية ولايتها رئاسة أعمال مجلس وزراء الخارجية العرب.
وأفاد بأن هذا الموضوع كان محل نقاش في الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب قبل بدء الجلسة الرسمية.
تكليف الجامعة العربية بحل الخلاف
من جانبه، قال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط: إن الاجتماع الوزاري طلب تكليف الأمانة العامة بإعداد ورقة قانونية، بالصلاحيات حول مسألة التمثيل الليبي، وسوف يتم إعدادها وإرسالها للدول الأعضاء تحمل كل الرؤى المختلفة.
وعبّر رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، خالد المشري، عن استغرابه من تصرف وزير خارجية مصر في جلسة مجلس الجامعة العربية، واعتبره مخالفاً للأعراف الدبلوماسية.
من جهتها، قالت وزيرة الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش، إن "انسحاب وزير خارجية مصر نحترمه، ولكن لا نتفق معه؛ لأنه مخالف لميثاق الجامعة العربية، ومخالف لقرارات مجلس الأمن"، حسب قولها.
وأكدت المنقوش في مؤتمر صحفي قصير عقدته بمقر الجامعة في القاهرة، عقب ترؤسها اجتماع وزراء الخارجية العرب أن حكومة الوحدة الوطنية مدعومة دولياً بمواثيق دولية، وهي الحكومة الوطنية الانتقالية الأخيرة وصولاً للانتخابات، وأن ترؤسها للاجتماع يتفق مع ميثاق الجامعة العربية.
ورأت أن "هذا الانسحاب لا يمثل وجهة نظر بعض الزملاء الآخرين (لم تسمهم)، ونتمنى أن نصل لاتفاق في وقت قريب، وأن يكون هناك نوع من الحوار في هذه المسألة".
وكان لافتاً إلى أن الوزيرة الليبية لم تشر على الإطلاق لحكومة باشاغا لا بالسلب ولا بالإيجاب، وشددت على أن هدف حكومة الوحدة الوطنية هو إجراء انتخابات في البلاد، في إشارة إلى أنها سوف تسلم السلطة لحكومة منتخبة فقط.
لماذا أصرت القاهرة على تصعيد الأزمة؟
لا يظهر الموقف المصري فقط مقدار التأييد القوي من القاهرة لحكومة باشاغا، بل قد يظهر وجود دور أكبر مما يبدو لمصر في تشكيل هذه الحكومة، خاصة عبر حليفها خليفة حفتر، وهو أمر قد يؤدي على الجانب الآخر، لتعزيز بعض الدول المعنية بالملف الليبي لدعمها لحكومة الدبيبة (مثل الجزائر).
ومن الواضح أن القاهرة، رأت في ترؤس المنقوش للاجتماع، وخاصة أنها أول سيدة تحقق ذلك مع شخصيتها المثيرة للجدل أو الانتباه، سيمثل مكسباً كبيراً لحكومة الدبيبة في منافستها لحكومة باشاغا، خاصة أنه لو سحبت الجامعة العربية أو قللت اعترافها بحكومة الدبيبة، فإن ذلك سوف يكون له بعض التأثير على الدول المعنية بالشأن الليبي وخاصة تلك التي لم تحسم موقفها من الصراع الحالي.
فالجامعة العربية مهما تراجع أداؤها ما زالت من الناحية البروتوكولية مؤسسة ذات تأثير معنوي كبير، وباباً محتملاً لنيل الدعم والاعتراف الدبلوماسي والسياسي لأي كيانات أو دول تواجه مشكلات سياسية، وليس غربياً أن يسارع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف المحاصر دبلوماسياً من قبل الغرب إلى إلقاء كلمة أمام الجامعة العربية مؤخراً.
ولهذا لم يكن غريباً أن يبدي أعضاء ومؤيدي حكومة الدبيبة سعادتهم بترؤس المنقوش للاجتماع، واعتباره انتصاراً للمرأة الليبية ولحكومة الوحدة الوطنية، ولكن دون أن يعمدوا لاستفزاز القاهرة.
