بدأ وجود القوات الفرنسية في مالي بالاستعراضات الجماهيرية والصداقة عندما وصلت القوات إلى البلاد عام 2013، حيث حظيت باستقبال الأبطال المنتظر أن يحرروا شعب مالي مما يوصف بالتهديد الوجودي الجهادي، ولكن القوات الفرنسية خرجت من البلاد بشكل مخزٍ للغاية.
انتهى وجود القوات الفرنسية في مالي بهدوء بعد ظهر الإثنين 15 أغسطس/آب، حين عبرت آخر الوحدات الفرنسية المتبقية الحدود منتقلةً إلى دولة النيجر المجاورة دون أن يحققوا مهمتهم المنشودة ودون وداعٍ ودي من جانب شركائهم الماليين، الذين أصبحت فرنسا على خلافٍ كبير معهم، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
وعبرت الحدود آخر وحدات المهمة العسكرية الفرنسية، عملية برخان، في تمام الساعة الـ1 ظهراً. وقال الجيش الفرنسي في بيانه إنّ البعثة تمر بمرحلة "تحول كبير، لكنها ستواصل قتال الإرهاب" في المنطقة.
آلاف العسكريين والمدنيين قتلوا دون جدوى
وقاتلت القوات الفرنسية في مالي ضد من يوصفون بالمتطرفين الإسلامويين في مالي منذ نحو عقدٍ كامل. وأنفقت باريس مليارات الدولارات. بينما توفي آلاف المدنيين والجنود الماليين، بالإضافة إلى 59 جندياً فرنسياً.
لكن حركة التمرد لم تتوقف مطلقاً، بل انتشرت من شمالي البلاد إلى وسطها، ثم انتقلت إلى جيرانها.
وقال ألفا الهادي كوينا، المحلل الجيوسياسي المقيم في باماكو من مؤسسة Think Peace Sahel البحثية: "أصبح الوضع أسوأ من عام 2013. لقد انتشر السرطان في جميع أوصال مالي".
إذ تواصل الجماعات المسلحة جذب الشباب إلى صفوفها، رغم إعلانات فرنسا المتكررة عن مقتل قادة جهاديين، حيث يعثرون على أرض خصبة للتجنيد وسط المجتمعات المهمشة التي تعاني من مظالم ضد الدولة.
احتجاجات تؤدي إلى انقلاب مناهض لفرنسا
وفي عام 2020، تفاقم غضب الماليين على حكومتهم لفشلها في إيقاف العنف، فشهدت البلاد مجموعةً من أكبر التظاهرات في تاريخها خلال السنوات الأخيرة.
ثم نظّم جنود مالي انقلاباً عسكرياً في ذروة الاحتجاجات، وألقوا القبض على الرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا، ثم أجبروه على الاستقالة.
وتمتع المجلس العسكري منذ وصوله إلى السلطة بموجة دعم كبيرة، بينما فقد الفرنسيون حظوتهم أكثر نتيجة النظر إليهم باعتبارهم شركاء لإدارة كيتا.
قائد سابق يعترف بأن أفراد القوات الفرنسية في مالي كانوا متسلطين
في ما قال الجنرال ديديه كاسترز، النائب السابق لرئيس أركان العمليات في السنوات الأولى لعملية برخان، إن فرنسا ارتكبت بعض الأخطاء الأساسية. وتضمنت هذه الأخطاء اتباع نهج متسلط في التعامل، مما أثار حفيظة سلطات مالي وشعبها على حدٍّ سواء.
وأوضح الجنرال المتقاعد: "تصرفنا مثل الأخ الأكبر الذي يتوجه لشقيقه الأصغر ويخبره بما يجب فعله وما لا يجب فعله. وكنا نتصرف مثل العارفين بكل شيء، بينما نحاول أن نفرض عليهم بعض النماذج التي لا تلائمهم".
وأردف أن المشكلة الأخرى هي محاولة حل الأزمة متعددة الجوانب من خلال الوسائل العسكرية فقط.
