في الوقت الذي تعاني منه أوروبا وأمريكا الشمالية من جفاف غير مسبوق، أصبح ثلث مساحة باكستان غارقاً تحت مياه فيضانات لم تحدث منذ عقد كامل، التغير المناخي هو المتهم، لكن من يتسبب فيه؟
وعلى الرغم من أن الأمطار الموسمية والفيضانات أمر طبيعي في باكستان خلال فصل الصيف، لكن ما حدث هذا العام ليس طبيعياً ولا معتاداً بالمرة، وبحسب وصف وزيرة شؤون المناخ الباكستانية، شيري رحمن، فالوضع عبارة عن "كارثة إنسانية ذات أبعاد ملحمية ناجمة عن التغير المناخي".
ومصطلح التغير المناخي معني بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية للأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسببة فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها، ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة باختصار هي نقص الغذاء.
ثلث باكستان أغرقته الفيضانات
الأمطار الغزيرة والفيضانات المستمرة منذ منتصف يونيو/حزيران الماضي، أغرقت ثلث مساحة باكستان وقتلت أكثر من 1100 شخص، من بينهم 380 طفلاً، فيما وصفته الأمم المتحدة، الثلاثاء 30 أغسطس/آب، "بالكارثة المناخية التي لم يسبق لها مثيل".
وأنقذت طائرات هليكوبتر تابعة للجيش أسراً تقطعت بها السبل وأسقطت طرود الطعام في مناطق يتعذر الوصول إليها في ظل الفيضانات التاريخية العارمة الناجمة عن الأمطار الموسمية شديدة الغزارة التي أدت لتدمير منازل وشركات ومرافق للبنية التحتية ومحاصيل، ما أضر بنحو 33 مليون شخص، أي 15% من سكان الدولة الواقعة في جنوب آسيا والبالغ عددهم 220 مليون نسمة.
وقالت شيري رحمن لرويترز: "ثلث البلاد مغمور بالمياه حرفياً"، واصفة حجم الكارثة بأنه "لم يسبق له مثيل"، وأضافت أن المياه لن تنحسر في أي وقت قريب.
وقالت وكالة إدارة الكوارث التي تديرها الدولة في بيان إن ما يقرب من 300 شخص من بينهم سياح تقطعت بهم السبل ونُقلوا جواً في شمال باكستان، مضيفة أنه تم نقل أكثر من 50 ألف شخص إلى ملجئين حكوميين في الشمال الغربي.
وزار قائد الجيش الباكستاني الجنرال قمر جاويد باجوا وادي سوات الشمالي وتفقد سير عمليات الإنقاذ والإغاثة. وصرح باجوا للصحفيين بأن عمليات الإنقاذ والإغاثة قد تنتهي، لكن "عمليات إعادة التأهيل والبناء ستستغرق وقتاً طويلاً".
وبحسب وزير التخطيط الباكستاني، تشير التقديرات إلى أن الفيضانات تسببت في أضرار بقيمة 10 مليارات دولار (8.5 مليار جنيه إسترليني) على الأقل، ويواجه الكثير من الناس نقصاً خطيراً في الغذاء. وكانت البلاد تعاني بالفعل من أزمة اقتصادية.
كما دُمرت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية الغنية بسبب فيضانات هذا العام، وهو ما ألحق الضرر بالإمدادات الغذائية ودفع الأسعار للارتفاع.
السيول جرفت الطرقات والمنازل والمحاصيل، وخلّفت دماراً كبيراً في أنحاء باكستان، ووصفت وزيرة شؤون المناخ الوضع بأزمة "ذات أبعاد لا يمكن تصوّرها". وقالت إن كل شيء تحوّل إلى "محيط واحد، لا يوجد أرض جافّة لسحب المياه إليها". وقالت الوزيرة رحمن لوكالة فرانس برس: "حرفياً، ثلث باكستان حالياً، تحت المياه التي تخطت كل الحدود وكل معيار شاهدناه في السابق". وأضافت: "لم نر شيئاً كهذا إطلاقاً".
التغير المناخي.. لكن لماذا باكستان؟
تتعرض باكستان لأمطار موسمية سنوياً خلال فصل الصيف، تزداد غزارتها أحياناً لتسبب فيضانات وسيولاً، لكن ما حدث ويحدث هذا العام لم تشهده البلاد منذ عام 2010، عندما تعرضت البلاد لفيضانات مدمرة، هي الأكثر دموية في تاريخ باكستان؛ حيث خلّفت أكثر من 2000 قتيل.
لكن على الرغم من الحصيلة البشرية المرتفعة للغاية لفيضانات 2010، تظل فيضانات هذا الصيف أكثر تدميراً، وهناك إجماع داخل باكستان وخارجها على أن التغير المناخي هو السبب المباشر.
صحيح أن العديد من العوامل تساهم في حدوث الفيضانات، لكن ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي نتيجة تغير المناخ يجعل هطول الأمطار الغزيرة أكثر احتمالاً. وارتفعت درجة حرارة العالم بالفعل بنحو 1.2 درجة مئوية منذ بدء عصر الصناعة، وستستمر درجات الحرارة في الارتفاع ما لم تُحدث الحكومات في جميع أنحاء العالم تخفيضات حادة في الانبعاثات الكربونية.
الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، حذر من أن باكستان تواجه "فيضانات موسمية أقوى بكثير من الطبيعي"، وحث غوتيريش العالم على تقديم المساعدات لباكستان، وأطلق مبادرة خصص فيها 160 مليون دولار لمساعدة عشرات الملايين من المتضررين من الكارثة، ملقياً باللوم على "التأثير الشديد للمستويات التاريخية للأمطار والفيضانات".
