لماذا لا تزال توجد قوات أمريكية في سوريا حتى الآن؟ يتكرر هذا السؤال من وقت لآخر، ومعه تظهر أسئلة أخرى تتعلق بالسياسة الأمريكية هناك، فماذا تقول إدارة جو بايدن عن استراتيجيتها؟
الهجمات الأمريكية الأخيرة التي استهدفت مقاتلين مدعومين من إيران في سوريا أعادت طرح الأسئلة المرتبطة بأسباب وجود القوات الأمريكية هناك، ومدى جدوى ذلك الوجود من الأساس، علماً بأن طهران نفت أن تكون القوات التي تعرضت للهجمات الأمريكية متحالفة مع الجمهورية الإسلامية.
لكن هذه التساؤلات ليست جديدة، بل متكررة وكانت أحد أبرز الملفات التي واجهت إدارة بايدن تحديداً، خصوصاً وأن الرئيس الحالي كان قد وجه انتقادات عنيفة لسلفه دونالد ترامب، عندما قرر الأخير سحب القوات الأمريكية من سوريا.
بايدن هاجم الرئيس السابق واتهمه بعدم فهم البيئة الجيوسياسية، مُصوِّراً أنَّ نية ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا من شأنها منح أفضلية لنظام الأسد وإيران، كما أنَّه يجعل الإسرائيليين يعتمدون على الروس لضمان أمنهم.
لماذا أرسلت أمريكا قوات إلى سوريا؟
من المهم العودة إلى بداية القضية لتتبع الأهداف التي سعت الولايات المتحدة لتحقيقها من وراء إرسال قوات لها إلى سوريا، ففي نهاية المطاف لا يتم الدخول في حرب أو التورط في نزاع مسلح دون هدف استراتيجي يراد تحقيقه.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد حكم الرئيس بشار الأسد المتسم بالفساد والقمع قبل أكثر من 11 عاماً، وكان وقتها الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، تمحور هدف الولايات المتحدة الرئيسي في التخلص من نظام الأسد، لكن عندما تولى بايدن المسؤولية كرئيس -منذ يناير/كانون الثاني 2021- بدا أن الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية فيما يخص سوريا قد اختلف أو تم التغاضي عنه.
وبعيداً عن النهج الصقوري المتشدد الذي أشار إليه بايدن، خلال حملته الانتخابية، تجاه سوريا، يبدو أنَّه خلُص إلى أنَّ خفض التصعيد يخدم على أفضل نحو مجموعة من الأهداف الجيوستراتيجية المرتبطة بالصراع السوري وعلى نطاق أوسع من الحرب الأهلية، بحسب تحليل سابق لمجلة فورين بوليسي الأمريكية.
ويقوم ذلك على الاعتراف الضمني بأنَّ الرئيس السوري بشار الأسد قد انتصر ولا يوجد ما يمكن لأي أحد عمله حيال ذلك. ويعتقد فريق بايدن على ما يبدو أنَّه بتقبّل هذا الواقع، ستحظى الولايات المتحدة بفرصة أفضل لتقديم المزيد من المساعدات لمَن يحتاجون إليها في سوريا، ومساعدة اللبنانيين الفقراء، وإحداث تغيُّر في العلاقات مع روسيا (ولو أنَّ ذلك الآن يرتبط بأوكرانيا أكثر من أي شيءٍ آخر)، وإبعاد السوريين عن الإيرانيين.
لكن بالعودة إلى الشق العسكري تحديدا نجد أن واشنطن أرسلت قوات أمريكية إلى سوريا عام 2015، ضمن "عملية العزم الصلب"، التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق (داعش). وقد انتهت تلك العملية بهزيمة التنظيم منذ ما يزيد على 3 سنوات الآن.
وحالياً يوجد حوالي 900 جندي أمريكي منتشرين في المنطقة المعروفة باسم "منطقة شرق سوريا الأمنية"، وكانت تلك القوات، إلى جانب حوالي 2500 عسكري متمركزين في العراق، جزء من "عملية العزم الصلب". وبالنظر إلى تدهور قوة وقدرات "داعش" بشكل كبير، فإن بعض الأمريكيين يشككون في سياسة بلادهم في سوريا.
لماذا تحتفظ أمريكا بوجودها العسكري حتى الآن؟
خلال الأسبوع الماضي، أعلن الجيش الأمريكي أنه قتل أربعة عناصر من مجموعات مسلحة مدعومة من إيران في شرق سوريا، وذلك رداً على قصف صاروخي أدى إلى إصابة جنود أمريكيين في المنطقة. كما دمر الطيران الأمريكي آليات وقاذفات صواريخ ومخازن. وتنفي إيران أن يكون لها أي علاقة بالجماعات أو الأهداف التي هاجمتها الولايات المتحدة.
ونشر السياسي الأمريكي، كريس مورفي، الذي يرأس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية الأمريكية، بياناً يشكك في "الحكمة من انتشار هذا العدد الكبير من الأمريكيين في تلك المنطقة"، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.
لكن في خطاب بتاريخ 25 آب/أغسطس موجه للكونغرس، أوضح جو بايدن سبب أمره بشن الضربات الانتقامية: "من أجل حماية والدفاع عن سلامة موظفينا، ولإضعاف وتعطيل سلسلة الهجمات المستمرة ضد الولايات المتحدة وشركائنا. وردع.. المزيد من الهجمات".
