منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، واجهت موسكو الكثير من العوائق في الغرب حول دعايتها، خصوصاً فيما يتعلق بالمحتوى الإنجليزي. بيد أنّ الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للإعلام الروسي الناطق باللغة العربية، فهل نجحت روسيا في كسب الرأي العام العربي، وربحت حرب الدعاية في الشرق الأوسط؟
بداية، لماذا تحظى روسيا بتعاطف ودعم في المنطقة العربية؟
في رسالة مفتوحة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عبر قناة على شبكة تليغرام، كتب أعضاء إحدى الميليشيات العراقية: "كل انتصار روسي يمنحنا الأمل.. روسيا هي سيف الانتقام الذي يحقق العدالة لكل من عانوا من أسياد العالم، الذين نصبوا أنفسهم في هذا الموقع".
قد يبدو وجود مؤيدين للغزو الروسي لأوكرانيا أمراً غير محتمل، بل مفاجئاً للكثيرين في أوروبا والولايات المتحدة، لكن الرسالة السابقة ربما تعبر عن وجهة نظر الكثيرين في الشرق الأوسط، كما يقول تقرير لوكالة دويتشه فيله الألمانية.
وبحسب تقرير سابق لوكالة Associated Press الأمريكية، فإن الأزمة الروسية الأوكرانية أثارت بعض التعاطف مع موسكو، فمع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، ظهر في أحد أحياء العاصمة العراقية بغداد ملصقٌ عملاق يحمل صورة بوتين مع العبارة التالية: "نحن ندعم روسيا"، وذلك قبل أن تصل قوات الأمن على عجلٍ لإنزالها، وبعدها صدر التوجيه الأمني بحظر جميع العروض العامة لصور بوتين، إذ لا تستطيع الحكومة العراقية الاستغناء عن مصالحها مع واشنطن.
أما في لبنان، فقد انتقد حزب الله إدانة الحكومة اللبنانية للهجوم الروسي على أوكرانيا في الأمم المتحدة في بداية الحرب. وتُسلِّط هذه التشاحنات الضوء على الانقسامات العميقة المرتبطة بحرب أوكرانيا في الشرق الأوسط، حيث ثبّتت موسكو أقدامها كطرفٍ أساسي في السنوات الأخيرة، لتحظى بالعديد من الأصدقاء النافذين من الأطراف الحكومية وغير الحكومية، بينما تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة.
إذ إنّ النخب السياسية المتحالفة عن قرب مع الغرب تخشى تنفير روسيا أو الولايات المتحدة وأوروبا، لكن بعض القوى الأخرى لا تخشى التعبير علانية عن دعمها لروسيا ضد أوكرانيا، مثل فصائل الميليشيات الشيعية في العراق وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن.
وتُعتبر هذه الجماعات بمثابة جنود إيران على الأرض في المنطقة، حيث يمثلون معاً "محور المقاومة" المناهض للولايات المتحدة. وقد كسب بوتين دعمهم في الأساس بفضل علاقاته المقربة مع طهران وتدخله العسكري في الحرب السورية لدعم بشار الأسد.
لماذا يجذب الإعلام الروسي المتابعين العرب؟
يعلم الجميع بوجود حرب دعائية روسية تستهدف المتحدثين باللغة الإنجليزية ومع ذلك، لا يدرك معظم الغربيين أن هناك حملة دعائية باللغة العربية بالقدر نفسه، تعمل حالياً على كسب الرأي العام بشأن الغزو الروسي لأوكرانيا تقودها شبكة روسيا اليوم RT إلى جانب وسائل إعلام روسية أخرى مثل سبوتنيك وRuptly، كما يقول تقرير لوكالة دويتشه فيله.
