الدانوب هو ثاني أطول أنهار أوروبا، لكنه يمثل أهم شريان اقتصادي ويشق طريقه عبر 10 دول أبرزها ألمانيا، فماذا يحدث للنهر الأزرق؟ وهل نال منه الجفاف للأبد أم أنها أزمة مناخية عابرة؟
وتعاني أوروبا هذا الصيف من أسوأ موجة جفاف تضرب القارة العجوز منذ 500 عام؛ إذ أطلق الاتحاد الأوروبي وبريطانيا تحذيرات من "الجفاف الحاد" في نحو 63% من اليابسة في القارة، بحسب هيئة مراقبة الجفاف الأوروبية خلال الأسبوع الأخير من أغسطس/آب، قبل أن تعلن بريطانيا أن 8 من 14 منطقة على أراضيها قد أصبحت في حالة "جفاف حاد" بالفعل، مع توالي تلك النوعية من البيانات كل يوم، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
السبب الرئيسي في موجة الجفاف هو التغير المناخي، ومصطلح التغير المناخي معني بوصف التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية للأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسببة فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في الأماكن نفسها، ما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة باختصار هي نقص الغذاء.
ماذا يحدث لنهر الدانوب؟
الدانوب، شأنه شأن جميع الأنهار حول العالم، يعتمد على الأمطار ليواصل رحلته ويقدم خدماته. وفي هذا السياق، أصبح ثاني أطول أنهار أوروبا، البالغ طوله حوالي 2900 كيلومتر، ويوصف بالنهر الأزرق و"البحر الثامن في أوروبا"، أصبح يشبه جدولاً صغيراً، وفي المجر وصربيا وبلغاريا ورومانيا، تشكلت فيه جزر رملية، ولم تعد سفن كثيرة قادرة على الملاحة في النهر.
وحتى في ألمانيا، البلد الذي ينبع منه، فإن النهر أصبح يجري فيه القليل جداً من المياه. وبدأت أولى عمليات إلغاء رحلات الفنادق النهرية العائمة، بينما تم تغيير مسارات رحلات أخرى. ومن أجل منع نفوق الأسماك، أعلنت السلطات المحلية أنها، في حالة الضرورة، ستحظر أعمال الحفر والتجريف والإجراءات الأخرى، التي يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الوضع البيئي في النهر، بحسب تقرير لموقع دويتش فيله الألماني.
ويعاني النظام البيئي بنهر الدانوب من أيام صعبة خلال صيف عام 2022، لكن حتى الآن لم يكن هناك نفوق جماعي للكائنات النهرية. إذ على الرغم من العثور على مئات الأسماك الميتة في أحد روافد نهر الدانوب في 4 أغسطس/آب 2022، إلا أن الوضع خُفّف بفضل "هويس" (حاجز يحبس المياه)، تم فتحه لضخ المزيد من المياه من مجرى النهر الرئيسي إلى الرافد.
تونده موغيوروسي من شركة "سيتيراما" للسياحة قالت لدويتش فيله: "لا يزال الجزء المجري من نهر الدانوب غير صالح للملاحة بالنسبة لمعظم السفن السياحية. كان لا بد من قطع العديد من الرحلات، لأن السفن تعلق في النهر في مكان ما قبل بودابست. نرسل حافلات إلى هناك حتى يتمكن الضيوف من رؤية المدينة على الأقل". كما أن هناك قيوداً على حركة سفن الشحن النهري أيضاً.
ولا تتوقف المعاناة التي يتعرض لها النهر الأزرق بسبب انخفاض مستويات المياه عبره عند حد تراجع حركة السفن، سواء السياحية أو سفن الشحن، بل يتعدى الأمر ذلك أيضاً إلى عدم توفر مياه كافية لتبريد المحطات النووية لتوليد الكهرباء.
كما طلبت النمسا وسلوفاكيا، البلدان التاليان لألمانيا على نهر الدانوب، من سكانها عدم ملء أحواض السباحة الخاصة بهم أو رش الحشائش بعد الآن؛ حتى يتبقى ما يكفي من المياه لتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان والزراعة.