كانت إدارة بايدن قد أمرت العام الماضي بمراجعة سياستها تجاه سوريا، وبعد الانتهاء من ذلك في أواخر عام 2021، تم تحديد أربع أولويات تتعلق بوجود القوات الأمريكية في سوريا.
أولاً، الحفاظ على زخم مكافحة وقتال تنظيم "الدولة الإسلامية"، إضافة إلى دعم عمليات وقف إطلاق النار السارية في عدة مناطق في سوريا، وتحقيق الاستقرار في المنطقة، والمساعدة في وصول المساعدات الإنسانية، فضلاً عن "الضغط من أجل تحقيق محاسبة (مجرمي الحرب) واحترام القانون الدولي، مع تعزيز حقوق الإنسان، وعدم انتشار (سلاح الدمار السامل)".
كل هذا من المفترض أن يساعد في تحقيق حل سياسي للأزمة السورية المستمرة، على النحو المنصوص عليه في القرار 2254، الذي أصدره عليه مجلس الأمن الدولي في عام 2015.
لكن جيفري فيلتمان، مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابق لشؤون الشرق الأدنى، في مقال في كانون الثاني/يناير 2021 نشر في موقع مركز أبحاث كوينسي، قال: "باستثناء مواجهة تهديد داعش في شمال شرق سوريا، فشلت السياسة الأمريكية منذ عام 2011 في تحقيق نتائج إيجابية".
وفي أيلول/سبتمبر 2021، كتب عبد الرحمن المصري، الزميل السابق في "قسم رفيق الحريري والشرق الأوسط" في مركز أبحاث أتلانتيك كاونسيل في واشنطن: "لم توجد سياسة قائمة بذاتها ومتسقة تجاه سوريا من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ بداية الصراع في 2011. الولايات المتحدة لا تعرف ما تريده في سوريا. كل من الأصدقاء والأعداء يدركون ذلك".
سياسة أمريكا "غامضة" على أفضل تقدير
اشتكى كثير من المحللين الذين اطلعوا على أهداف السياسة الجديدة بعد أن أعلنتها إدارة جو بايدن، حيث رأوا أن السياسة الأمريكية في سوريا لا تزال "خجولة" و"فاترة".
"الأمريكيون لا يريدون خوض قتال كبير في سوريا. لم تحدد واشنطن بعد مصلحة استراتيجية في سوريا تبرر حرباً كبرى هناك"، هذا ما قاله روبرت فورد، سفير الولايات المتحدة السابق في سوريا، في افتتاحية لصحيفة الشرق الأوسط في أيار/مايو من هذا العام.
وفي مقال آخر نشر في "قسم رفيق الحريري والشرق الأوسط" في مركز أبحاث "Atlantic Council" في كانون الثاني/يناير من هذا العام، أعرب الباحث السوري، عبد الرحمن المصري عن قلقه من أن أهداف السياسة الجديدة تعكس في الواقع مزيداً من عدم الاهتمام ويمكن أن تشير إلى انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة.
لكن بالرغم من كل الانتقادات السابقة وغيرها، ترى دارين خليفة، المحللة المختصة بالشأن السوري في "مجموعة الأزمات الدولية"، أن الولايات المتحدة تلعب دوراً مهماً في تحقيق الاستقرار في شمال شرق سوريا: "أعتقد أن الكثير من الناس يقللون من شأن ذلك. إنها [الولايات المتحدة] تبقي الضغط على داعش وتمنع الفوضى".
وبهذا، فهي تعني أنه بمجرد وجودها هناك، فإن الوجود الأمريكي يمنع تقدم الروس والإيرانيين والنظام السوري نفسه والاستيلاء على المناطق البعيدة عن سيطرته.
وأضافت خليفة للموقع الألماني: "إنهم يحافظون على توازن قوى يحمي ملايين السوريين في هذه المنطقة. هناك عواقب لوجودهم وهي في الغالب إيجابية، لنكون صادقين. هذا شيء لا يحب الكثير من صانعي السياسة الأمريكيين التحدث عنه، لأن تفويضهم كان فقط لمحاربة داعش، وليس حماية المدنيين".
لكن في الوقت نفسه، تتفق خليفة في الرأي مع منتقدي الوجود الأمريكي في سوريا، من خلال الإشارة إلى إخفاقات السياسة: "لا نعرف، على سبيل المثال، كم من الوقت يريدون أن يظلوا هناك. لا نعرف لماذا، أثناء وجودهم هناك، لا يحاولون حل بعض المشكلات الأساسية [في المنطقة]، وهي المشكلات التي من شأنها أن تعاود الظهور بمجرد مغادرتهم".
وتشكك دارين خليفة في أن الساسة الأمريكيين وجدوا أنه من الأسهل عدم التطرق لهذه الأسئلة الصعبة وكل ما قاموا به هو "ركل العلبة إلى الطريق حتى تصبح مشكلة شخص آخر".
"في الأساس، لا يتعلق الأمر بما إذا كان على الولايات المتحدة البقاء أو المغادرة. يتعلق الأمر بكيفية استخدام الأمريكيين لوجودهم على أفضل وجه والمساعدة في إيجاد حل وسط يوفر ما يكفي من الرضا لجميع الأطراف المعنية". وتختم خليفة قائلة: "لن يكون الجميع سعداء. ولكن يجب أن يكون كل طرف راضياً بما يكفي لعدم تفجير الأمور".