جاء الأمر في القرآن الكريم، بأكثر من آية، باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
وملة إبراهيم هي دين الإسلام الذي دعا إليه الأنبياء والمرسلون منذ آدم- عليه السلام- إلى خاتمهم نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأصل الدين واحد، بعث الله به جميع الأنبياء والمرسلين واتفقت دعوتهم إليه وتوحدت سبيلهم عليه، وجعلهم الله وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم بذلك ودلالتهم عليه؛ لمعرفة ما ينفعهم وما يضرهم وتكميل ما يُصلحهم في معاشهم ومعادهم، بُعثوا جميعاً بالدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له وبالدعوة إلى توحيد الله والاستمساك بحبله المتين، وبُعثوا بالتعريف بالطريق الموصل إليه، وبُعثوا ببيان حالهم بعد الوصول إليه، فاتّحدت دعوتهم إلى هذه الأصول الثلاثة:
1- الدعوة إلى الله تعالى في إثبات التوحيد وتقريره وعبادة إله واحد لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، فالتوحيد هو دين العالم بأسره من آدم إلى آخر نفسٍ منفوسةٍ من هذه الأمة.
2- والتعريف بالطريق الموصّل إليه سبحانه في إثبات النبوات وما يتفرع عنها من الشرائع، من صلاة وزكاة وجهاد وغيرها، أمراً ونهياً في دائرة التكليف الخمسة: الأمر وجوباً أو استحباباً، والنهي تحريماً أو كراهة، والإباحة، وإقامة العدل والفضائل، والترغيب والترهيب.
3- والتعريف بحال الخليقة بعد الوصول إلى الله: في إثبات المعاد والإيمان باليوم الآخر والموت وما بعده من القبر ونعيمه وعذابه، والبعث بعد الموت والجنة والنار، والثواب والعقاب.
وعلى هذه الأصول الثلاثة مدار الخلق والأمر، وإن السعادة والفلاح لَموقوفان عليها لا غير، وهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب المنزّلة وبُعث به جميع الأنبياء والرسل وتلك هي الوحدة الكبرى بين الرسل والأمم، وهذا هو المقصود من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّا معاشر الأنبياء إخوة لِعلّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد.
وهو المقصود في مثل قول الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].
وهذه الأصول الكلية هي ما تضمنته عامة السور المكية في القرآن الكريم، وعندما نتأمل في القصص القرآني ندرك الحِكَم ممّا قصّه الله تعالى علينا في القرآن العظيم من قصص الأنبياء وأخبارهم مع أممهم، لأخذ العبرة والتفكر، وتثبيت أفئدة الأنبياء، وإثبات النبوة والرسالة، وجعلها موعظة وذكرى للمؤمنين، وأخبار الأمم المكذبة لرسلهم وما صارت إليه عاقبتهم وأنها سننه سبحانه فيمن أعرض سبيله، والدين بهذا الاعتبار: هو "دين الإسلام" بمعناه العام، وهو: إسلام الوجه لله، وطاعته، وعبادته وحده، والبراءة من الشرك والإيمان بالنبوات، والمبدأ والمعاد.
ولوحدة الدّين بهذا الاعتبار في دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، وَحّد الله سبحانه وتعالى {الصِّرَاطَ} و{السَّبِيلِ} في جميع آيات القرآن الكريم، وهذا الدين "دين الإسلام" بهذا، أي باعتبار: وَحْدته العامة، وتوحّد صراطه، وسبيله، وهو الذي ذكره الله في آيات من كتابه عن أنبيائه: نوح، وإبراهيم، وبنيه، ويوسف الصديق، وموسى، ودعوة نبي الله سليمان، وجواب بلقيس ملكة سبأ، وعن الحواريين، وعن سحرة فرعون، وعن فرعون حين أدركه الغرق.