شواطئ رملية ومعاناة مستمرة
في صربيا، أصبحت ضفاف نهر الدانوب في صيف عام 2022 أشبه بالشواطئ الرملية التي لا نهاية لها، حيث يبلغ منسوب مياه النهر حالياً ما يصل إلى 50%، أقل من متوسط شهر أغسطس/آب المعتاد. وأصبحت السباحة في أحد أعظم أنهار أوروبا لعبة أطفال. في بعض الأماكن، يمكن المشي من ضفة إلى أخرى.
وقالت يلينا يرنيتش من المعهد الصربي للأرصاد الجوية المائية: "سنة 2022 هي واحدة من أكثر السنوات العشر جفافاً على الإطلاق. في زيمون، مثلاً، مستوى مياه نهر الدانوب، منذ عدة أيام، أقل من المستوى الملاحي البالغ 190 سم، لكنه لا يزال أعلى بكثير من أدنى قيمة تاريخية لعام 1983، والتي كانت 134 سم".
وتعمل الجرافات، التي تعمق قاع النهر في أماكن مهمة، على بقاء نهر الدانوب في صربيا صالحاً للملاحة عموماً. وقال نائب وزير نقل المياه فيليكو كوفاسيفيتش للموقع الألماني: "بهذه الطريقة نضمن إمدادات الفحم لمحطات الطاقة لدينا. لكن في الجزء الواقع في مصب نهر الدانوب لدينا مشاكل خطيرة، فيما يتعلق بإمدادات النفط الخام والديزل ومشتقات النفط الأخرى، لأنه منذ 3 أسابيع لا تتحرك أي سفن تجاه المصب".
وعند فيدين، في بداية الجزء البلغاري من نهر الدانوب، تنتظر العديد من "الصنادل" (مراكب شحن مسطحة) ارتفاع منسوب المياه حتى تتمكن من مواصلة نقل البضائع. وفي الوقت الحالي، يمكنها الإبحار بحمولة تبلغ 30 حتى 40% فقط من الحمولة الأصلية، وهو أمر غير مربح للشركات. ويقول الكابتن روسن نيكولوف: "ليس عليك أن تكون خبيراً لترى مدى انخفاض مستوى نهر الدانوب. فمن الرصيف النهري تستطيع أن ترى الحجارة في القاع، النهر قد انحسر، وابتعد عن الناس".
وتشير منظمة "الصندوق العالمي للطبيعة" (WWF) إلى أن الانخفاض الحالي لمنسوب المياه ليس بالأمر غير المعتاد في هذا الوقت من العام. والمشكلة هي أن هذا الاتجاه استمر في الزيادة على مدى العقود القليلة الماضية. ويرى الصندوق العالمي للطبيعة أن الأسباب الرئيسية هي تغير المناخ العالمي، وزيادة إزالة الغابات في حوض النهر وبناء مئات من محطات الطاقة الكهرومائية الصغيرة على العديد من أنهار جنوب شرق أوروبا، التي تغذي مياهها نهر الدانوب في النهاية.
وبين رومانيا وبلغاريا، يعاني نهر الدانوب من مشكلة خاصة، حيث لم يتم ترويض النهر بالسدود والقناطر، كما هو الحال في صربيا أو النمسا. ويشير جورجي جورجيف، الخبير في نهر الدانوب، إلى أنه يجب بناء نظام سدود وقناطر، إذا ما أريد التحكم في مستوى النهر وتحسين القدرة على الملاحة بشكل كبير.
محطات توليد الكهرباء وأزمات أخرى
لكن في المجر ومنذ نهاية الأسبوع الماضي، خففت العواصف الممطرة الوضع ولو بشكل طفيف. فبعد ظهور ما يسمى بـ"حجر الجوع" (أيضاً: صخرة الفقراء)، وهو حجر مغمور عادة بالقرب من "جسر الحرية" في العاصمة بودابست، بشكل شبه كامل يوم الأربعاء (17 أغسطس/ آب) عند مستوى مياه 63 سم، اختفى الحجر بأكمله تقريباً من جديد تحت مياه النهر، يوم الإثنين (22 أغسطس/آب) عند مستوى 92 سنتيمترات.
