"تريليونات الدولارات تدين بها أوروبا لمستعمراتها السابقة، حسب تقديرات متخصصين"، وهذا الأمر يخيف كثيراً من الدول الغربية ويدفعها لتجاهل الدعوات للاعتذار عن جرائمها الاستعمارية، ويجعل مسألة تعويضات الاستعمار مسألة شديدة الحساسية.
وبالفعل هناك بعض المبادرات للاعتذار وإعادة الإرث المنهوب (أغلب هذه المبادرات تستثني الدول العربية).
ولكن هل يكفي أن تعتذر وتُعيد الأغراض الثقافية؟ وإذا كان التعويض مالياً، فكيف يُقدِّر المرء الدَّين مقابل أجيال من الاستغلال والنهب والاستعباد، وبكم تدين القوى الاستعمارية لأحفاد أولئك الذين استعمرتهم؟
أصبحت تلك أسئلة حية في ظل دفع النشطاء والحكومات في البلدان التي خضعت للاستعمار سابقاً، في المحاكم وفي المباحثات الدبلوماسية، من أجل التعويض عن انتهاكات الماضي وتداعياتها المستمرة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
فرنسا تعيد 26 عملاً فنياً من بين 90 ألف قطعة منهوبة!
فتحت الضغط المتزايد، أعادت فرنسا على سبيل المثال 26 عملاً فنياً مسروقاً إلى "بنين" العام الماضي، والتزمت ألمانيا بدفع 1.35 مليار دولار من المساعدات لناميبيا، إلى جانب اعتراف رسمي بالإبادة الجماعية التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية الألمانية هناك.
لكنَّ هذين استثناءان لحركة التعويضات، التي تتركز في الغالب في إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي، وتواجه طريقاً طويلاً وصعباً مع الحكومات الأوروبية الحذرة.
تُقدِّر مراجعة حكومية فرنسية أنَّ متاحف البلاد تملك نحو 90 ألف قطعة منهوبة من إفريقيا وحدها، ما يجعل إعادة العشرات منها يبدو وكأنَّه إهانة في نظر النشطاء.
وكان اعتذار ألمانيا متحفِّظاً بعناية، على ما يبدو من أجل تجنُّب إيجاد سابقة يمكن تطبيقها على الانتهاكات الاستعمارية الأخرى، ناهيكم عن فعل الاستعمار نفسه.
وبالنسبة للنشطاء والقادة السياسيين، يُبيِّن هذا سؤالاً أكثر إلحاحاً من تقدير ما تدين به القوى الاستعمارية: معرفة كيفية إجبار القوى الاستعمارية السابقة على التكفير عن خطئها أصلاً.
بكم تدين أوروبا لمستعمراتها السابقة؟ إليك ما طلبته دول الكاريبي
وقالت هيلاري بيكلز، وهو مؤرخ من بربادوس ورئيس لجنة التعويضات الخاصة بالجماعة الكاريبية، وهي منظمة للدول الكاريبية، في محاضرة عامة مؤخراً: "الوقت في صالح أنصار تقديم التعويضات".
وقالت إنَّ الهدف هو الضغط من أجل ما هو أكثر من الاعتذارات: التعويض عن العمالة والموارد المسلوبة التي غذَّت نهضة أوروبا على حساب العالم المُستعمَر.
وطالبت مجموعة التعويضات الخاصة بالبلدان الكاريبية الحكومات الأوروبية بدفع 50 مليار دولار، وتُصوِّر هذا باعتباره مجرد نقطة بداية.
إذا كانت الحكومات الأوروبية مدينة بـ50 مليار دولار لمنطقة الكاريبي فقط، (وفقاً للتقدير السابق) وهي منطقة قليلة السكان، فإنه يمكن تخيل أن حجم تعويضات الاستعمار قد يصل إلى أكثر من تريليون أو حتى عدة تريليونات إذا وضع في الاعتبار دفع تعويضات لقارة بأكملها كإفريقيا، إضافة للعالم العربي، كما أن بلداً ضخماً مثل الهند تم نهب موارده لقرون من قبل العديد من الدول الأوروبية وخاصة بريطانيا، التي بنت جزءاً كبيراً من ثروتها المالية وتقدمها الحضاري من امتصاص ثروات الهند، وكذلك هولندا البلد الصغير الذي لا يزيد سكانه في القرن السادس عشر عن بضعة ملايين واحتل إندونيسيا، والتي كانت تعرف بجزر الهند الشرقية الهولندية، وكانت مشهورة بثروتها الأسطورية من التوابل، والتي جعلت شركة الهند الشرقية الهولندية أغنى شركة في التاريخ.
