حين انضم ديزموند دوس إلى الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية ورفض حمل السلاح، لم يكن يتصور أنه بعد ثلاث سنوات ونصف، سيقف في حديقة البيت الأبيض ويصافح الرئيس، ويحصل على أعلى وسام في البلاد، لشجاعته الاستثنائية في واحدة من أكثر المعارك دموية دون أن يطلق رصاصة واحدة.
وعلى الرغم من الرحلة التي مر بها ديزموند حتى يصل إلى تلك اللحظة، كانت مليئة بالتحديات، ولكن ديزموند دوس بقي متمسكاً بمبادئه ورغبته في خدمة وطنه على طريقته الخاصة دون أن يقتل أحداً، بسبب عقيدته الدينية ومعتقداته الشخصية.
ديزموند دوس يقرر الدفاع عن بلده في الحرب العالمية الثانية دون التخلي عن مبادئه
عندما هاجم اليابانيون ميناء بيرل هاربور في الحرب العالمية الثانية، شعر ديزموند دوس بالتزام أخلاقي للقتال من أجل بلاده، لكنه كان يأمل أنه من خلال الانضمام إلى الجيش كمسعف، يمكنه تجنب حمل سلاح، وقد يُسمح له بالراحة يوم السبت.
أما الراحة يوم السبت، كان سببها أن ديزموند دوس كان من طائفة "السبتيين"، وهم طائفة مسيحية يلتزمون بتعاليم الكتاب المقدس بشكل حرفي، خاصة ما يخص حفظ يوم السبت، وتقديسه كيوم راحة مخصص للعبادة، كما أنهم يمتنعون عن تناول المواد المخدرة والمنبهة.
أما سبب رفضه حمل السلاح، كان رفضه للعنف ينبع من قناعاته الشخصية إلى جانب التزامه بالتعاليم الدينية، وتجارب مر بها حين كان طفلاً، منها أنه ضرب شقيقه بحجر على رأسه وأفقده الوعي، وكاد شقيقه يفقد حياته.
والمرة الثانية، حين حدث شجار بين والده وعمه، وكاد والده يطلق النار على عمه لولا تدخّل والدة دوس، التي أعطت المسدس لدوس حتى يخفيه بعيداً، ومن يومها أقسم دوس أنه لن يلمس سلاحاً نارياً أبداً وألا يقوم بإيذاء أحد.
ديزموند دوس أشهر "مستنكف ضميري" في الحرب العالمية الثانية
في ربيع عام 1942، لم يتردد "دوس" الذهاب إلى الحرب على الرغم من أنه "مستنكف ضميري"، و"المستنكف الضميري" هو الشخص الذي يرفض حمل السلاح أو الخدمة في الجيش لأسباب أخلاقية أو دينية، في الولايات المتحدة ظهرت حالات "الاستنكاف الضميري" رداً على حالات التجنيد الإجباري؛ لأنهم اعتقدوا أن تلك الحروب لم تكن مبررة، وعادة ما كان يتم فرض خدمة بديلة في مناصب مدنية بعيدة عن الجبهات، لهؤلاء الأفراد.
خلال الحرب العالمية الثانية، تم تصنيف أكثر من 70 ألف شخص "مستنكف ضميري"، ورفض أغلبهم الخدمة العسكرية بشكل كامل، لكن 25 ألفاً منهم انضموا إلى القوات المسلحة الأمريكية، في أدوار غير قتالية مثل المسعفين والقساوسة.
وكان ديزموند دوس أحد هؤلاء الـ25 ألفاً، على الرغم من أنه شخصياً لم يكن يحب لقب "المستنكف الضميري"، في الواقع كان يعتقد أن الحرب كانت عادلة وكان يرغب في القيام بدوره، ولكن بالنسبة له كان ذلك يعني إنقاذ الأرواح، وليس قتلهم.
على الرغم من وضعه "كمستنكف ضميري"، كان على دوس الخضوع للتدريب الأساسي المعتاد، وفي الجيش، حاول الضباط إجباره على حمل السلاح لعله يستسلم وينسحب من الجيش، لأنهم شعروا أنه جبان ومضر بالجنود البقية.
وحاولوا تسريحه بسبب مرض عقلي، لكنه رفض مشيراً إلى أنه لا يمكنه الموافقة على التسريح بسبب دينه، استسلم ضباط دوس في النهاية، مدركين أن مثل هذا التسريح لن تتم الموافقة عليه أبداً على مستويات أعلى.
حاول ضابط آخر محاكمة ديزموند دوس عسكرياً، لرفضه حمل بندقية، لكن المحكمة حكمت لصالح دوس.