ودين الإسلام بهذا الاعتبار: هو دين جميع الأنبياء والمرسلين وملّتهم، بل إن إسلام كل نبي ورسول يكون سابقاً لأمّته، وهو محل بعثته إلى أمته، وما يتبع ذلك من شريعة، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وإنما خصّ الله سبحانه نبيه إبراهيم- عليه السّلام- بأن "دين الإسلام" بهذا الاعتبار العام هو ملته في مثل قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران:95]، لوجوه:
أولها: أنه- عليه السّلام- واجه في تحقيق التوحيد، وتحطيم الشرك، ونصر الله له بذلك ما قصّ الله خبره، أمراً عظيماً.
ثانيهما: أن الله- سبحانه وتعالى- جعل في ذريته النبوة والكتاب، ولذا قيل "أبو الأنبياء"؛ ولذا قال الله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، وهو عليه السلام تمام ثمانية عشر نبياً سمّاهم الله في كتابه من ذريته وهم: ابنه إسماعيل عليه السلام، ومن ذريته: محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ وابنه إسحاق، ومن ذريته: يعقوب بن إسحاق ويوسف وأيوب وذو الكفل وموسى، وهارون وإلياس، واليسع، ويونس وداود وسليمان وزكريا، ويحيى وعيسى عليهم الصّلاة والسلام جميعاً.
ثالثها: لإبطال مزاعم اليهود والنصارى في دعواهم أنهم على ملة إبراهيم- عليه السلام- فقد كذبهم الله تعالى في قوله: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140].
وردّ الله عليهم محاجّتهم في ذلك بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران:65-67].
ثم بيّن سبحانه أن أولى الناس بإبراهيم هم الذين على ملته وسنته فقال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68]، وبيّن سبحانه مدى الضلال البعيد في جنوح أهل الكتاب إلى هذه الدعوى، وما هم فيه من الغلو والضلال، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، وبيّن سبحانه أن هذه المحاولة الكاذبة البائسة من أهل الكتاب جارية في محاولتهم مع المسلمين لإضلالهم عن دينهم ولبس الحق بالباطل.
ويجد المتأمل في كتاب الله تعالى التنبيه في كثير من الآيات إلى أن هذا القرآن ما أُنزل إلا ليجدد دين إبراهيم عليه السّلام، حتى دعاهم بالتسمية التي يكرهها اليهود والنصارى "ملة إبراهيم".
والخلاصة: أن لفظ "الإسلام" له معنيان؛ معنى عام: يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من أنبياء الله الذي بُعث فيهم فيكونون مسلمين حنفاء على ملة إبراهيم، فهم على "دين الإسلام"، ثم لمّا بعث الله نبيه عيسى عليه السلام، فإن من آمن من أهل التوراة بعيسى واتبعه فيما جاء به، فهو مسلم حنيف على ملة إبراهيم، ومن كذب منهم بعيسى- عليه السلام- فهو كافر لا يوصف بالإسلام، ثم لما بعث الله محمداً- صلّى الله عليه وسلّم- وهو خاتمهم وشريعتُه خاتمة الشرائع ورسالته خاتمة الرسالات، وهي عامة لأهل الأرض، وجب على أهل الكتابين وغيرهم اتباع شريعته وما بعثه الله به لا غيره، فمن لم يتبعه فهو كافر لا يُوصف بالإسلام ولا بأنه حنيف، ولأنه على ملة إبراهيم ولا ينفعه ما يتمسك به يهودية أو نصرانية، ولا يقبله الله منه، فبقي اسم "الإسلام" عند الإطلاق منذ بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى يرث الله الأرض ومن عليها مختصاً بمن تبعه لا غير.
وهذا هو معناه الخاص الذي لا يجوز إطلاقه على دين سواه، فكيف وما سواه دائر بين التبديل والنسخ، فإذا قال أهل الكتاب للمسلمين: {كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى}، فقد أمر الله المسلمين بأن يقولوا لهم: {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} ولا يوصف أحدٌ اليوم بأنه مسلم، ولا بأنه على ملة إبراهيم، ولا بأنه من عباد الله الحنفاء إلا إذا كان متبعاً لما بعث الله به خاتم أنبيائه ورسله محمداً صلّى الله عليه وسلّم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.