وجهاً لوجه، يقفان في ساحة القتال، يتصاعد غبار المعركة المحتدمة من حولهما، ويترقبهما مئات المتفرجين الذين يراهنون على الرابح.. لا نتحدث هنا عن مصارعين في المدرجات الرومانية؛ فبطلا حكايتنا هما ثور وإنسان دخلا في نزال غير متكافئ، فالثور لا يملك سلاحاً غير قرنيه وجسده الضخم، كما أنه لم يختر القتال بل أجبر عليه، أما الإنسان فلا يكتفي بحمل قطعة قماش حمراء كما نتصور، بل يحيط به مساعدوه المسلحون، وتتراوح أسلحته ما بين الرمح والسيف والعصي الحادة.
ما هي مصارعة الثيران؟
بكل بساطة، مصارعة الثيران هي معركة بين الثور والإنسان.
إذ يعرف المصارع باسم مصارع الثيران أو "الماتادور"، ويحاول خلال المعركة أن يشل حركة الثور أو يخضعه أو حتى أن يقتله في كثير من الأحيان.
ولا تكون مصارعة الثيران مجرد نزال عشوائي؛ إذ تخضع لقواعد وقوانين ضابطة، كما تحكمها التقاليد والمعايير الثقافية في بعض البلدان أحياناً، وفقاً لما ورد في موقع Spain Traveler.
وعلى الرغم من شهرة مصارعة الثيران في إسبانيا على وجه التحديد، إلا أنها تمارس أيضاً في بلدان أخرى مثل البرتغال والمكسيك وكولومبيا وبيرو وجنوب فرنسا وغيرها.
في كل مباراة نشهد 3 مصارعي ثيران، لكل منهم 6 مساعدين، بعضهم يمتطي الخيول داخل الحلبة.
ويستخدم مصارع الثيران رمحاً أثناء القتال، بينما ترتدي الخيول ألبسة خاصة لحمايتها من الثيران، مع العلم أن الكثير من الخيول ماتت في حلبات المصارعة (عددها فاق بكثير عدد الثيران الميتة في الحلبات) قبل أن يتم اختراع ألبسة خاصة لحمايتها عام 1930.
مراحل مصارعة الثيران
ما يعلمه أغلبنا عن مصارعة الثيران أن المصارع يقف أمام الثور الهائج بقطعة قماش حمراء، لكن الأمر ليس كذلك تماماً، فقطعة القماش تلك ما هي إلا المرحلة الأخيرة من مراحل الصراع، والتي يكون فيها الثور قد أصابه الإنهاك والأذى في كثير من الأحيان من طرف المصارع.
وتقسم المعركة إلى 3 مراحل في الغالب:
المرحلة الأولى: يدخل فيها المصارع مع رمح، ومن حوله مساعدوه الممتطون ظهور الخيول، ويطعن المصارع الثور خلف رقبته مباشرة، وردة فعل الثور في هذه المرحلة تعطي أدلة للمصارع حول كيفية استمرار القتال.
المرحلة الثانية: في الغالب يتدخل المساعدون في هذه المرحلة ويحاولون امتطاء كتف الثور، حيث يغرزونه بعصي شائكة حادة، الأمر الذي يثير غضب الثور وهياجه، فترتفع وتيرة القتال.
المرحلة الثالثة: يعرف الثلث الأخير من المعركة باسم "ثلث الموت"؛ ففي هذه المرحلة يدخل المصارع الحلبة وحده دون مساعديه وبيده قطعة قماش حمراء تعرف بالإسبانية باسم "موليتا"، كذلك يحمل المصارع سيفاً بيده.
تستخدم قطعة القماش لجذب الثور وإرهاقه بالإضافة إلى إثارة الجمهور، إذ يتفنن المصارعون بالحركات الاستعراضية في هذه المرحلة، ويبدو أن المصارع والثور يرقصان معاً.
وبعد أن ينهك الثور يستغل المصارع اللحظة المناسبة لضربه بالسيف والإعلان عن نهاية القتال، حيث يتم الإجهاز على الثور، وفي حالات نادرة قد يطلب الجمهور العفو عن الثور إذا أعجبوا بشجاعته في ساحة القتال، وفي هذه الحالة، يمضي الثور بقية حياته في إحدى المزارع.
لماذا تستخدم قطعة قماش حمراء؟
يشاع أن اللون الأحمر يساعد في زيادة هيجان الثور؛ لذلك اختاره مصارعو الثيران، لكن الحقيقة ليست كذلك؛ فالثيران مصابة بعمى الألوان ولا تميز اللون الأحمر أساساً، وتاريخياً اختير اللون الأحمر لإخفاء لون الدماء عن الجمهور، ولا يزال هذا اللون مستخدماً للحفاظ على التقاليد لا أكثر.
تاريخ مصارعة الثيران.. البداية بلاد ما بين النهرين
هل كنت تعلم أن أقدم ذكر لمصارعة الثيران ورد في ملحمة جلجامش الشهيرة، وهي ملحمة شعرية قديمة من آداب بلاد الرافدين.
إذ ذكر في الملحمة: "بدا الثور قوياً لا يهزم.. قاتلوا لساعات حتى رقص جلجامش أمام الثور، واستدرجه بسترته وأسلحته الساطعة، ودفع إنكيدو سيفه، في عمق عنق الثور، وقتله".
وعلى الرغم من أنها ليست مصارعة ثيران بالمعنى الحديث للكلمة، إلا أن المؤرخين يعتقدون أن هذا النص هو أقدم نص مسجل لتاريخ مصارعة الثيران في العالم.