وتقدِّر د. بيكلز الدَّين الأوروبي لمنطقة الكاريبي وحدها لقاء "200 عام من العمالة المجانية" بـ(8.22 تريليون دولار)، قد يكون هذا المبلغ مبالغاً فيه قليلاً، ولكنه مؤشر على أن تعويضات الاستعمار قد تصل لتريليونات الدولارات.
وتكتسب القضية زخماً في ظل تحقيقها انتصارات ملموسة أكثر، لكنَّها تواجه أيضاً أسئلة صعبة تتعلَّق بالسياسة والشرعية، وبالأخص النفوذ.
"ثروة أوروبا هي ثروتنا".. متى اكتسبت مسألة تعويضات الاستعمار هذا الزخم؟
غالباً ما يتم إرجاع الضغط الحالي من أجل التعويضات الاستعمارية إلى مؤتمر نظَّمته الأمم المتحدة لمواجهة العنصرية، عُقِدَ عام 2001 في جنوب إفريقيا. وكانت تلك أول مرة تُنظَّم فيها الحكومات –وليس النشطاء- على هذا النطاق الواسع لمواجهة الإرث الاستعماري، ما أكسب القضية ثقلاً دبلوماسياً.
لكنَّ القضية تعتمد على أفكار تعود إلى ما قبل نهاية الاستعمار.
فلقد قال فرانز فانون، وهو مفكر بارز من جزيرة مارتينيك، عام 1961، وكانت الجزيرة آنذاك مستعمرة فرنسية: "لا يُصفّي الاستعمار والإمبريالية ديونهما لنا بمجرد أن ينسحبا من أراضينا. إنَّ ثروة البلدان الإمبريالية هي أيضاً ثروتنا. وتُعَد أوروبا الحديثة حرفياً صنيعة العالم الثالث".
هايتي مازالت مستنزفة بسبب الديون التي ورطتها فرنسا بها
وجادل وليام آرثر لويس، الاقتصادي الفائز بجائزة نوبل من جزيرة سانت لوسيا، منذ ثلاثينيات القرن الماضي بأنَّ الاستعمار استنزف اقتصادات المجتمعات المُستعمَرة لأجيال قادمة، وهو ما يجعل الدين ليس فقط منوطاً بالسداد، لكن أيضاً بإعادة البناء.
تُعَد هايتي مثالاً على ذلك؛ إذ يُقدِّر بعض العلماء أنَّ القروض الفرنسية المرهقة، والتي فُرِضَت بالقوة أحياناً، خلقت دائرة من التخلف جعلت هايتي اليوم أفقر بعشرات المليارات من الدولارات بعد أن كانت في نهاية القرن الثامن عشر، توصف باسم "لؤلؤة جزر الأنتيل"، كونها أغنى مستعمرات البحر الكاريبي، إذ كانت تنتج حوالي نصف السكر والبن في العالم كلّه. وقد مثَّلَت وحدها 40% من تجارة فرنسا الخارجية.
هذه الثروة الهائلة التي تمتّع بها الاستعمار الفرنسي، كان وقودها 500 ألف من الأفارقة المُستعبَدين الذين عملوا في أكثر من 8 آلاف مزرعة، وكانوا يمثِّلون أكبر عددٍ من السكَّان المُستعبَدين في منطقة البحر الكاريبي كله.
والكل يرى في تعويضات الهولوكوست سابقة يجب أن تحتذى
قارن مؤتمر إفريقي جامع عُقِدَ عام 1993 التعويضات الاستعمارية بالتعويضات التي صدرت لضحايا المحرقة اليهودية "الهولوكوست"، وهي سابقة أصبحت محورية في قضية النشطاء.
تردَّدت حكومات المستعمرات السابقة في الدفع بالقضية في البداية، فكان الكثيرون يحتفظون بعلاقات سياسية، وإلى حدٍ ما تبعية اقتصادية، مع مُستعمِرِيهم السابقين.
وقد حاول البعض فعلاً؛ فطالب رئيس هايتي بتعويضات من فرنسا في مطلع القرن الحالي، لكن لم يكن له تأثير كبير.
نشطاء يتجهون للمحاكم الأوروبية، وبريطانيا تعوض كينيون عن القمع القديم
دفع النشطاء داخل المستعمرات السابقة القضية إلى الواجهة، وغالباً ما عملوا من خلال الرأي العام والمحاكم الأوروبية.
