كم من مرّة تعرضنا لصدمات نفسية، ومواقف مؤذية من أشخاص يبدو عليهم أنّهم طيبون وذو أخلاق، وإذا حصل واشتكينا من أذّيتهم لم يصدقنا المشتكى إليه، فالمشتكى منه يظهر أمام الناس أنّه خلوق، طيّب القلب، ويحب الخير!
وهكذا يتم تحويل التهمة إلينا بأننا نضخّم المواضيع ونعطيها غير حجمها، هناك إمكانية أن يكون ذلك الشخص يعاني من "اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع"، أو "سوسيوباث"، باللغة الإنجليزية (Antisocial Personality Disorder) أو (sociopath).
اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع
المصابون بهذا المرض يعانون من عدّة أعراض، تتفاوت بينهم، تلك الأعراض تشمل: انعدام الشعور بالتعاطف أو تأنيب الضمير، الميول للتلاعب بالنّاس وخداعهم، الكذب بشكل متكرر، عدم القدرة على السيطرة على الانفعال، عدم تقبّل قلة احترام الآخرين لهم بشكل مبالغ فيه، عدم القدرة على الاستمرار في عمل معيّن، هؤلاء الأشخاص دائماً ما يكونون مؤذيين لمن حولهم، أكثر أذى يسببونه للآخرين هو الأذى النفسي، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى ارتكاب الجرائم، كالاعتداء الجسدي والقتل، لذلك فكثير من المساجين هم بالأساس أشخاص يعانون من اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، وتمّ تعريف الاضطراب في الطبعة الخامسة للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM5) بأنّه: "نمط شامل من الاستهانة بحقوق الآخرين، وانتهاك يحدث منذ سن الخامسة عشرة".
في الدول المتقدمة هناك الكثير من الأبحاث والدراسات التي تقام حولهم، ويتم توعية النّاس للحفاظ على أنفسهم من هذه الشخصيات، والابتعاد عنها إذا أمكن، أو تعلّم طريقة التعامل معهم ومساعدتهم إذا لم يكن من الممكن الابتعاد عنهم، كأن تكون هذه الشخصية هي أحد أفراد الأسرة، لكن ماذا عنّا نحن الذين نعيش في الدول غير المتقدّمة، لك أن تتصوّر عزيزي القارئ كمية الأشخاص الذين يعانون من أشخاص معادين للمجتمع في حياتهم، دون أن يعلموا عن طبيعة هذا الاضطراب، لك أن تتصوّر كمية الأذى النفسي واللفظي والجسدي الذي يحدث من خلف الجدران، فنحنُ كثيراً ما نسمع قصصاً عن شخصيات مؤذية، قد لا تكون جميعها تُعاني من اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، فهذا المرض ينتمي إلى فئة مقسّمة إلى أربعة اضطرابات: اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، اضطراب الشخصية الحدّية، اضطراب الشخصية النرجسية، اضطراب الشخصية الهستيرية، وكثيراً ما تتداخل هذه الاضطرابات مع بعضها البعض.
في بلادنا كثيراً ما نسمع بين الفترة والأخرى عن جريمة شنيعة، أب يقتل بناته، حارس مدرسة يقتل طالباته، زوجة تقتل زوجها، زوج يقتل زوجته، أخ يصوّب نحو إخوانه، فهل ما قامت به تلك الشخصيات أتى مفاجئاً، أمّ أنّ هناك سلوكيات ضارة كانت تحدث مسبقاً ولم يتم التبليغ عنها، أو على الأقل فهمها والسعي لعلاجها، هذا حين نتحدّث عن جرائم القتل، أمّا الأذى اللفظي والنفسي والجسدي، فنحن نسمع عنه بشكل كبير جداً، في المنازل والعمل والمدارس والجامعات، وبالطبع ليست كل تلك الشخصيات شخصيات معادية للمجتمع، لكن ماذا عمن يعيشون وسط شخصيات معادية للمجتمع؟!