كيف كانت تتعامل مصر مع ممثلي الحكومات الليبية بالاجتماعات العربية السابقة؟
وكان هناك عدة أمور لافتة في هذه الأزمة: الأولى أنه هذه ليست أول مرة تمثل ليبيا في اجتماع عربي بشخصية تمثل حكومة على خلاف مع القاهرة، ولكن الأمور لم تتصاعد أبداً لهذا الحد، أو بالأحرى لم ترد القاهرة بهذه الحدة.
فحكومة الوفاق السابقة، والتي كان معترف بها دولياً، كانت قد وصلت العلاقة بينها وبين مصر إلى توتر كبير في بعض الفترات، خاصة عندما هاجم اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر طرابلس بدعم مصري إماراتي.
ولكن في ذروة هذه الأزمات كان الدبلوماسيون الذي يمثلون حكومة الوفاق، هم من يشاركون في اجتماعات الجامعة العربية (وليس حكومات الشرق الليبي التابعة لحفتر)، ومع أنه كان هناك تقارير أحياناً عن رفض مصري لذلك، فإن الأمر لم يصل لمشكلة أبداً، وتعاملت القاهرة مع الأمر الواقع بهدوء، وكثيراً ما كانت تشهد الجلسات نقاشاً بين ممثلي مصر وممثلي حكومة الوفاق، علماً بأن علاقة القاهرة حالياً بحكومة الدبيبة أقل توتراً بكثير من فترات الخلاف الكبرى بين القاهرة وحكومة الوفاق.
الأمر الثاني أن المواقف المصرية عادة في الجامعة العربية تحظى بدعم خليجي، بالأخص السعودية والإمارات والبحرين، وبصورة أقل سلطنة عمان والكويت.
وفي الأزمة الليبية بالتحديد كان هناك تحالف مصري إماراتي داعم لحفتر ومعارض لحكومات طرابلس (وهو تحالف كان يلقى تأييد خافتاً من قبل بعض دول الخليج والأردن).
وبصفة عامة غالباً ما يكون هناك تنسيق مصري مع بعض دول الكتلة الخليجية في الجامعة خاصة السعودية والإمارات والبحرين، والدعم الخليجي التقليدي لمواقف مصر، يجتذب بعض حلفاء دول الخليج الأخرين مثل اليمن وجيبوتي وأحياناً الأردن وفلسطين التي تربطهما علاقة قوية بمصر، ويشكل هذا كتلة ضاغطة قوية في صالح المواقف المصرية والخليجية.
ولكن في الأزمة الحالية بدا أن مصر هي المعترض الرئيسي على مشاركة المنقوش، ومع أنه قد يكون هناك دول أخرى قد أيدت موقف القاهرة، ولكن التسريبات من الاجتماع ولا التصريحات المصرية لم تشر إلى أن موقف مصر يتبناه دول أخرى، كما أن الانسحاب المصري لم يقابله أي تضامن ولو جزئي من أي دول عربية أخرى، مما يؤشر إلى أنه موقف مصري منفرد على ما يبدو أو على الأقل لا يوجد دولة عربية أخرى تتبنى الموقف بنفس الحدة.
تبديد لا داعي له لرصيد مصر الكبير
تثير النقطتان السابقتان تساؤلاً جوهرياً، هو هل يستحق التحفظ المصري كل هذه الضجة، سواء كان هذا التحفظ يتعلق بنجلاء المنقوش ذاتها ومشاركتها أو ترؤسها للاجتماع (معروفة بتصريحاتها الحادة التي أغضبت كثيراً من الدول المعنية بالشأن الليبي)، أو بسبب اعتبار القاهرة حكومة الدبيبة منتهية الصلاحية؟
فلمصر مكانة خاصة في الجامعة العربية وبين أعضائها، سواء بسبب كونها أكبر دولة عربية أو بلد مقر، أو احتراماً لتاريخها ودورها المعاصر، وكذلك توازن علاقاتها النسبي مع معظم الأطراف العربية فلديها علاقة وثيقة مع دول الخليج، وعلاقة تاريخية مع سوريا ولبنان وفلسطين والسودان، وعلاقة بلا ملفات خلافية أو مشكلات كبيرة، وقدر جيد من الاحترام المتبادل مع العراق ودول المغرب العربي.