وفي عصور ما قبل التاريخ، كان للثيران دور مهم في الاحتفالات الدينية في بلاد الرافدين ومنطقة البحر الأبيض المتوسط إذ كانت تقدم كأضاحي للآلهة، وظهرت ممارسة القتال بين البشر والثيران في العديد من المناطق حول العالم.
ففي اليونان على سبيل المثال، اكتشفت لوحة جدارية تعود إلى 2000 قبل الميلاد وتصور ذكوراً وإناثاً في مواجهة ثور هائج، وفي وقت لاحق بات القتال ما بين الحيوانات والبشر شائعاً في مدرجات روما القديمة وكان للثيران نصيب الأسد في مثل هذه المعارك.
ومع توسع الإمبراطورية الرومانية انتشرت مصارعة الثيران في شبه الجزيرة الأيبيرية.
وفي العصور الوسطى كانت مصارعة الثيران شائعة لكن بشكل مختلف، فقد كانت رياضة خاصة بالنبلاء فقط في إسبانيا، ولا يشارك فيها إلا الأغنياء الذين امتلكوا المال الكافي لاقتناء الثيران وترويضها، لكن في ذلك الوقت لم تكن مصارعة الثيران كما هي اليوم، بل كانت مجرد رجل منفرد معه رمح بمواجهة ثور في ساحة المعركة.
وعلى الرغم من انتشار مصارعة الثيران في دول عديدة في العالم منذ القدم وحتى الآن، إلا أن إسبانيا وحدها تتمسك بهذه الممارسة بقوة بل وتعتبرها جزءاً من الثقافة والتراث الإسباني.
تقليد مهم في إسبانيا
لا تعتبر مصارعة الثيران في إسبانيا مجرد نوع من أنواع الترفيه، بل تعداه إلى كونها تقليداً مهماً وجزءاً من ثقافة البلاد وتاريخها، كما أنها من أبرز عوامل الجذب السياحية في البلاد.
ويعرف الإسبان مصارعة الثيران على أنها شكل من أشكال الفن.
عدا عن ذلك تعتبر مصارعة الثيران في إسبانيا قانونية تماماً، بل يتم التشجيع عليها من قبل الحكومة، ويكمن السر في أنها جزء من الثقافة والتراث الإسباني.
وفي حين تعلو الدعوات حول العالم لحظر هذه الممارسة، إلا أن إسبانيا على وجه التحديد تعتبرها شيئاً مهماً، بل وتنتشر في البلاد مدارس لتعليم مصارعة الثيران للأطفال.
وفي عام 2013، أصدرت الحكومة الوطنية الإسبانية قانوناً ينص على أن مصارعة الثيران هي في الواقع جزء لا جدال فيه من التراث الثقافي الإسباني. جاء ذلك بعد أن صوت برلمان كاتالونيا، وهي منطقة إسبانية، على حظر مصارعة الثيران في المنطقة؛ إذ دخل الحظر حيز التنفيذ في عام 2012، ولكن تم إلغاؤه في عام 2016 بسبب القانون الذي أقرته الحكومة الوطنية قبل 3 سنوات.
بعد عام، في عام 2017، أصدرت جزيرة مايوركا قانوناً يحظر قتل ثور أثناء مصارعة الثيران، لكن لم يعتبر ذلك القانون دستورياً بسبب قانون 2013 الذي ينص على شرعية مصارعة الثيران.
وبعيداً عن كونها "شكلاً من أشكال الفن" كما يقول الإسبان، تلعب مصارعة الثيران في إسبانيا دوراً مهماً ومتعدد الأوجه ومثيراً للجدل في صناعة السياحة في البلاد، كما أنها مورد تجاري مهم أدخلت الملايين للاقتصاد الإسباني.
"اليوم الذي يحظر فيه الاتحاد الأوروبي مصارعة الثيران هو يوم مغادرة إسبانيا من الاتحاد"
على الرغم من الحصول على موافقة الحكومة على استمرار مصارعة الثيران، هناك ضغط شعبي متزايد لحظرها في إسبانيا لأسباب أخلاقية.
فهناك العديد من الأسباب التي تجعل مصارعة الثيران في إسبانيا غير أخلاقية، من الطريقة التي يتم بها تدريب الثيران إلى الطريقة التي يقتل بها الكثيرون للأسف أثناء وبعد المعارك. مثل هذه الأنشطة لا تحدث في أجزاء كثيرة من العالم في العصر الحديث، لكنها تستمر في إسبانيا.
مع ذلك تريد الحكومة الإسبانية والملك نفسه مواصلة "تقليد" مصارعة الثيران في إسبانيا؛ لأنه ينظر إليه على أنه جزء مهم من تراثهم وثقافتهم، وهو نشاط سياحي أصيل.
ويزعم أن الملك الإسباني كان قد صرح بأن اليوم الذي يحظر فيه الاتحاد الأوروبي مصارعة الثيران هو اليوم الذي تغادر فيه إسبانيا الاتحاد الأوروبي، وفقاً لما ورد في موقع tourismteacher.
لكن في المقابل يعتبر كثيرون أن نشاطاً قاسياً و"غير أخلاقي"، مثل مصارعة الثيران، سيندثر قريباً في إسبانيا والعالم، ومع زيادة وعي الناس بحقوق الحيوان أصبحت أيام مصارعة الثيران معدودة.