وتقول قناة روسيا اليوم العربية إنها تقدم وجهات نظر بديلة أو غير سائدة، وربما كان هذا أحد أسباب جذب المحطة الروسية للعديد من المشاهدين العرب الذين اعتادوا على صوت واحد يصدر من وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الأنظمة العربية، إضافة لما قد يعتقدون أنها تغطيات غير متوازنة في التعامل الإعلامي الغربي مع الأحداث في منطقتهم.
ينطبق هذا التفسير لشعبية هذه القناة بين الناطقين بالعربية أيضاً على الدعاية الروسية الموجَّهة إلى جمهور الشرق الأوسط بشكل عام. وبحسب "دويتشه فيله" فإن شبكة روسيا اليوم تلقى جمهوراً متزايداً في المنطقة العربية خاصة في سوريا ومصر والعراق.
ومن الموضوعات التي تروق لمواطني الشرق الأوسط هو أن روسيا تقف "ضد التدخل الخارجي في الشؤون السيادية لدولة ما"، كما جاء في تقرير مركز جورج سي مارشال الأوروبي للدراسات الأمنية. وهو أمر ذو أهمية شديدة لبلد مثل العراق، الذي غزته الولايات المتحدة في عام 2003.
هناك موضوع شائع آخر، هو أن روسيا تفضل عالماً متعدد الأقطاب كبديل عن عالم تهيمن عليه المصالح الغربية، وأن دولاً مثل السعودية والإمارات دخلت في صراعات وتطمح إلى مزيد من النفوذ على المستوى الإقليمي، قد تفضل بشدة عالماً ذا أقطاب متعددة.
يقول ديمتري غورنبرغ، كبير الباحثين بمركز CNA الأمريكي للبحث والتطوير، إنه "على الرغم من أن روايات السياسة الخارجية الروسية مصممة لتحريف الواقع كما يرى الغرب، فإن أحد الخيوط المشتركة التي تربط هذه الروايات معاً هو أن جميعها تحتوي على جزء من الحقيقة في جوهرها".
وتعتمد روسيا على وجهات النظر الكامنة المعادية للغرب في المنطقة، إذ عانى الشرق الأوسط ومناطق أخرى مثل إفريقيا من السياسات التي تصرفت بها الولايات المتحدة حين كانت القطب الأوحد في العالم، مما أدى إلى النفور من البروباغاندا الأمريكية بشكل خاص، والغربية بشكل عام، تراكم على مدار عقود طويلة، كما يقول تقرير سابق لمجلة The Economist البريطانية.
وسائل الإعلام الروسية تحظى بشعبية كبيرة في الشرق الأوسط
وشهدت المنشورات الروسية بلغات مختلفة على مواقع التواصل الاجتماعي ارتفاعاً كبيراً في الأسابيع التي أعقبت بدء الحرب، وفقاً لتحليل أجرته منظمة آفاز Avaaz للحكم الرشيد.
ويقول مصطفى عياد، المدير التنفيذي لقسم إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا بمعهد الحوار الاستراتيجي في لندن، إنه منذ بداية الغزو الروسي، استقبل موقع "روسيا اليوم" العربي أكثر من 10 ملايين زائر؛ لتصبح واحدة من أكثر من القنوات الإخبارية الإقليمية الأكثر شعبية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأن أكثر من 600 ألف زائر وصلوا لمحتوياتها على منصات التواصل الاجتماعي خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
ويضيف عياد أن المركز "حدد 55 صفحة تستهدف الجماهير بأساليب وروايات مؤيدة للكرملين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما تم تحديد 45 صفحة إعلامية على فيسبوك يبدو أنها تعمل كمنصات دعاية باللغة العربية موالية للكرملين، وأن هذه الصفحات ساعدت في نشر الرواية الروسية من خلال إنتاج أكثر من 16 ألف مقطع فيديو حققت ملايين المشاهدات".