هل يعلمون بطبيعة هذه الشخصية، وبالأضرار التي ستسببها لهم إن لم يبتعدوا عنها، هل يعلمون على الأقل بالحاجة الملحة للكثير من هذه الشخصيات إلى العلاج السلوكي والإدراكي وزيارة الطبيب النفسي، أم أنّهم يصبرون عليها، وإذا لم يصل الحال إلى أن يتعرضوا لجريمة كبيرة من قبلها فهم يتعرّضون لأذى نفسي شديد، يؤثر على طبيعة حياتهم ومستقبلهم، ويتعرّضون بشكل مستمر لاستغلال وتلاعب يستنزف جهودهم وطاقتهم، والمؤلم أكثر أنّ هذه الشخصيات لا تشعر بتأنيب الضمير، يكذبون ويستغلون الآخرين ويتلاعبون بهم، وقد يلجأون إلى العنف اللفظي والجسدي، وحين تتم مساءلتهم عمّا قاموا به لا يشعرون بأدنى خجل مما قاموا به، بل على العكس يدافعون عن أنفسهم ويرون أنّ ما قاموا به هو الصواب.
من الضروري جداً أن نحدد هذه الشخصية التي نتعامل معها، نحدد طبيعة مشكلتها، وطريقة التعامل معها، وقد ذكر كاتب يدعى جيرالد ثورن في كتابه (sociopath: Understanding Antisocial Personality Disorder) أسلوبين يستخدمهما المصابون بهذا الاضطراب للتلاعب بالآخرين واستنزافهم، أولهما: الحصول على التعاطف، هذه الشخصيات بارعة فيه، فحين تضع عينيها على فريسة تبدأ بسرد قصتها الحزينة ومآسيها ومعاناتها، وأثناء ذلك تحلل ردة فعل الفريسة، فاذا أبدى ذلك الشخص تعاطفاً معها سرعان ما تقرر استغلاله والتلاعب به بالطريقة التي تُريد، لذلك ينبغي لمن يتنبّه لطبيعة الاضطراب الذي تعاني منه هذه الشخصية، ألا يبدي أي تعاطف ولا يسمح لها بأن تكمل سرد قصتها، بل يتوّجب أن يغيّر الموضوع إلى مواضيع محايدة، كأخبار البلاد، والطقس، والاقتصاد، دون أن يتحدّث الشخص عن خصوصياته وأسرته وطبائعه، فتلك الشخصيات تجمع معلومات الضحية لتستخدمها فيما بعد، إذا لم تستطع تغيير الموضوع أظهِر ابتسامة صفراء خالية من أي مشاعر، كما لا ينبغي الدخول في جدل مع تلك الشخصيات، تغيير الموضوع كافٍ، الأسلوب الثاني الذي تستخدمه هذه الشخصية مع من تود استغلاله والتلاعب به هو أن تقوم بممارسات تظهر أنّها تملك سلطة عليه، وحين تتمكن من ذلك تبدأ بالتلاعب، لذلك يتوجّب على من يتعامل مع هذه الشخصية ألا يظهر ما يدل على أنّه تحت سلطتها، وهكذا تجد صعوبة وإحباطاً في التلاعب به، فتتجه إلى شخصيات أخرى أكثر ضعفاً، وإذا تعامل ذلك المضطرب معك بلطف فتأكّد أنّ هناك سبباً خلف هذا اللطف، والحذر ضروري.
الجدير بالذكر أيضاً أنّ هذه الشخصيات لا تسعى للتلاعب بمن لا ترى في التلاعب به واستغلاله مصلحة لها، فعندما قامت قناة اليوتيوب (Special Books by Special Kids) بإجراء مقابلة مع أحد المصابين باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، سأل المقابل المريض ما إن كان فكّر بطريقة لمعرفة طبائعه من أجل استخدامها لاستغلاله، فأكّد له أنّه لم يفكّر بذلك، والسبب هو أنّه لا يجد مصلحة في التلاعب به، وهذا ما قد لا يجعلها ظاهرة أمام الجميع كشخصية معادية للمجتمع، فقد تقضي الضحية الكثير من الوقت والجهد في شرح معاناتها للآخرين، عن كمية الضرر الذي تتلقاه من ذلك الشخص، وترى من حولها يشكك في كلامها ومدى مصداقيتها، لأنّ من تشتكي منه يبدو لطيفاً سمحاً متعاوناً يحب الخير، فهم لا يرون منه سوى وجه واحد.
شخصية سوسيوباثية!