وتضررت المناطق الجبلية في إقليم "خيبر باختونخاوى" الشمالي بشكل كبير، لكنّ إقليمي السند وبالوشستان كانا الأكثر تضرّراً. وتغمر المياه إقليم السند لدرجة أن عمال الطوارئ يعانون للوصول إلى المحتاجين للمساعدة. وقال مسؤول عسكري لوكالة الأنباء الفرنسية إنه لا توجد مهابط للطائرات أو منافذ متاحة، "طيارونا يجدون صعوبة في الهبوط".
اللافت هنا أن باكستان مسؤولة فقط عن نحو 1% من الانبعاثات الكربونية التي تتسبب في الاحتباس الحراري وموجات الطقس المتطرف، لكنها واحدة من أكثر دول العالم تأثراً بتداعيات التغير المناخي، ودائماً ما تحل باكستان في قائمة أكثر 10 دول تأثراً بتغير المناخ حول العالم، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
وزير الخارجية الباكستاني قال للشبكة الأمريكية: "بصراحة، يدفع شعب باكستان بأرواحه ومصادر رزقه ثمن ما تفعله صناعات الدول الغنية وما تسببه من تغير المناخ".
وتطرح هذه النقطة تساؤلات جادة بشأن من عليه أن يتحمل تسديد الفاتورة الباهظة لكوارث الفيضانات في باكستان، والتي تقدر حتى الآن بـ10 مليارات دولار، خصوصاً في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها البلاد من الأصل.
من يتحمل فاتورة التغير المناخي؟
لم يعد هذا السؤال مجازياً أو افتراضياً بعد أن أصبحت المعلومات والحقائق الخاصة بالتغير المناخي ومسبباته متاحة للجميع وليست محل جدال. فالدول الغنية، بمصانعها ومشاريعها الضخمة، تتحمل الجانب الأكبر من المسؤولية في تغير المناخ، بينما يدفع الفقراء حول العالم الثمن.
وتعتبر الصين الدولةَ الأولى عالمياً من حيث الانبعاثات الكربونية المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، تليها الولايات المتحدة في المرتبة الثانية. ويمثل البلدانِ معاً نحو 40% من إجمالي التلوث بالكربون الذي يؤدي إلى التغير المناخي وتوابعه الكارثية على الطقس حول العالم، ويليهما الاتحاد الأوروبي ثم الهند وروسيا.
ورغم الوعود المتكررة من جانب بكين وواشنطن، وغيرهما من الدول الكبرى، بالعمل على تخفيض تلك الانبعاثات الكربونية وغيرها مثل غاز الميثان، فإن تلك الدول الصناعية لا تلتزم بتطبيق تلك الوعود في نهاية المطاف، لأسباب متنوعة، أبرزها التنافس الاقتصادي والاعتماد على الوقود الأحفوري من نفط وغاز وفحم أيضاً، إلى جانب التعقيدات السياسية التي يخشاها قادة تلك الدول وأبرزها الصدام مع الشركات الكبرى.
وفي باكستان الآن، يسود قلق متزايد بشأن كلفة إعادة البناء بعد هذه الكارثة، وناشدت الحكومة وكالات الإغاثة والدول الصديقة والمانحين الدوليين، للحصول على المساعدة المالية.
وزير التخطيط إحسان إقبال قال لرويترز إن المياه جرفت نحو نصف محصول القطن في البلاد. وإنّ محاصيل الخضار والفاكهة والأرز تعرّضت لأضرار بالغة. بينما قال مزارع أرز، قرب مدينة سوكور في إقليم السند، لوكالة فرانس برس، إنّ حقوله غمرتها الفيضانات، وأضاف أحمد خليل البالغ من العمر 70 عاماً: "امتد محصولنا على أكثر من ألف فدان زرعت فيها أجود أنواع الأرز ونأكله أنت ونحن. كلّ هذا انتهى".
وزير المالية مفتاح إسماعيل قال قبل يومين إن بلاده ستدرس استيراد الخضراوات من خصمها اللدود الهند لتخفيف آثار الفيضانات التي تسببت في زيادات كبيرة في أسعار الغذاء. وأبلغ إسماعيل قناة جيو نيوز التلفزيونية المحلية: "يمكننا أن ندرس استيراد الخضراوات من الهند. وأضاف أن تركيا وإيران أيضاً قد تكونان خيارين آخرين.
وأعلنت السفارة الأمريكية في إسلام آباد، الثلاثاء 30 أغسطس/آب، أن الولايات المتحدة ستقدم 30 مليون دولار لدعم باكستان: "الولايات المتحدة، من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أعلنت اليوم عن 30 مليون دولار إضافية كمساعدات إنسانية لإنقاذ حياة الناس والمجتمعات المتضررة من الفيضانات العارمة في باكستان".
لكن الدمار الذي لحق بباكستان يحتاج للمليارات لمواجهة آثاره، ناهيك عن الأرواح المفقودة بالفعل، فلماذا يتحمل الباكستانيون تبعات جريمة تسببت فيها الدول الغنية بشكل أساسي؟ وقد يقول البعض إن تأثير التغير المناخي يطول الجميع، فقراء وأغنياء على السواء، وأوروبا تعاني من جفاف لم تشهده منذ 500 عام، وهذا صحيح.
لكن في نهاية المطاف، الدول الغنية تمتلك بالفعل من الموارد والقدرات ما يجعلها أكثر قدرة على التعامل مع موجات الطقس المتطرف بصورة أو بأخرى، عكس الدول الفقيرة، إضافة إلى أن الدول الغنية هي المسؤولة بالأساس عن جريمة التغير المناخي، التي بدأت مع العصر الصناعي، لكن الدول الفقيرة هي التي تتحمل العبء الأكبر لتلك الجريمة.