فضغط الناجون من قمع بريطاني شهير في كينيا في خمسينيات القرن الماضي لسنوات من أجل الحصول على الحق في المقاضاة في المحاكم البريطانية، ونجحوا في ذلك أخيراً. وسوَّت الحكومة البريطانية قضيتهم عام 2013 مقابل 30 مليون دولار، وقدَّمت اعتذاراً علنياً نادراً، وإن كان مقتضباً.
وأدَّى الضغط العام داخل ألمانيا إلى مشروع قانون داخل البوندستاغ، البرلمان الألماني، في 2015 لبدء محادثات رسمية مع حكومة ناميبيا حول التعويضات.
ماكرون وعد بإعادة القطع الأثرية المنهوبة ورفض الاعتذار للجزائريين
وفي فرنسا، أصبح إيمانويل ماكرون رئيساً عام 2017، بعدما قاد حملة انتخابية على أساس وعود بإعادة الآلاف من القطع الثقافية ومعالجة المظالم التاريخية مع المستعمرات السابقة.
مع ذلك، صوَّر ماكرون في بعض الأحيان هذا الأمر باعتباره مسألة منافسة قوة ناعمة في إفريقيا، حيث يتنامى النفوذان الصيني والروسي. وربما تساعد دوافع السياسة الواقعية هذه في توضيح لماذا لم تُعِد فرنسا إلا جزءاً بسيطاً من التحف الموعودة.
ولكنه رفض الاعتذار عن جرائم الاستعمار الفرنسي للجزائر، وصدر بيان من الرئاسة الفرنسية، في 20 يناير/كانون الثاني 2021، استبعد اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر ورفضها مبدأ الاعتذار، ومازالت باريس تعرقل وصول الباحثين والمؤرخين لأرشيف الاستعمار الفرنسي، رغم إعلانها عزمها تخفيف هذه القيود.
ويعتقد بعض الباحثين القانونيين أنَّ القانون الدولي قد يكون ذا فائدة محدودة، لسبب بسيط هو أنَّ الاستعمار لم يكن غير قانوني آنذاك. ونتيجة لذلك، يجري التوصل، عملياً، إلى التسويات مباشرةً بين الحكومات أو تُثَار داخل النظم السياسية الأوروبية.
ألمانيا تريد تقديم مساعدات وبريطانيا وفرنسا قلقتان
وقد ساهمت بعض النجاحات، إلى جانب النشاط داخل المستعمرات السابقة، في تجرؤ تلك الحكومات على الضغط بشأن القضية.
تصطدم محادثات التعويضات على نحوٍ متزايد بسؤال شديد الخطورة: ما إن كان يمكن للتسويات أو الاعتذارات الفردية أن تُشكِّل سابقة لقضايا أخرى شبيهة.
قال ماتياس غولدمان، وهو باحث قانوني ألماني، إنَّ القادة الألمان قاوموا في البداية الادعاء الناميبي بدافع "القلق البالغ من أنَّ ذلك سيؤدي إلى نشوء قاعدة".
وعرضت برلين في نهاية المطاف دفع مساعدات، لا تُسمِّيها تعويضات، لناميبيا واعتذاراً متحفِّظاً للغاية حثَّ الكثير من النشطاء والساسة الناميبيين حكومتهم على رفضه.
وتزايد قلق بريطانيا وفرنسا، ولكلٍ منهما عشرات المستعمرات السابقة، بصورة خاصة من أي خطوة يمكن أن تُنشئ سابقة في القانون الدولي أو المحلي. لكنَّ النشطاء يجادلون بأنَّ تلك السابقة هي بالتحديد ما يحتاجونه لإجبار الحكومات الأوروبية.
ومع توسيع مجموعات التعويضات مطالباتها من الفظائع الفردية إلى الاستعمار نفسه، التقى كلٌ من مؤيدي الحكومات ومعارضيها على قناعة واحدة: إذا كان الاستعمار قد بنى ثروة أوروبا، فإنَّ التعويض الكامل قد يعني التخلي عن هذه الثروة.
قال جيسون هيكل، وهو باحث بريطاني، في محاضرة عام 2018: "ردُّوا مليارات الساعات للأفارقة المُستعبَدين الذين عملوا في المزارع البريطانية، وادفعوا لهم أجر الكفاف. قدِّروا التعويض لقاء 60 مليون روح جرى التضحية بها بسبب المجاعة. وستدركون أنَّه في حال دفعت بريطانيا تعويضات –تعويضات حقيقية وعادلة وشجاعة- لن يتبقى شيء".