ونتيجة هذه المكانة، فإنه في أغلب الاجتماعات العربية تراعي الكثير من الدول العربية القاهرة أكثر من غيرها، بما في ذلك التنازل لها أحياناً عن رئاسة بعض الاجتماعات أو الامتناع عن منافستها تكريماً لها.
ومكانة الأخ الأكبر هذه التي تحظى بها مصر، تمكنها من تمرير بعض القرارات أو تسويق أجندتها في القضايا غير الخلافية، حيث لا تمانع الكثير من الدول العربية من مجاملة مصر، في قضايا ليس لها فيها مواقف حادة.
ولكن ضغط مصر في قضية تمثيل ليبيا، ورئاستها لمجلس الجامعة العربية يمثل تبديداً لا داعي له في رصيد مصر لدى الدول العربية، وانسحاب مصر (التي يُنظر لها على أنها محرك رئيسي لقرارات الجامعة العربية،) رغم أنه تعبير مشروع عن الغضب، ولكنه أيضاً اعتراف لا داعي له بتراجع نفوذها بعد أن بدت وحيدة في موقفها، في قضية ليست أصلاً بالأهمية الكبيرة التي تستحق معها كل هذه الضجة.
ومما يجعل القضية لا تستحق هذا العناء، أن الواقع يظهر أن الأزمة الليبية باتت أكثر تعقداً، وأنها لم تعد ترتبط كثيراً بالصراع الأيدولوجي مع الإسلاميين والمنافسة مع تركيا كما كانت تركز وسائل الإعلام المصرية، فباشاغا والدبيبة اللذان يقودان الحكومتين المتصارعتين في ليبيا كلاهما من مصراتة، وكلاهما حليف للإسلاميين وتركيا على الأقل في وقت ما.
ويظهر الخلاف بين الرجلين وتحالف باشاغا مع حفتر، مقدار التشرذم والتقلب في المشهد الليبي، والذي يعود بشكل أساسي إلى غياب قوى سياسية مركزية في البلاد (أو غياب قوى سياسية مؤدلجة أصلاً)، وأن محاور الانقسام ليست فقط شرق وغرب أو إسلاميين وفلول، بل تشمل أيضاً خلافات بين الريف والحضر والبدو، وبين المدن وبعضها البعض.
والأخطر أن خلاف باشاغا والدبيبة يكشف عن خلاف داخل مصراتة، المدينة القوية التي يُنظرها لها على أنها موحدة ولديها أجندة محددة.
كل ذلك يجعل تصعيد الخلاف على الأزمة الليبية، في مشهد بدت مصر فيها وحيدة في موقفها من رئاسة مجلس الجامعة العربية، أمراً غريباً خاصة أن القاهرة لديها ملفات شديدة الحساسية أكثر من صراع رجلي مصراتة، فليس هناك أفق لحل أزمة سد النهضة، فيما تشهد إثيوبيا تجدد الاضطرابات بشكل يفترض أنه يمثل فرصة للقاهرة للضغط عليها، ضغط ليس هناك أي مظاهر له حتى الآن.
كما أن الأزمة الاقتصادية تمثل ضغطاً كبيراً على القاهرة، وهي تحتاج إلى أن تبدو السياسة المصرية في تناسق مع محيطها العربي الداعم لها بشكل أساسي في الأزمة، إلا إذا كان هناك من يبحث عن ملفات خلافية لإشغال الرأي عن مشكلاته الاقتصادية.