استطاع المسلمون حكم بلاد الأندلس طيلة ثمانية قرون، تميزت هذه المدة الطويلة بمحطات تاريخية عديدة؛ من بين تلك المحطات معركة "جنجالة" أو ما تسمى عند المسلمين "موقعة البسيط" بالأندلس والتي وقعت سنة 1146م، ودارت رحاها بين جيش سيف الدولة وحليفه السابق الملك القشتالي ألفونسو السابع.
تعرّض فيها المسلمون إلى خسارةٍ فادحة شرّعت الأبواب أمام الممالك المسيحية للتوسع في شرق الأندلس.
سيف الدولة باعها.. حكم أسرة ابن هود لطائفة سرقسطة بوابة شرق الأندلس
خلال عهد ملوك الطوائف بالأندلس الذي أعقب فترة سقوط الدولة الأموية بالأندلس سنة 1031 م، قامت دويلات عدة استفردت بحكمها أسرٌ حاكمة. حكمت أسرة ابن هود مدينة سرقسطة أو الثغر العالي حتى سقوطها بيد الممالك المسيحية سنة 1117م.
ويعدّ أبو أيوب سليمان بن محمد بن هود الجُذامي الملقب بالمستعين بالله، أوّل حُكَّام سرقسطة من أسرة بني هود، وقبل أن يتوفى المستعين بالله، قسَّم مملكة سرقسطة بين أبنائه الخمسة، وهو الأمر الذي تسبب في قيام صراع بين الإخوة حول الملك. حسمه أبو جعفر أحمد الملقب بـ "المقتدر بالله".
وقبل وفاته أيضاً، قسّم "المقتدر بالله" المملكة بين ابنيه أبي عامر يوسف الملقب بـ"المؤتمن"، وأخيه المُنذر، اللذين تقاتلا واستعان كل منهما بملوك الممالك المسيحيّة، فصار جيش مملكة سرقسطة خليطاً بين الجند المسلمين والمسيحيين.
آخر حكام سرقسطة من أسرة بني هود كان عبد الملك بن أحمد بن هود الملقب بـ"عماد الدولة"، عندما بايعه أهل سرقسطة سنة 1109 م، كان شرطهم الرئيسي "ألا يلتبس بشيء من أمر الروم"، وتعهد لهم الأمير الجديد لسرقسطة بتحقيق رغبتهم تلك.
لكن سرعان ما سقط عماد الدولة في شراك العمالة، فتحالف مع الممالك المسيحية ورفض تسريح المسيحيين من جيشه.
هذا الأمر، دفع أهالي سرقسطة إلى الاستنجاد بالمرابطين لخلعه، فأرسلوا إلى أمير المرابطين بمراكش العلي بن يوسف بن تاشفين لتخليصهم من عماد الدولة، بعث ابن تاشفين إلى واليه على بلنسية محمد بن الحاج والي أمراً بالزحف إلى مدينة سرقسطة سنة 1110م لخلع حاكمها، ورغم تحالف عماد الدولة مع ألفونسو السابع، إلا أن المرابطين نجحوا في دخول سرقسطة وخلع أميرها.
تمكّن عماد الدولة وابنه أحمد الملقب بـ"سيف الدولة" من الفرار من سرقسطة خوفاً من المرابطين، لينتهي بذلك حكم أسرة بني هود لطائفة سرقسطة، أمّا سرقسطة فلم تطل المدة حتى سقطت في يد جيوش مملكة أراغون المسيحية.
لجأ عماد الدولة وابنه إلى حصن روطة، وعقد حلفاً مع ملك قشتالة، وفي عام 1131م سلّم سيف الدولة -بعد وفاة أبيه عماد الدولة- "حصن الروطة" آخر القلاع المتبقية في يد المسلمين بضواحي سرقسطة إلى ملك قشتالة ألفونسو.
في المقابل، منح ألفونسو السابع أراضي في الجنوب إلى سيف الدولة، في محاولة لتحويله إلى حارس حدود للممالك المسيحية المهددة من طرف المرابطين حسب ما ورد في تقرير لمجلة enredando الإسبانية. كما حضر سيف الدولة سنة 1135 م تنصيب الملك ألفونسو السابع إمبراطوراً في ليون.
ويذكر الدكتور عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس"، أن سيف الدولة كان رجلاً غامضاً، تخلى عن حصن الروطة، آخر قواعد المسلمين في سرقسطة لملك قشتالة ألفونسو، ورضي بأن يعيش في أراضي الممالك المسيحية تابعاً ومذلاً، كما أنه شارك في الثورات ضد المرابطين تنفيذاً لأوامر ملك قشتالة.
معركة جنجالة.. نهاية حكم أسرة بن هود وبداية سقوط شرق الأندلس
لم تشفع العلاقة الجيدة لسيف الدولة مع الإمبراطور ألفونسو السابع في التمتع بحكم أراضيه، في كل من "أبدة" و"بياسة"و"جيان"، التي ثارت عليه ورفضت أداء الضرائب، هناك استنجد سيف الدولة بألفونسو من أجل إخضاع تلك الأراضي.
أغارت جيوش الممالك المسيحية على تلك الجهات وسيطروا عليها، وقاموا بالتنكيل بسكانها المسلمين، وحينها لم يجد المسلمون في تلك المناطق حلاً سوى الاستنجاد بسيف الدولة، مقابل إعلان البيعة له.
طلب سيف الدولة من جيوش ألفونسو السابع أن ترفع يدها على أراضيه، فرفضوا الاستجابة له، فقرر سيف الدولة التحالف مع ابن عياض حاكم بلنسية الجديد وقائد جيوشها، الذي استدعاه لحكم مرسية.
ولم تمض سوى أيام قلائل على مقدم سيف الدولة إلى مرسية، حتى جاءت الأنباء باعتداء جيوش قشتالة على منطقة أحواز شاطبة، ومبادرة عبد الله بن سعد -أحد قادة جيوش بلنسية- لقتالهم.
أسرع ابن عياض وسيف الدولة إلى لنجدته، لتنشب واحدة من أكبر المعارك في تاريخ الأندلس هي معركة جنجالة.
ففي يوم الجمعة 5 فبراير/شباط 1146 م، التقى جيش سيف الدولة وابن عياض مع جيوش قشتالة في موضع يسمى "اللج" في ظاهر بلدة البسيط على مقربة من جنجالة، فوقعت الهزيمة على المسلمين، وقتل في الموقعة عبد الله بن سعد قائد جند بلنسية، وابن حمدين الملقب بالمستنصر والذي كان ملكاً على مرسية في السابق.
أما سيف الدولة فتم أسره في المعركة ثم قتل من طرف بعض الجند في الجيش القشتالي الذين كانوا يجهلون هويته، ولمّا علم ألفونسو السابع بخبر مقتل صديقه القديم سيف الدولة حزن كثيراً وأعلن براءته من دمه، كما شرح المؤرخ عبد الله عنان في كتابه السابق.
مُني جيش مرسية وبلنسية بخسارة فادحة في تلك المعركة، وارتدّ ابن عياض بما تبقى من جيشه إلى بلنسية، فكانت لخسارة المعركة وقع شديد على شرق الأندلس الذي بدأ في السقوط في يد مملكتي قشتالة وأرغون تدريجياً. فسقطت قرطبة سنة 1236 م، وبلنسية سنة 1237، ثم مرسية سنة 1243 م وبعدها بسنة سقط ثغر دانية، لينتهى بذلك آخر معاقل المسلمين شرق الأندلس.