ثروة 9 من أغنى 23 عائلة بلجيكية جاءت من نهب الكونغو
في ظل استبعاد وجود معيار عالمي للديون الاستعمارية، تتابع المستعمرات السابقة مطالباتها بصورة فردية.
فقال أحد المشرعين إنَّ جامايكا تسعى للحصول على 10.6 مليار دولار، وهو ما يعادل الرسوم التي دفعتها بريطانيا لمُلَّاك العبيد من أجل توطين العبيد في الجزيرة، مجادلاً بأنَّ بريطانيا تدين لأحفاد أولئك العبيد بسعر شراء أسلافهم على أقل تقدير.
وتطالب بوروندي ألمانيا وبلجيكا بـ43 مليار دولار، وهو رقم تقول إنَّها حسبته بناءً على الأضرار الاقتصادية لعقود من العمالة القسرية والعنف الاستعماري.
لكن لأنَّ المطالب تُسوَّى بشكل مباشر، فغالباً ما يتم حسمها من خلال النفوذ بقدر ما تُحسَم من خلال الاستحقاق والجدارة. وفي غياب الضغط السياسي داخل القوة الاستعمارية السابقة أو الحافز الدبلوماسي مثل تهديد المستعمرة السابقة بالتحالف مع الصين، غالباً ما تتعثَّر قضية المطالبة بالتعويضات.
تضغط مجموعة أخرى من المُدَّعين في كينيا من أجل قضيتهم: أحفاد العائلات التي طُرِدَت قسراً لإفساح المجال أمام شركات الشاي البريطانية، والتي ما زالت تملك معظم ما كان سابقاً أراضيهم. وقد استغاثت العائلات، التي تكافح من أجل كسب التأييد داخل بريطانيا، بالأمم المتحدة.
خلُص تحقيق أممي العام الماضي إلى أنَّ بريطانيا لديها مسؤولية لتسوية الادعاء، ولو أنَّ المحققين ليست لديهم آليات كثيرة لفرض هذه النتيجة.
وطالب المسؤولون الكونغوليون أن تدفع بلجيكا تعويضات عن حكمها، الذي اتسم بأعمال القتل الجماعي والعمالة القسرية بالغة القسوة، لدرجة أنَّ بعض المؤرخين يُقدِّرون حصيلة الضحايا بالملايين. ووجدت إحدى الدراسات أنَّ ثروة 9 من أغنى 23 عائلة بلجيكية ما زالت تعود إلى الكونغو البلجيكية.
دفعت احتجاجات العدالة العرقية في بلجيكا عام 2020 البرلمان إلى إنشاء لجنة للتعويضات.
لكنَّ الضغط العام تلاشى. ولا يملك المسؤولون الكونغوليون نفوذاً كبيراً.
وحين سافر ملك بلجيكا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية الشهر الماضي، يوليو/تموز، حمل معه شخصياً 84 ألف قطعة ثقافية يجري إعادتها. لكنَّه وحكومته لم يقدموا تعويضات أو اعتذاراً، على الرغم من مطالب النشطاء المحليين.
لا أحد يتحدث عن تعويض الفلسطينيين عن الاحتلال الإسرائيلي
ولكن اللافت في تقرير صحيفة The New York Times الأمريكية أنه لم يتناول التعويضات المفترضة من قبل الدول الأوروبية للدول العربية التي استعمرتها، بما فيها الجزائر التي كابدت معاناة كبيرة، هي وغيرها من دول المغرب العربي من الاستعمار الفرنسي والإيطالي لليبيا، والإسباني لإقليم الريف المغربي.
كما لم يشر التقرير للتعويضات المفترضة من إسرائيل للفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم، أو تعويضات بريطانية للفلسطينيين الذين منحت أرضهم لإسرائيل، أو تعويضات من روسيا لجمهوريات آسيا الوسطى أو الشيشان أو القرم وغيرها من المناطق المسلمة التي شهدت إبادة جماعية وترحيلاً واضطهاداً دينياً وثقافياً.
كما لم يتحدث أحد عن استعادة الأثار المصرية والعراقية المنهوبة، والتي تملاً متاحف أوروبا، وبدونها سوف تصبح قاعات هذه المتاحف شبه فارغة.