وفي النهاية سُمح له تجنب التدريب على الأسلحة، وحصل على تصريح لحضور الكنيسة يوم السبت، ما جعل زملاءه في المعسكر يكرهون وجوده بشكل كبير، فتعرض للمضايقات اللفظية، مع تحذيرات وتهديد بالقتل بمجرد وصولهم ساحة المعركة، وتعرض للضرب بالأحذية وغيرها من الأشياء بينما كان يصلي في الليل، لكن دوس تمسّك بإيمانه وكان جندياً مثالياً، حتى بعد أن نبذته وحدته، وتعرض للتخويف من قِبَل كل من المجندين وضباطه.
حين أثبت ديزموند دوس شجاعته للجميع
عام 1945 كانت القوات اليابانية تدافع بشراسة عن الحاجز الوحيد المتبقي "أوكيناوا وجرف مايدا" ضد قوات الحلفاء، وكان الجنود في كتيبة ديزموند يحاولون مراراً وتكراراً الاستيلاء على جرف مرتفع أطلق عليه الجنود اسم "Hacksaw Ridge".
بعد عدة محاولات استطاع الجنود الأمريكيون تسلق الجرف، لكن اليابانيون كانوا بانتظارهم، وشنوا هجوماً مضاداً، فأصدر ضباط الكتيبة الأمريكية أوامرهم بالتراجع الفوري، وهرع الجنود للتسلق إلى أسفل الجرف شديد الانحدار.
تسببت خطة الجيش الياباني انتظار وصول جميع الجنود الأمريكيين إلى قمة الجرف لفتح النار، بعدد كبير من الجرحى، الذين لم يجدوا مَن يسعفهم أو يساعدهم على الانسحاب وكان هذا يعني الموت المحقق لهم، إما بسبب الإصابة أو ربما تعرضهم للقتل على يد اليابانيين.
لكن ما لم يعلمه الجميع أن "دوس" بقي في قمة الجرف ولم ينسحب مع بقية الجنود رغم أنه كان سليماً؛ لأنه أراد إنقاذ حياة زملائه.
وسط إطلاق النار وقذائف الهاون التي لا تنتهي، عالج دوس الجنود الأمريكيين الجرحى، وحتى عندما كانت حياته في خطر، كان مصمماً على إنقاذ أكبر عدد ممكن منهم.
وحيداً هناك أمام قوة من الجيش الياباني التي كانت تطلق النار على أي شيء يتحرك، ومع تمسكه بقسمه ألا يحمل سلاحاً وإصراره على إنقاذ حياة الآخرين، زحف دوس وسط الطين وبرك المياه وفي الحفر التي سببتها القذائف.
وساعة بعد ساعة، مع دوي الانفجارات باستمرار وأزيز الرصاص، قام بتضميد عدد لا يحصى من المصابين، واستمر دوس بالزحف، حتى سحب كل جندي مصاب في كتيبته إلى حافة الجرف ثم ربطهم بالحبل وأنزلهم واحداً تلو الآخر.
ولأكثر من 12 ساعة تحت إطلاق النار أنقذ "ديزموند دوس" حياة 75 من رفاقه بأعجوبة، ولم يستطِع أحد أن يصدق أن ذلك الفتى الهزيل المسالم الذي رفض حتى حمل السلاح، يمتلك كل تلك الشجاعة والإصرار.
بعد أسبوعين، خاض ديزموند دوس معركة أخرى على بُعد أميال قليلة من الجرف، فسقطت قنبلة يدوية في حفرة كان يعالج فيها مرضاه، فحاول ركل القنبلة لكنها انفجرت، وانتهى الأمر بإصابة دوس بجروح عميقة من الشظايا في جميع أنحاء ساقيه.
عالج نفسه من الإصابة وضمد جراحه، وبعدها وصل شخص ما ومعه نقالة لحمل دوس بعيداً، لكن عندما رأى دوس جندياً مصاباً تدحرج عن النقالة، وبدأ يعالجه، ورفض المغادرة حتى إجلاء الجميع.
وبينما كان دوس ينتظر وصول المزيد من المساعدة، أطلق قناص ياباني النار فجأة وكسر كل عظام ذراع دوس اليسرى، ثم زحف دوس 275 متراً إلى نقطة الإسعاف دون مرافقة.
وبعد تلك المعارك، تم تكريم ديزموند دوس بأعلى أوسمة الشجاعة من قِبل الرئيس الأمريكي وعدة أوسمة أخرى حين شارك في معارك أخرى قام فيها في أعمال بطولية مشابهة.
وقبل تسريحه من الجيش عام 1946، أصيب ديزموند بالسل، وقضى بعدها 6 سنوات في المستشفيات، بسبب الليالي الباردة الرطبة بلا نوم في حفر موحلة، ومع تفاقم المرض، كان لا بدَّ من استئصال رئته اليسرى جراحياً مع خمسة ضلوع.
وبقي على قيد الحياة طوال حياته على رئة واحدة، حتى فشلت أيضاً، عن عمر يناهز 87 عاماً، وتوفي العريف "ديزموند دوس" في 23 مارس/آذار 2006، بعد دخوله المستشفى لصعوبة التنفس.