والآن جنود مالي وحلفاؤهم الروس يعدمون مئات الرجال في وسط البلاد
لكن مالي تواصل تبني هذه الاستراتيجية على ما يبدو، حيث تعاقدت مع مرتزقة روس من مجموعة فاغنر الروسية، المدعومة من الكرملين، بحسب مسؤولين ودبلوماسيين. وفي مارس/آذار، أعدم جنود مالي وحلفاؤهم الروس مئات الرجال في مورا بوسط مالي، بحسب ما اكتشفه تحقيقٌ لصحيفة New York Times الأمريكية.
ولا خلاف على أن أزمة مالي تزداد تعقيداً ويصعب التمييز فيها بين المتمرد، والجهادي، والقروي العادي. ولهذا يرى كونيمبا سيديبيه، الوزير السابق في حكومة كيتا، أنها "ليست حرباً يستطيع مرتزقة فاغنر الفوز بها".
وكان يُنظر إلى تدخل القوات الفرنسية في مالي في أيامه الأولى باعتباره نجاحاً مبهراً على نطاقٍ واسع. حيث أوضح كاسترز: "ليست مالي دولة خلافة، لكن هذه الاحتمالية أصبحت شديدة الأرجحية عام 2013". وجادل كاسترز بأن فرنسا والحلفاء الأوروبيين ساعدوا مالي في تقوية قدراتها العسكرية أيضاً.
إذ تمتع جنود فرنسا بمعدات وتدريب أفضل بكثير من نظرائهم الماليين، وكانوا قادرين على تنفيذ عمليات جوية وبرية صعبة. ومشّطت وحدات النخبة سهول السافانا بالمدرعات بحثاً عن المتمردين وأسلحتهم.
لكن جنود فرنسا لم تكن لديهم خبرة كبيرة في أي دولة إفريقية عموماً، بالإضافة إلى فهمهم المحدود للتعقيدات على الأرض، وعدم امتلاكهم أي وسيلة للتواصل مع الماليين الذين ذهبوا لحمايتهم. وأمضى جنود فرنسا غالبية وقتهم داخل قواعد محمية بشدة، فبدأ الناس ينظرون إليهم باعتبارهم متعجرفين ويفتقرون للكفاءة.
ماضي فرنسا الاستعماري ما زال ماثلاً في الأذهان
ويرجع انعدام شعبية فرنسا في مالي- والعديد من دول إفريقيا- إلى ماضيها كقوةٍ استعمارية، وتدخل رؤسائها في السياسات الإفريقية بعد الاستقلال لخدمة المصالح الاقتصادية الفرنسية، من خلال نظام يُعرف باسم "فغونسافخيك" أو فرنسة إفريقيا.
وربما يتحدث مسؤولو فرنسا عن سياسة فرنسة إفريقيا باعتبارها جزءاً من الماضي، لكن مالي تعتبر هذه السياسة حيةً وقائمة، وقد أصبحت معارضتها وسيلةً أساسية للتعبئة السياسية. ولهذا رحب العديد من الماليين بخطوة طرد مالي لسفير فرنسا في العام الماضي. ولم يُعيّن أي سفير آخر في مكانه حتى اليوم.
وستدير فرنسا الآن جهودها لمكافحة الإرهاب داخل المنطقة من دولة النيجر المجاورة، بالإضافة إلى تشاد التي تضم المقر الرئيسي لعملية برخان.
الهجمات تزداد منذ انسحاب الفرنسيين
وأعلن الفرنسيون عزمهم على الرحيل في فبراير/شباط 2022، بينما زادت الهجمات منذ البدء في إغلاق القواعد القوات الفرنسية في مال وإنهاء العملية.
فيما صرح وزير حكومي سابق، رفض الكشف عن هويته مخافة الانتقام، بوجود خلايا جهادية نائمة في العاصمة باماكو تنتظر الفرصة المناسبة لتضرب ضربتها. وربما يفتح رحيل فرنسا الباب أمام مثل هذه الفرصة.
ولا شك أن انسحاب فرنسا من مالي يزيد الشكوك حول مستقبل بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في البلاد. حيث أعلنت ألمانيا في الأسبوع الماضي أنها ستنهي مشاركتها بعد مضي ثلاثة أشهر فقط على تصويتها من أجل تجديد المشاركة، يُذكر أن ألمانيا تعتبر أكبر الدول المشاركة في بعثة حفظ السلام.