هل فشل الغرب في مواجهة الدعاية الروسية؟
يقول محمود الخطابي، وهو لاجئ سوري يعيش الآن في فرنسا، إن "الروس ينتصرون بالتأكيد في هذه الحرب الإعلامية، ففي سوريا، يعتقد جميع الموالين للنظام أن الولايات المتحدة تطلق الصواريخ على روسيا وأن الأخيرة تدافع عن نفسها فقط. الأشخاص المناهضون للنظام، مثلي ومثل أصدقائي، لا يفعلون ذلك، لكننا نعلم أيضاً أن الغربيين ليسوا ملائكة. وكثير من الناس في أوروبا لا يدركون حتى أن هذه الدعاية المضادة تحدث. هناك خلل شديد"، بحسب ما قال في مقابلة مع DW الألمانية.
ورغم القيود التي فرضتها منصات التواصل الاجتماعي المختلفة لتقييد حسابات وسائل الإعلام الحكومية الروسية، فإن المنشورات الصادرة من تلك الحسابات لا تزال منتشرة، خصوصاً باللغات الإسبانية والعربية وغيرها وفي أماكن خارج دول الغرب، ما يعني أن جهود التقييد لم نكن بهذه الفعالية سوى حيال اللغة الإنجليزية وداخل عدد معين من الدول.
سواء من خلال اللغة الإسبانية في أمريكا اللاتينية أو باللغة العربية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، يستمر التدفق المستمر للدعاية الروسية في محاولة لتبرير الغزو، كما تتواصل محاولات شيطنة أوكرانيا، فيما يتم التعتيم على المسؤولية الروسية عن تجاوزات ارتكبت في أوكرانيا.
وبحسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، فقد كانت نتيجة عدم القدرة على السيطرة على نشر الدعاية الروسية حدوث تباين كبير على المستوى الجغرافي والثقافي في حرب المعلومات حول أوكرانيا، الأمر الذي ساعد في تقويض الجهود التي تقودها الولايات المتحدة وأوروبا لممارسة ضغط دولي واسع على بوتين لإنهاء حربه.
تأثر الرأي العام الخليجي بالدعاية الروسية
وبمتابعة عدد من التغريدات التي كانت روسيا وأوكرانيا في القلب منها، تقول نادية عويدات، الباحثة ببرنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون، إنها لاحظت أن أغلب الحسابات التي تنشر تلك التغريدات المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية وتدعم موسكو، تأتي من حسابات خليجية، يضع بعضها أعلاماً سعودية أو إماراتية، بينما يملك آخرون ملفات شخصية يظهر فيها شخص بالزي الخليجي.
ومن غير المعلوم على وجه التحديد ما إذا كانت تلك الحسابات – التي تبدو وكأنها خليجية – هي حسابات لأشخاص حقيقيين أم أنها حسابات وهمية تدار بشكل مركزي بهدف إعطاء الانطباع بأن الخليج يدعم الغزو الروسي. لكن قد لا يكون الأمر مفاجئاً، بل إنه يبدو متسقاً مع المواقف الرسمية لكثير من حكومات دول الخليج العربية ذات العلاقات الوثيقة للغاية مع روسيا.
وتتصاعد مخاوف الباحثين والمتخصصين الغربيين في المنطقة العربية مما يمكن أن يسفر عنه نجاح البروباغندا الروسية في العالم العربي. إذ يتصاعد "تحقير" قيم الليبرالية شيئاً فشيئاً في مقابل دعم وجهة النظر الروسية بدعوى أن موسكو تقف أمام دول الغرب التي تصفها بالنفاق وازدواجية المعايير.
من جانبه، يرى ياسر عبد العزيز، المحاضر الدولي والخبير الإعلامي المصري، أن وسائل الإعلام الروسية خسرت معركة الصورة الذهنية ومعركة الإعلام أمام وسائل الإعلام الغربية في هذه الأزمة، وأضاف في حوار مع DW عربية أن "روسيا استثمرت كثيراً في حديد الصواريخ لكنها لم تستثمر في أدوات الإعلام والاتصال الفعالة والتي تحظى بالقدرة على التأثير".