ووجود كمية وفيرة من المياه في نهر الدانوب مهم أيضاً لإمدادات الكهرباء في المجر، فالمياه تستخدم في تبريد كل من محطات الطاقة التقليدية ومحطة الطاقة النووية الوحيدة في البلاد. وبسبب ارتفاع درجة حرارة المياه، لم تتمكن المفاعلات في محطة "باكس" للطاقة النووية من العمل بكامل طاقتها الأسبوع الماضي. ما تسبب في فقدان للطاقة بنسبة تصل إلى حوالي 15% لكل مفاعل، وهو أمر ليس نادراً في الصيف الحار؛ لكن الطاقة النووية حالياً رخيصة جداً في المجر مقارنة بجميع مصادر الطاقة الأخرى؛ لأن أسعار الغاز والنفط المستوردين ارتفعت بشكل جنوني، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا وضعف قيمة العملة المجرية المحلية، "الفورنت".
كما أنه من المعتاد في نهاية شهر أغسطس/آب أن يرسو طابور طويل من الفنادق العائمة (السفن السياحية) على ضفة نهر الدانوب في بودابست؛ لكن في الأسابيع القليلة الماضية، لم يرسُ هناك سوى عدد قليل من الفنادق العائمة الصغيرة، التي لم تستطع مواصلة الإبحار بسبب انخفاض مستوى المياه.
وفي صربيا، تسبب انخفاض منسوب المياه بمشاكل هائلة في توليد الطاقة. ففي محطة "جرداب" للطاقة الكهرومائية، التي تولد حوالي 20% من كهرباء صربيا، يجري العمل حالياً على ما يسمى بالنظام البيولوجي الأدنى. إذ لا يتم استخدام سوى كميات قليلة من المياه ولكن أيضاً يتم إنتاج كميات قليلة فقط من الكهرباء.
أما في رومانيا، فقد كان مستوى المياه عند أدنى نقطة في منتصف النهر بين جزيرة كالينوفات وبلدة تورنو ماغوريلي الصغيرة في السادس من أغسطس/آب 2022. فبعمق 1,87 متر في منتصف النهر، انخفض المنسوب إلى الرقم القياسي تقريباً المسجل نهاية أغسطس/آب في عام 2003. فقبل 19 عاماً، انخفض منسوب المياه إلى 1,80 متر. والفرصة قائمة بقوة لكسر هذا الرقم القياسي في العام الجاري، لأن خبراء الأرصاد الجوية لا يتوقعون هطول أمطار في الأسابيع المقبلة.
للجفاف عواقب واضحة على نهر الدانوب، فقد تشكلت جزر رملية في وسط النهر. وعلى الرغم من أن الشحن النهري لم يتم إيقافه بالكامل بعد، إلا أنه صعب جداً، ولا يجرؤ قادة حوالي 70 سفينة على مواصلة رحلتهم.
وإدارة النهر في مدينة غالاتي تعمل على قدم وساق. وبمساعدة الحفارات، يتم العمل على مدار الساعة للحفاظ على الممر المائي صالحاً للملاحة، على الأقل للمراكب الخفيفة. وأي شيء آخر من شأنه أن يعرض للخطر إمداد الناس والاقتصاد بالسلع مثل الحبوب والخام (الصخور الفلزية) والفحم والوقود والغاز في كل من رومانيا والدول الأخرى المطلة على نهر الدانوب.
الخلاصة هنا هي أن ثاني أطول أنهار أوروبا وشريانها الاقتصادي الأهم يعاني بشدة من الجفاف، ولا أحد يمكنه الجزم إذا ما كانت تلك المعاناة طارئة أم أن الدانوب الأصفر، بدلاً من الدانوب الأزرق كما يعرف الآن، سيصبح الأمر الواقع الجديد.