الكثير من الشخصيات التي تعاني من اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع تربّت في بيئات قاسية، بيئات تعاملت معهم بخشونة وأذى وتسببت لهم بالاضطراب، وهذا ما يجعل العلاج أكثر صعوبة؛ فالعلاج يحتاج إلى بيئة، أي تحتاج من يساعدها لعلاج الاضطراب، لكن هذه الشخصيات عادةً لا تملك من يقوم بذلك، فمن حولهم مؤذيين دفعوها للاضطراب، وحتى الأطباء النفسيين يشعرون بالنفور من هذه الشخصيات وصعوبة في التعامل معها، فليس من السهل التعامل مع شخص لا يشعر بالندم تجاه أفعاله المشينة وهو مقتنع تمام الاقتناع بذلك، ليست البيئة هي السبب الوحيد للإصابة بالمرض، فقد يكون السبب وراثي أو ناتج عن إصابة في الدماغ.
إلى هذه اللحظة لم يتم اكتشاف علاج لهذا الاضطراب ولكن هناك علاجات تستخدم لعلاج الأعراض المصاحبة للمرض؛ كالقلق والاكتئاب.
عزيزي القارئ تخيل كيف سيكون تأثير هؤلاء الأشخاص على الناس في مجتمع يتم فيه إلغاء الذات لأجل الآخر، فهناك أبناء يكرسون أنفسهم لأجل آباءهم، ونساء يكرسن حياتهن لأجل أزواجهن، وموظف يكرّس نفسه لأجل خدمة مديره، أتحدّث عن التكريس الذي يؤدي الى إلغاء الذات، ويتم تسويغ ذلك بمسميات دينية ومجتمعية، كواجب طاعة الوالدين مثلاً، أو احترام الصغير للكبير، تخيّل عدد الأطفال الذين يعانون من أمّهات يعانين من هذا الاضطراب، ولا مفر، أو وعي، أو أدنى متابعة من الأب أو المدرسة لحماية هؤلاء المعذّبين، تخيّل عدد الطلاب الذين يعانون من مدرّسين يعانون من هذا المرض، ولا يجدون من يستمع إليهم في المنزل، بل يتم استبدال الاستماع إليهم بزجرهم وعتابهم وإلقاء اللوم عليهم لتقصيرهم في الدراسة وأداء الواجبات، إنها كارثة أن تتواجد مثل هؤلاء الشخصيات في المجتمع -وإن قلّ عددهم- دون أدنى وعي بحالتهم والضرر الذي يسببونه، ولا يتم فهمهم ولا مساعدتهم ولا حتى التبليغ عنهم حين يصلون إلى مستوى الاعتداء الجسدي العنيف.
في المقابلة التي أجرتها قناة (Special Books by Special Kids) مع المصاب بالاضطراب، ذلك الشخص يزور الطبيب منذ سنتين ويملك وعياً كبيراً بحالته، وتعلّم كيف يقيس تصرفاته، وكيف يبتعد عن إيذاء الآخرين، طلب منه أن يوجّه رسالة للأشخاص الذين تسبب في إيذائهم مسبقاً، فوجّه كلمة لطيفة جداً، قال إنّه يجب أن يتأكّدوا أنّ ما حدث لهم كان بسببه، وأنّه لا يجب عليهم أبداً أن يأخذوا الموضوع شخصياً، فالمشكلة ليست فيهم، وإنّما مشكلته هو، تصوّرت وقتها وأنا أستمع إلى كلامه مقدار الألم الذي شعر به من تأذوا منه، لا أقصد ما أخذه منهم من طاقة وجهد وإيذاء جسدي أو لفظي، لكن ما أخذه منهم من شعور بتأنيب الضمير والذنب، فنحن كبشر طبيعيين حين نقع في مشاكل أو تصادم مع الآخرين لا نتوجه دائماً إلى إلقاء اللوم على من أمامنا فقط، وإنّما دائماً ما يكون بداخلنا شعور بتأنيب الضمير وتشكيك في أنفسنا وأننا جزء من السبب، فالغارق في الحياة مع شخصية تعاني من الاضطراب قد تختلط عليه الأمور، فلا يستطيع على الدوام التفريق في جميع الأحوال بين المخطئ والمسيء، وقد يجد صعوبة في التمييز بين الصواب والخطأ، وقد يشعر بالاكتئاب أو القلق دون أن يُدرك أن سبب الاكتئاب والقلق هو هذا الشخص، كم سيكون مقدار الأذى النفسي لإنسان يعيش حياته بشكل يومي مع شخصية سوسيوباثية! كم من مرة شكك في نفسه وانتقص منها وكم من مرة (شخصن) الموضوع، لا بد إذاً وأنّ أوّل ما يجب أن يقوم به من يتعامل مع شخصية كهذه ولا يستطيع الفرار منها أن يحمي نفسه من الداخل، أن يعزز ثقته بنفسه، ويقويها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.